هدى عبد الناصر تكتب عن «والدها» و«أيزنهاور»

هدى جمال عبدالناصر الخميس 16-01-2014 20:24

يمكن القول إن أبرز محاور العلاقات المصرية - الأمريكية مرت بالمحطات التالية:

أولا: محاولات أيزنهاور للاقتراب من عبدالناصر:

مع بوادر الأزمة بين عبدالناصر وخروشوف، أرسل أيزنهاور مبعوثا إلى منطقة الشرق الأوسط فى أوائل أغسطس 1959 هو روبرت مورفى، وقابل عبدالناصر، فوجده غاضبا من الموقف الأمريكى إزاء أزمة احتلال لبنان والأردن!

وقد حاول مورفى أن يوضح أن زيارته للقاهرة هى دليل على رغبة أيزنهاور ودالاس فى العمل بالتعاون مع «ج. ع. م» لحل مشاكل الشرق الأوسط، إلا أن «ناصر» أكد أنه بالنسبة إليه، تظل إسرائيل هى لب المشاكل فى علاقة الولايات المتحدة مع العالم العربى.

وعندما سأل مورفى: هل القومية العربية لها حدود جغرافية نهائية؟! أجابه «ناصر» بأنه ليس لديه طموحات ليرأس إمبراطورية متسعة! وأن «ج. ع. م» لا تضغط على الدول العربية الأخرى للانضمام للوحدة العربية. إن السبب الأساسى للوحدة العربية هو الرغبة فى تحقيق الأمن الجماعى، فإنه من الصعب على الدول العربية الصغيرة أن تقف وحدها، فمصر دولة ضعيفة، وسلامتها تكمن فى الوحدة العربية.

وبخصوص تحسين العلاقات بين «ج. ع. م» والولايات المتحدة- الذى سعى إليه أيزنهاور- قال عبدالناصر: «إن الصعوبة الملحة أن نعرف ماذا تريد الولايات المتحدة حقيقة فى المنطقة. إنها تتكلم دائما عن السلام والاستقرار، ولكن ماذا تقصد حقا؟!» هنا رد «مورفى»: «لا نريد سيطرة سوفيتية».

انطلق «ناصر» محللا السياسة الأمريكية التى هدفت إلى التقسيم بين الدول العربية، وكيف أنها كانت ضد مصلحة أمريكا ذاتها! ولمزيد من التحديد، فإن علاقات «ج. ع. م» مع الولايات المتحدة كانت مبشرة بالخير، إلى أن ساندت حلف بغداد الذى كان يعادى سياسة الدفاع الجماعى للمنطقة، والذى اعتبرته مصر أساسيا، حتى تتمكن الدول العربية من أن تلعب دورا دوليا فعالا، مبنيا على الكرامة والمساواة. وفى هذا الإطار رأى عبدالناصر أن أى حلف بقيادة دولة كبرى هو نوع من السياسة الهدامة.

وكان من رأيه أنه- وإن أدت أحداث خريف 1956 إلى تحسين العلاقات مع الولايات المتحدة لعدة أشهر- أن ذلك انتهى بمبدأ أيزنهاور، الذى أعلن فى بداية 1957، ونظرت إليه مصر على أنه صُمم ليعزلها!

أما بالنسبة للأزمة الأخيرة فى المنطقة، فقد أشار عبدالناصر إلى أن أسباب الصراع بين «ج. ع. م» والولايات المتحدة قد تكون نتيجة للثورة العراقية، والأزمة اللبنانية. ولكن المشكلة الإسرائيلية تظل قائمة.

وقد اتخذت الحكومة الأمريكية إجراءات عملية لتحسين العلاقات مع «ج. ع. م»، أهمها منح مساعدات اقتصادية وعسكرية بموافقة أيزنهاور.

واستمر الإصرار الأمريكى على تحسين العلاقات مع «ج. ع. م» فأرسل أيزنهاور ويليام راونترى، وكيل وزارة الخارجية الأمريكية المساعد لشؤون الشرق الأوسط، لمقابلة عبدالناصر فى القاهرة، 14 ديسمبر 1958، وفاتحه فى الرغبة الصادقة للحكومة الأمريكية لتحسين العلاقات بين البلدين.

وأثناء اللقاء، رجع عبدالناصر إلى الفترة المبكرة من ثورة 23 يوليو 1952، حين كان الضباط الأحرار لديهم توقعات كبرى بالنسبة للولايات المتحدة! وهى- وإن أقر بالاعتراف بالجميل فى بعض الفترات، عندما تلاقت المصالح بين الدولتين- أن التدهور التدريجى بدأ بطريقة أدت إلى الاعتقاد بأن الولايات المتحدة هى أساسا معادية للجمهورية العربية المتحدة، وأنه شخصيا بدأ ينظر بالشك لدوافع السياسة الأمريكية!

