أدهشتنى تصريحات وزير التموين الأخيرة التى قال فيها إن مصر لا تسعى للاكتفاء الذاتى من القمح، ولا يجب أن تحقق مثل ذلك الاكتفاء، مؤكدا أن الدول المنتجة للقمح تلهث وراء مصر وتخطب ودها لشرائه، مشدداً على أن المفهوم السائد بخطورة شراء القمح من الموروثات القديمة. وما أدهشنى فى تصريحات الوزير أمور ثلاثة، أولها أننى تصورت أن الوزراء يراجعون ملفات وزاراتهم فى السنوات الخمس الأخيرة على الأقل. فلو أن وزير التموين راجع ما حدث خلال السنوات الأخيرة لأدرك أننا قد سمعنا تصريحاته تلك نفسها من وزير تولى نفس منصبه فى أواخر عهد مبارك، وردد الكلام نفسه وقتها رموز مهمة، ثم ما هى إلا شهور قليلة وانفجرت أزمة القمح الروسى فى وجوهنا، فمسحوا جميعا ما قالوه وراحوا يعلنون أن مصر تسعى جادة للاكتفاء الذاتى من القمح!
ثانى ما أدهشنى هو أن الوزير ردد اليوم الأطروحات نفسها التى قيلت وقتها، والتى لا تصمد أمام التحليل الجاد. فكون الدول تلهث وراءنا من أجل أن نشترى القمح منها ليس معناه مطلقا أننا حققنا أمننا الغذائى، ولا أننا نملك قرار غذائنا. فحين تتعرض تلك الدول، أو محصولها، كما حدث للقمح الروسى، لعدم الاستقرار، يتهدد أمننا الغذائى دون سابق إنذار. وحين تلهث الدول وراءنا فإن هذا معناه أنها هى، لا نحن، صاحبة القرار. فمثلما تلهث اليوم لتبيع بإمكانها غدا الامتناع عن البيع إذا ما حدث خلاف أو تباينت المصالح. وقد ذكر الوزير رقعة الأرض الممكن زراعتها بمحاصيل بدلا من القمح، أى فكرة «المزية النسبية»، المقصود بها زراعة محاصيل تتميز بها مصر، فتدر عليها ربحا. لكن تلك النظرية التجارية عليها تحفظات شتى خصوصا إذا ما كانت تلك المحاصيل تُزرع بدلا من تحقيق الاكتفاء الذاتى من القمح. وما يهمنى فى حالة مصر، وإلى جانب تجربتنا مع أزمة القمح الروسى، أن القمح الأمريكى له هو الآخر قصة لابد من الانتباه لها. فالقمح الأمريكى الذى نستورده بناء على نظرية «لا يجب الاكتفاء الذاتى» نفسها لأن استيراده أرخص من إنتاجه محليا أسطورة كبرى تتجاهل التكلفة الكلية للاقتصاد المصرى.
فالمزارع الأمريكى مدعوم دعما مذهلا من جانب حكومته. أما مصر، فهى لا تدعم مزارعيها فى إنتاج محاصيل «المزية النسبية»، ولا هى، بالتالى، تخلق وظائف جديدة، فى الوقت الذى يتعامل فيه لوبى مزارعى القمح الأمريكى مباشرة مع الحكومة المصرية فى إطار «اللهاث» من أجل بيع القمح المدعوم حكوميا الذى يخلق مئات الآلاف من الوظائف فى أمريكا!، الأمر الذى يعنى أننا لسنا فقط إزاء أسطورة وإنما إزاء تجارة ذات شروط مجحفة.
أما ثالث المدهشات فى تصريحات الوزير فكان ما ذكره من أن مفهوم خطورة شراء القمح من «الموروثات القديمة». وما يقصده الوزير على ما يبدو هو أن فكرة الاكتفاء الذاتى من الموروثات القديمة.
عفوا، سيادة الوزير، فالجديد فى تعريف الأمن القومى يشمل كل ما يتعلق باستقلال الدولة وكرامة مواطنيها. والأمن الغذائى، فى تقديرى، يظل فى القلب من استقلال الدولة، الأمر الذى يجعله قضية أمن قومى بالدرجة الأولى، قديما وحديثا ومستقبلا.