فى الحلقة السابقة من مذكرات المفكر الراحل جمال البنا، تحدث عن جرعات «الكوكايين»، التى حصلت جماعة الإخوان من خلالها على السلاح فى الأربعينيات، وتفاصيل جنازة شقيقه حسن البنا، التى لم يحضرها سوى نساء العائلة، وسرد فيها مشاعر حزن والده ووالدته على اغتيال شقيقه، وزيارات والدته اليومية الليلية لقبره، حتى آخر يوم فى عمرها.
حديث خلف القضبان.. عن «مصير الجماعة»
جذبنى إليه هدؤه، وطيبته، وحسن حديثه ومعرفته، التى لم يبخل بها على أحد قصده، كان الرجل يتعلم العلم لينقله، ويعلمه لآخرين، وفى بداية مجالستى المفكر الكبير جمال البنا لتسجيل وتدوين تلك الحلقة، قابلنى بوجه يملؤه السرور، فسألته عن سبب ذلك، فقال لى: «لقد عثرت على جزء من ذكريات لى، كنت كتبتها أثناء اعتقالى فى سجن الطور، وشرعت فى تناولها بكتاب، قبل أن أفقده، ومنذ أيام عثرت على جزء منها، ولدى رغبة شديدة فى ضمها لمذكراتى»، فبادلته الابتسامات والمشاعر الطيبة نفسها .. وفيما يلى نص تلك المذكرات:
«السبت 11 ديسمبر 1948»: استيقظت اليوم صباحا على نداءات الصلاة، التى أعفيت نفسى منها على كره من الزملاء واستنكارهم، ثم أغفيت غفوة قصيرة أيقظنى منها حوار عن الاستبراء والاستنجاء ما بين حلمى نور الدين وغيره، وكان السيد حلمى يرى فى الوقوف والتبول أمراً إداً؛ إذ يخشى من أن يُرى الواقف.. وتلى ذلك كلام طويل من شقيقى الأستاذ عبدالرحمن البنا عن وسوسته فى ذلك، وكيف يطيل المكث، ويلجأ إلى النشاف.. فرد عليه حلمى بأن النشاف لا يصح الاستنجاء به، وتلى: ولا يجوز الاستنجاء بما له قيمة.. وصممت أذانى عن هذا الحوار الممل ونمت، فلما قمت كانت الثامنة تقريبا فاغتسلت ولبست، وأخذت أتجول فى الفناء الرملى للمعتقل، وقد شربت الشاى ممزوجا باللبن وأخذت أحفظ فى سورة الأنفال.
ثم استضاف المعتقل اليوم اثنين من الإخوان، هما توفيق على، محصل الإخوان، وماهر خميس، المحامى، وجاء بأخبار مؤسفة، فالاعتقالات ماضية فى طريقها، والحالة هادئة فى المدينة، وقد انتهت الحالة «ج»، وأعلنت الحالة «ب»، وشر ذلك كله ما قيل من أن الحكومة قررت تخصيص المركز العام لإقامة قسم بوليس الدرب الأحمر، وقد علا الصوت، وساء الفكر كثيرا من الإخوان إثر هذه الأخبار، ورفضت أن أدور حول أسلاك المعتقل فى ساعة الغروب الجميل أفكر فى الموقف الحالى، وكيف قلبت أفكارنا رأسا على عقب، وما يحمله ذلك من تغيير فى موقفنا الخاص والعام، وصليت المغرب مع الإخوان من باب المواساة لهم فى هذا الموقف، وعدم زيادة متاعبهم، وكان لذلك رنة سرور بينهم لم أعلق عليها بالطبع، بل لعلى رثيت لهم، وفى المساء ألقى مصطفى مؤمن درسًا عن الصهيونية، ولم يكن به بأس.