وفيما يتعلق بالشيوعيين فى مصر، قال عبدالناصر: إنه فى بداية حياته العملية اتصل به الشيوعيون الذين رغبوا فى أن يستخدموه لاختراق الضباط الأحرار! وفى ذلك الوقت درس كل الكتب حول الموضوع، ولكنه قرر أن الشيوعية ليست له، لأنه يعتز بدينه، ولا يستسيغ العنف، ولم يرغب فى أن يرى الشعب المصرى يتحرر من شكل من العبودية لكى يستبدله بآخر!

وذكر عبدالناصر أنه ظل ثابتا على مبادئ محددة منذ تولى نظامه، وهى: الاستقلال، الكرامة، القومية العربية. وإن فكرة الوحدة لا تحتم بالضرورة الوحدة السياسية، فهذه ممكن أن تحدث فقط عندما يتوفر الإجماع فى الرأى بين الشعوب، ولكنها ليست أساسية. إن ما هو ضرورى أن يكون هناك تضامن عربى.

وكان تعليق راونترى على مقابلته مع ناصر أنه يظهر قلقا حقيقيا بخصوص الاختراق الشيوعى فى الشرق الأوسط، كما أنه قدر لأيزنهاور تجاوبه معه بخصوص إرسال شحنة القمح بعد 24 ساعة من طلبه لها، موضحا أنه يريد أن يعمل مع الولايات المتحدة بخصوص العراق، فهو قلق من النفوذ الشيوعى مع قاسم.

وقد اقترح راونترى لأيزنهاور أن تعمل الحكومة الأمريكية مع «ناصر» بخصوص الموقف العراقى، وأن يرسل تليغرافا إلى «ناصر» يشكره، ويوضح أنه نقل حديثه إلى أيزنهاور.

وجرى الحوار الآتى بينه وبين راونترى:

- أيزنهاور: هل كلام «ناصر» تضمن أنه فى لقاء هذا التعاون، سيحدد ثمنا فى صورة عمل ضد إسرائيل؟

- راونترى: لقد ذكر «ناصر» ذلك عدة مرات كمشكلة خطيرة، ولكنه وضعها جانبا دون أن يقترح إجراء محدد.

- أيزنهاور: إذا لم يكن وجود إسرائيل، كان من الممكن أن نعمل مع ناصر، فهو يستطيع أن يعارض الشيوعيين أكثر من الولايات المتحدة، فى الصراع الدائر فى الشرق الأوسط. إن إسرائيل متململة بلا شك، إزاء موقف نقدم فيه مساعدة مفتوحة لـ«ناصر»، ولكنى أشعر بأنه ممكن عمل شىء، إذا وافق «ناصر» على تجاهل المشكلة الإسرائيلية.

ولقد صاحب محاولات الحكومة الأمريكية للتقارب مع «ناصر» إدراك أنه مازال يشعر بمشكلة أساسية فى العلاقات مع الولايات المتحدة، وهى انعدام الثقة بأنهم لن يستغلوا المشكلة مع الشيوعيين، ويطعنوه فى الظهر!

وهنا يظهر عامل مهم، وهو ليس فقط ما تفعله الولايات المتحدة، ولكن ما يقوم به حلفاؤها البريطانيون والفرنسيون!

وفى النهاية، اقترح عبدالناصر أن أحسن شىء سيكون نسيان الماضى، وفتح صفحة جديدة.

إذن هذه الفترة شهدت تلاقى إرادتى عبدالناصر وأيزنهاور فى العمل سويا فى الشرق الأوسط، وبداية مرحلة جديدة فى التعاون بين البلدين أساسا ضد الشيوعية، وإن نبه «ناصر» إلى علاقة الصداقة التى تربط «ج. ع. م» بالاتحاد السوفيتى، وأنها لا تمنع هذا التعاون.

ثانيا: الولايات المتحدة تساند عبدالناصر:

بعد عدة أشهر من تغيير سياسة الولايات المتحدة تجاه عبدالناصر، بغية تحسينها، وبعد أن تفاقمت الأزمة بينه وبين خروشوف، قامت الحكومة الأمريكية بإعادة تقدير للموقف- أدركت فيه أن «ناصر» له مبادئ ثابتة لا يغيرها.

