حجاج أدول يكتب: حسرة الأصدقاء الثلاثة

كتب: اخبار الأربعاء 09-04-2014 22:26

الثلاثة يهبطون من الأعالى. أعينهم مبتسمة وهى تنظر لأسفل تتعجل الوصول. ينظرون لبعضهم البعض فى رضا، فأخيراً وافق على نزولهم ليُرضِى اشتياقهم وفضولهم.

يقتربون من الأرض الكروية البعيدة، يرونها بلهفتهم. زرقتها اللدنة وسحبها البيضاء الندية التى تغلفها، ثم معاً مندفعين ورؤوسهم تتقدمهم يخترقون حاجزها الهوائى، فتنتعش قلوبهم وتتحَدَّد أجسادهم، فيتنفسون ويبتسمون وهم يعيدون النظر كل إلى زميليه. على الطرف الأيمن أقواهم جسداً، وفى الوسط أوسطهم، وفى اليسار أرقهم وأنحفهم.

بدلاً من نزولهم العمودى صاروا بكامل واجهة أجسامهم يقتربون. جلابيبهم البيضاء الناصعة الواسعة تهفهف لتخفف من سرعة هبوطهم إلى الأرض. شعرهم السبط الطويل يتطاير، ولحاهم القصيرة تلتصق بوجوههم الراضية عن تاريخ طيب زرعوه.

الأرض تدور أسفلهم وهم يبحثون. اتسعت ابتساماتهم. البحر الوسيط وفى شطه الجنوبى تل ومدينة صغيرة عتيقة هى ما يبتغون. هنا جماع أسفارهم وترانيمهم وتراتيلهم المستوحاة منه هو، فلم ولن تنس المدينة التليدة أحداً منهم.

آه.. سمح لهم بالنزول ورؤية ما يكون من بَعد أن كانوا وأوصلوا رسالته، ثم رحلوا إليه منذ آماد طويلة. هنا الجدران المقدسة العتيقة. التلال والمنخفضات والمبانى وكل منها تحمل الذكرى والرِضَى. هنا بقايا المعبد الذى كان وعاد له البوق، وهنا وُلد الأرق الأنحف وما زال جرسه يرن، وهنا الصخرة وفيها المنادى يُنادى أى تعالوا إلى من أرسلنى.

أرادوا فأبطأت أجسادهم فى الهبوط، تمعنوا فاختاروا الميدان المترب الدقيق. لامست أرجلهم الأرض من بعد اشتياق فنظروا لبعضهم فرحين ومازالت أياديهم ممسكة ببعضها البعض فى تآخيهم المعهود. نظروا حولهم.. اختلافات. الميدان كان هيئة واحدة فانقسم! مبان غريبة مغلقة وجدران عالية مصمتة ليست بها شرفات ولا نوافذ، فقط كُوات ضيقة داكنة!

لم يروا زهور شقائق النعمان ولا أشجار الزيتون ولا أوراق الغار. قلق يسود ويُحس وتَعَبُ وجدانى. شعروا باشتعال الحرارة وطعم التراب والرطوبة اللزجة. عرق يسيل على القفا والعنق وتحت الإبط. اندهشوا.. وقبل أن يفكروا: لِمَ؟ انطلقت عليهم من النواصى الثلاث زخات حديد ورصاص خلفها نار فاخترقت أجسادهم فانبثق الألم. وحين تراخوا ممسكين ببعضهم البعض ساقطين أرضاً.. من وافق على نزولهم أمر.. فارتفعت أجسادهم لأعلى وهى تعود لما كانت عليه قبل اختراقها، لكن عقولهم لم تعد كما كانت. فهمت لِمَ لَمْ يوافق أولاً على نزولهم رغم إلحاحهم عليه! وعندما اخترقوا الحاجز الهوائى صاعدين، والتفوا ليعطوا ظهورهم للكرة الحمراء المتربة، وصارت وجوههم لأعلى حيث هو، شعروا بابتسامة أسى تلفحهم فازدادوا حسرة.

روائى وقاص

صدر له:

ليالى المسك العتيقة، بكّات الدم، ناس النهر، معتوق الخير، الكشر.