لقد كنت أقول فى نفسى قبل اعتقالى وعندما نستبطئ النصر، ويطول بنا الانتظار إن الحالة العادية إذا قيست بالحالة السيئة، فإنها تكون حسنة فما أصدق ذلك علينا الآن.. كيف يستطيع الإنسان أن يصدق أن صحيفة الإخوان تُطوى بهذه السهولة، من المؤكد أنها لن تُطوى نهائيا، ولن تقوى على محوها فكرة التصفية الجهنمية، فإن شهرتها ستكسب لها أحوالا جديدة، ومهما يكن فلن يبدأوا من حيث بدأوا أول مرة، ولن يحتاجوا إلى عشرين عاما للوصول إلى ما وصلوا إليه، ومع ذلك فإن القضاء المؤقت بهذه السرعة، وبهذه الإحاطة، ودون إثارة، يدق الفؤاد ويبهت النفس ومما يكاد ألا يصدق، ولعل من المفارقات بعد ذلك أن تروى هذه القصة: فى الساعة الواحدة مساء استيقظ سعد الدين الوليلى على صيحات زميله النائم على السرير المجاور له طاهر الخشاب، وكان يصيح به أن يضرب على ظهره ليفر ما على ظهره من فئران أو عرسة، فقام سعد الدين فى الظلام يضرب باليمين والشمال على ظهر زميله، الذى لم يستطع النوم فقام يصلى من الساعة الواحدة حتى الرابعة، وعند الصباح قص علينا قصة ذلك الفأر، الذى أخذ يتأرجح على البالطو فوق رأسه حتى أحس به فوق ظهره فى الظلام، وليس هذا وحده ما يضحكنى، فإن الأستاذ طاهر يخاف من الفئران خوفا شديدا، ومع ذلك فإن الفئران لا تروق لها إلا مداعبته، ولا تروح وتغدو إلا فوق سريره.. وقد تحادثنا أنا والأستاذ طاهر طويلا، وكنا أمس وحدنا المفطرين الوحيدين فى المعسكر، وهم هنا يصومون الإثنين والخميس، وتحدثنا طويلا عن هذه المحنة، التى أنزلت به من الحزن والهموم أضعاف ما أنزلت بغيره، وقد نظر إلىّ مرة وقال: «أدفع ألف جنيه لو استطعت أن تهبنى نفسك وتأخذ نفسى وهمومى»، وفى مرة أخرى عقب حديث طويل عن هذه النازلة أراد أن يُروّح عن نفسه، ويخفف من وطأتها فبدر منه مطلع الأغنية المشهورة «لو كنت أسامح أنسى الأسية».
فى أحد الأيام وبعد غروب الشمس كتب جمال البنا: أخذت أتتبع الألوان البارعة الجميلة فى السماء من زرقاء صافية إلى حمراء مشتعلة متوهجة إلى بنفسجى رائع، حتى أذنت صلاة المغرب فتوضأت ودخلت مع الجماعة، وكان الإمام الأستاذ عابدين، وهو مشهور بالإطالة، وقد أطال فعلا فى القراءة والركوع والسجود، وكان صوته مختنقا كأنما يبكى أو يهم ببكاء، وكان لذلك أثره فى النفس على أنه لم يمنع من أن أخرج من الصلاة وأنا أحس بآلام شديدة فى الركبتين من شدة وطأة السجود، وأكثر ما يلمس النفس فى الصلاة فى المعسكر القنوت، الذى يتلوه الإمام بعد الركعة الأخيرة، وهو يبدأ بمثل هذا «اللهم يا قاصم الجبارين، وغياث المستضعفين.. إلخ» فيرد الجميع «يا رب» ثم يتلو الإمام «انصر دعوتنا ووفق مرشدنا وخذ الظالمين.. إلخ» فيقول الجميع «آمين»، ويستطرد الإمام «اللهم إنك أقوى منهم، وأعظم.. إلخ» فيقول الجميع «حقا».
وفى يوم آخر دون جمال البنا التالى: ما الفرق بين الخطأ والصواب، إنه ليس أكثر من التساهل فى ناحية والضغط فى ناحية، ولا يفرق بين الخطأ والصواب إلا إصرار قصير، فيا ليتنا نتذكر ذلك حتى نتقى الخطأ والفشل، ونعذر إلى أنفسنا والناس.. قضينا أمس مساء فى حجرتنا سهرة رائعة، فقد تآمر بعض الزملاء على العبث بالأستاذ عابدين، الذى كان له سكرتير خاص مهمته الوحيدة تغطيته قبل النوم تغطية منظمة، وكانت المؤامرة أن يُربط بحزام من الجلد بعد أن يُغطى، وقد كُشِفت المؤامرة، وتم تبادل العتاب ثم أطفئ المصباح، وجذب كل واحد بطاطينه الثلاث على وجهه استعدادا للنوم، فسأل الحاج عبدالله الصولى الأستاذ عبدالحكيم عابدين عن الحالة الحاضرة، فدار نقاش طويل ممتع أطار النوم عن عيوننا، واشترك فيه كل من عابدين وطاهر الخشاب وعبدالرحمن الساعاتى وسعد الوليلى وعبدالله الصولى وأنا وصالح عشماوى، سأوجز هذا النقاش فى الكلمات التالية:
عابدين: يرى الناس أن الإخوان قد انكشفوا بحلهم، لأنهم توقعوا أن لا أحد يستطيع حلهم، وأنهم إذا حلوا قامت القيامة من وجهة من يجرؤ على ذلك، وقد يكون ذلك حقا، لكنه من وجهة نظر أخرى قد سترهم، فالسودان الآن تباع بيعًا، وإندونيسيا يُغدر بها، وفلسطين تضيع يوما فيوم، وكان الناس يتوقعون من الإخوان إنقاذ هذه الأوضاع كلها، والإخوان فى الحقيقة كانوا أعجز من أن يفعلوا شيئا، فحلهم فى الواقع كان سترًا لهم فى هذه الآونة الدقيقة، وتخليصا لذمتهم أمام التاريخ، ومن ناحية أخرى فإن تورط الإخوان فى الشركات قد أساء إلى الإخوان عدة إساءات، فأذهب الإخلاص من الإخوان، ونفى الصفة التجريدية، وأوجد مظاهر كنا فى غنى عنها، والتزمنا جراء ذلك كله بالتزامات ليست فحسب منافية للدعوة، بل أيضا قد شغلت وقتها وقلوب أعضائها، واضطرتنا إلى أن نتخلى عن كثير من مبادئنا، بل أن نطأها بالنعال.