لقد كان «ناصر» فى الماضى يعارض الشيوعية من حيث المبدأ، لأنها لا دينية وهدامة، ولكنه كان دائما يعمل على أنه يجب التفرقة بين السياسة السوفيتية والحركة الشيوعية. ومع ذلك فهو دائما كان يرى أنه إذا غير السوفييت من سياسة عدم التدخل فى الشؤون الداخلية للعرب، فإنه سيهاجمهم بقوة، كما كان يهاجم الغرب بسبب الاستعمار.

أما وقد فعل السوفييت ما توقع «ناصر» أنهم لن يفعلوه، حافظ «ناصر» على كلمته، بل ذهب أبعد من هجومه الماضى على الغرب! أى أنه قام بنفسه بمسؤولية الحملة على الشيوعية، بينما كان هجومه على الغرب يقوم به آخرون، خاصة فى الصحافة والإذاعة.

وأدركت الحكومة الأمريكية أن «ناصر» سدد ضربات قوية للشيوعيين والسوفييت، لا يستطع الغرب أن يضاهيها، وإن كان الدافع مختلفا وأكثر تعقيدا، لكنه لا يبعد عن حقيقة أن الغرب تلقى مساعدة غير متوقعة لكشف الشيوعية.

وتدارك صانعو السياسة الأمريكية أن الغرب كان مخطئا فى تقييم النظام فى مصر، بالحكم عليه، طبقا لمقياس التعاون الكامل مع الغرب، بينما كان يجب أن يكون تبعا للحياد الحقيقى.

وبعد مرور حوالى سنة على بداية سياسة عودة العلاقات بين الولايات المتحدة و«ج. ع. م» إلى طبيعتها، وخلق الثقة بأن الأمريكيين مخلصون، وأنهم لن يستغلوا عبدالناصر فى حالة أن يجد نفسه فى مشاكل نتيجة وقوفه فى مواجهة الشيوعيين أو السوفييت- اقترح إدموند هير، السفير الأمريكى فى القاهرة، تقديم مساعدات اقتصادية إلى «ج. ع. م».

وفى الوقت نفسه، جرى التفكير فى إرسال رسالة سرية لـ«ناصر» من الرئيس الأمريكى. إنه يعلن أنه يرغب فى أن يحارب هذه المعركة وحده، ولكن رُؤى أن كلمة الطمأنة من أيزنهاور فى هذا الوقت مهمة، على أن تكون الرسالة مركزة ضد الشيوعية، وممكن أن تكون بداية فى صورة شفوية.

وعلى الفور، بدأ التحرك فى الحكومة الأمريكية، لإيجاد الوسائل لتطبيق السياسة الجديدة.

وطُلب من إدموندهير أن يبلغ «ناصر» أن موقفه الصُّلب الذى لا يقبل المساومة حول قضية الشيوعية، قد تم الترحيب به على أعلى المستويات فى حكومة الولايات المتحدة، وأنها ستبدأ فى تقديم المساعدات إلى «ج. ع. م».

جرى الاتصال مع عبدالناصر، ونقل إليه ما سبق، فأوضح أنه لم يطلب مساعدة الولايات المتحدة، وأنه يستطيع أن يواجه مشاكله الاقتصادية دون مساعدة خارجية، وأن لديه خططا لمواجهة الموقف، إذا سحب السوفييت المعونة.

ثالثا: عبدالناصر يقابل أيزنهاور فى الأمم المتحدة:

فى إطار تسارع هذه الأحداث، جرت المقابلة عندما ذهب عبدالناصر إلى نيويورك ليلقى خطابا أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة فى سبتمبر 1960، وكانت تلك فرصة للقاء أيزنهاور والتحدث معه وجها لوجه. (نص المقابلة على موقع www.nasser.org).

لقد بدأ الحوار بينهما بإشارة أيزنهاور إلى أنه فقط، من خلال الأمم المتحدة، يستطيع العالم أن يتقدم، وأنه عندما تحاول دولة- ولو كانت عظمى- أن تعطى مساعدة ثنائية، فإنها تواجه بتهمة الإمبريالية والاستعمار الاقتصادى، ولذلك فإنه من الأفضل أن تتعامل من خلال الأمم المتحدة.

تكلم عبدالناصر «بثقة»: إنه يجب أن يبدأ بشكر الولايات المتحدة على مساعدتها الكبيرة أثناء عدوان 1956 ضد بلده، وأعرب عن موافقته بشدة على أنه يجب المحافظة على الأمم المتحدة، خاصة أن مصر لها تجربة معها، فهى لم تنه العدوان فقط، ولكنها أجبرت المعتدين على الانسحاب.

ولكن «ج. ع. م» دهشت لاحتلال قوات الأمم المتحدة مطار ليوبولدفيل ومحطة الإذاعة فى الكونغو! وتلك تصرفات بدت أنها اتُّخذت ضد لومومبا! وقد عارضت مصر ذلك، لأنها شعرت بأن تلك التصرفات تهدد مكانة المنظمة الدولية، فإن قوات الأمم المتحدة قد ذهبت أصلا إلى الكونغو لتخرج القوات البلجيكية!

وشرح عبدالناصر موقفه من الأمم المتحدة بعد أحداث 1948، وكيف أنه كان متشككا فيها. لقد قضى أشهرا فى النجف بفلسطين؛ لأن الحكومة المصرية وثقت بالأمم المتحدة، ثم خاب أملها! ومع ذلك فقد أكد أنه مر بتجربة أحسن من جانب الأمم المتحدة فى 1956.

وأعرب لأيزنهاور عن أنه شعر بأن قوات الأمم المتحدة فى الكونغو كان لا ينبغى أن يُسمح لها باتخاذ عمل يعوق الحكومة الشرعية هناك. ثم قال «نحن لا يمكن أن ننسى أبدا أن الأمم المتحدة لم تطبق قراراتها فيما يتعلق بإسرائيل»!

رد أيزنهاور بأنه بالنسبة لفلسطين فى 1948، لم تكن الأمم المتحدة تملك سلطة كافية لتفرض القرارات. وإنه وإن كان يفهم بعض المرارة لدى «ج. ع. م» تجاه الأمم المتحدة، إلا أن الولايات المتحدة تحاول دائما أن تحسن، وتقوى هذه المنظمة الدولية.

أما عن الكونغو، فهى عملية تخرج عن الحد، فلقد كانت وظيفة الأمم المتحدة الأولى أن تحقق القانون والنظام.

وبالنسبة لأزمة السويس سنة 1956، ذكر أيزنهاور أنه بالرغم من الانتخابات الأمريكية، و«الصوت اليهودى»، فقد أعطى كل المساندة إلى الأمم المتحدة، لتحقيق انسحاب قوات بريطانيا وفرنسا وإسرائيل، إن ذلك لم يكن بالأمر السهل، ولكنه كان يساند المبدأ، ويعتقد أن ذلك يجب أن يحدث أيضا فى الكونغو.

وقال «ناصر»: إنه فى 1948 أيدت الولايات المتحدة إنشاء إسرائيل، وكان ذلك هو الحاجز الأول بين الولايات المتحدة والشعب العربى. إن شعوب الشرق الأوسط تضع على عاتق الولايات المتحدة مسؤولية كبرى، وفى الكونغو لا تستطيع الولايات المتحدة أن تهرب من المسؤولية، لأن الناس البسطاء يرون الولايات المتحدة والأمم المتحدة كشىء واحد.

إن أفريقيا تتحرك بسرعة، و«ج. ع. م» بكل تأكيد لا تريد أن ترى الحرب الباردة تنقل إلى أفريقيا.

وقد أكد أيزنهاور أن الولايات المتحدة لن تتدخل من جانب واحد، وأنها تريد أن تساعد فى الكونغو وفى أفريقيا بصفة عامة، ولها برنامج اقتصادى، ولا تريد أن تسيطر على أحد.

وقال عبدالناصر إنه منذ تولى السلطة فى 1952 كان يتطلع إلى علاقات جيدة مع الولايات المتحدة، وإنه حاول بشدة ولكن الحائل الأساسى ظل دائما إسرائيل! لقد كان يريد أن يشترى سلاحا، ولكنه لم يستطع أن يحصل عليه من الغرب. وفى الوقت نفسه تلقت إسرائيل أسلحة منه (طائرات من فرنسا، ودبابات من بريطانيا، وبنادق من الولايات المتحدة) وهذا يهدد «ج. ع. م».

ولقد كان هناك رد فعل حاد فى مصر لبيانات نيكسون وكينيدى، التى قالت بفتح قناة السويس للسفن الإسرائيلية، ولكن ماذا عن باقى قرارات الأمم المتحدة؟!

وإذا كانت الولايات المتحدة تريد أن تقول إن قناة السويس يجب أن تفتح للسفن الإسرائيلية، فهى يجب أن تحاول بالقوة نفسها، لتجعل إسرائيل تطبق القرارات التى تعوقها.

وهنا أشار أيزنهاور إلى أن الولايات المتحدة تعبت من وضع 23 مليون دولار كل سنة، لتحافظ على حياة مليون لاجئ عربى، دون أى تقدم فى اتجاه تحقيق تسوية.

وأضاف أيزنهاور أنه لا يريد أن يرى سباقا للتسلح فى الشرق الأوسط. وأنه يحترم موقف «ج. ع. م» الحيادى، ولا يوجد اعتراض أن تتلقى «ج. ع. م» الأسلحة السوفيتية، ولكن الولايات المتحدة لا تريد أن ترى «ج. ع. م» وقد سيطر عليها السوفييت!

وتطرق «ناصر» إلى موضوع إرسال القمح لمصر بامتنان، إلا أنه لا يحب المناقشات التى تتناول هل هو منحة أم لا؟ وبأى شروط؟ فإن ذلك ضد الكرامة المصرية.

وقد أظهر أيزنهاور تطلعا لعلاقات أفضل مع «ج. ع. م»، فالولايات المتحدة دائما تشك عندما يصل السوفييت إلى بلد!

وعلق «ناصر» أن «ج. ع. م» لن تقبل أى ثمن لحريتها واستقلالها، وفى أوقات كانت علاقاتها سيئة مع الشرق والغرب، ولكنه لن يستسلم، عندما تكون حرية واستقلال بلده فى المحك. إنه يريد أن يحافظ على كرامتها، ولقد مُست كرامة مصر عندما قامت واشنطن فجأة بسحب عرضها لتمويل السد العالى.

اعترض أيزنهاور قائلا: إن العرض سُحب بعد أن وصلتهم المعلومات بأن «ج. ع. م» تتفاوض مع الاتحاد السوفيتى حول السد العالى.

وبخصوص الأردن، قال «ناصر»: منذ 1957 والأردنيون يدعون باستمرار أن «ج. ع. م» تتآمر مع الاتحاد السوفيتى ضدهم! بينما كانت «ج. ع. م» دائما فى موقف المدافع، وليس لها عملاء فى لبنان أو سوريا أو العراق. كل ما هنالك أنه يوجد فى هذه الدول أناس يشاركونه فى أفكاره، وهو لا يعلم من هم، ولكنهم يثقون به وفى الوحدة العربية.

وهنا قال أيزنهاور: إن الذى لا يفهمه: لماذا تهاجم أضعف وأفقر دولة عربية «ج. ع. م»؟! إن ذلك لا يعقل!

تدخل «ناصر»: إن ذلك كله عامل نفسى وشخصى!

وبعد رجوعه من الولايات المتحدة فى 5 أكتوبر1960، قال «ناصر» فى خطاب له فى بورسعيد فى 23 ديسمبر 1960: إنه يشعر بخيبة الأمل أن الأمم المتحدة سمحت لنفسها أن تُستخدم بواسطة القوى الاستعمارية الكبرى، فتنفذ سياستها التى تؤيد الإطاحة بالنظام الوطنى، وتجعل من لومومبا درسا لكل القارة الأفريقية! ولذلك فإن أى سياسى سيتردد فى طلب مساعدة الأمم المتحدة، لأنه يعلم أنها تلعب لعبة الاستعمار! وإدارتها مسؤولة عما يحدث فى الكونغو، وتحتاج إلى تغيير، وإلا فإن خضوع المنظمة الدولية للاستعمار سيقود إلى انهيارها.

وإن «ج. ع. م» عندما تكافح من أجل أهدافها فى الكونغو حتى تحمى العناصر الوطنية هناك، فإنها فى نفس الوقت تعمل لحماية الأمم المتحدة، كمنظمة عالمية تستحق الاحترام.

وكان التعليق الأمريكى على كلام «ناصر» أن الولايات المتحدة لم تتعرض لمثل هذا الهجوم الحاد منذ مدة طويلة! والخطاب يعكس الغضب بسبب سياسة الولايات المتحدة، التى أصحبت متعارضة مع أهداف «ناصر» فى الكونغو، ومستمرة- فى نفس الوقت- فى تأييد الفرنسيين فى الجزائر.

وفى الواقع، فإن «ناصر» صُدم عندما أعلنت الولايات المتحدة أنها تؤيد كازافوبو الذى ألقى القبض على لومومبا – 17 يناير 1961- وسلمه لتشومبى الذى قتله! واعتبر «ناصر» أن الولايات المتحدة تُلام على ذلك، وتتحمل مسؤولية كبرى إزاء هذه الجريمة.

إن درس التاريخ هو أن المحك فى العلاقات بين الدول الصغرى والكبرى أن تتمسك الأولى بكرامتها وبمبادئها، وأن تقبل الثانية علاقة الند للند!