طاهر الخشاب: أعوذ بالله من مغالاتكم.
عابدين: أى مغالاة، لقد اضطررت إلى أن تكتب مقالة طويلة عريضة فى الجريدة تشيد فيها بـ«جروبى»، كما لو كان هو الفتح الإسلامى المنتظر، وكتبت مقالة عن شركة «شل»، وهى أصل الاستعمار ووكر الجاسوسية الإنجليزية، وعميدة الشركات الرأسمالية، ترفعها إلى السماء، ولجأت إلى الاقتراض بالربا، فلو كانت المبادئ توضع تحت النعال لكنت قد وضعت مبادئك تحت ستين ألف نعل.
صالح عشماوى: ولا تنس أن تصفية هذه الشركات رفعت عن كاهلنا من الناحية المادية مسؤولية كثيرا ما أقلقتنا.
عابدين: لا شك فى ذلك، وقد اجتمعنا مرارا وتكرارا لإيقاف الجريدة، وكانت الأصوات فى إحدى الجلسات أحد عشر ضد اثنين، ومع ذلك فلم نستطع، فجاء النقراشى فأوقفها بجرة قلم، وأراحنا منها، فأنا شديد الرضا والاطمئنان إلى ما حدث، ولو كان الأمر العسكرى مهتديا بفعل السماء لما جاوز ما افترضته فى مذكرتى، التى قدمتها إلى الهيئة التأسيسية.
جمال البنا: إذا كان الأمر كذلك فلماذا لا ترفع خطاب شكر إلى النقراشى وترفع القنوت فى الصلاة؟
عابدين: لا جرم أنه يستاهل لولا أن الأعمال بالنيات.
وانتقل المجلس بعد ذلك إلى مناقشة الوضع فى المستقبل بعد أن انتهى إلى أن الوضع الحالى خير كثير.
فقال عبدالله الصولى: أنا أرى أن نؤسس الإخوان تأسيسا جديدا بعد انتهاء الأحكام العرفية، فنظهر الناحية السياسية منها علانية، ويطلق عليها حزب الإخوان المسلمين، أو أننا ننضم إلى الحزب الوطنى.
جمال البنا: إذا كان هناك انضمام، فالأجدر أن ينضم إليكم الحزب الوطنى، لا أن تنضموا إليه.
سعد الوليلى: هؤلاء أناس لا يوثق بهم، ولقد سبق للأستاذ المرشد أن جس نبضهم فى حديثه مع زكى باشا، الذى كان يريد به أن يوكل إشراف الناحية السياسية فى الجريدة إليهم فرفضوا.
الخشاب: ليس هذا صحيحا، فالواقع أن الأستاذ المرشد أراد أن يلزق لهم الجريدة، وجميعهم من ذوى الناب الأزرق.
الوليلى: على كل حال، ليس فى الحزب الوطنى الآن سوى فتحى رضوان، وهو من لا يطمئن إليه. «أمّنَ الجميع على ذلك وأجمعوا على أن فتحى رضوان متلاعب».
عابدين: الصورة الجديدة التى تبدو لى عن الإخوان بعيدة كل البعد عن النواحى السياسية والحزبية.
الوليلى: عندما حج الأستاذ المرشد حجته الأخيرة، ولمس حاجة البلاد الإسلامية إلى الرجال فكر فى فض الناحية السياسية، والاقتصار على التبليغ الإسلامى، والدعوة إلى الله.
عشماوى: أوافق على ذلك، فالدعوة إلى الله يجب أن تكون الفرض الأول للجماعة، وستجدون فى البلاد الإسلامية متسعا، ويلزم لذلك أمران، الأول: أن يحرم أى اشتراك للأعضاء فى شركات أو أعمال مالية، والثانى: أن يُفصل فصلا تاما بين الناحية العملية والناحية المبدئية، ويكون تدخلنا فى الناحية العملية بإرسال أعضاء ممن يوثق بهم إلى الأحزاب الأخرى، حتى يؤثروا فيها، ويتجهوا بها الوجهة الإسلامية حتى تبين نواحى الدعوة.
الخشاب: خيال فى خيال.
الصولى: كيف يكون خيالا؟
عابدين: المقصود بذلك أنه ليس لديك الرجال، الذين يملؤون المراكز فى الأحزاب، التى ترحب بهم، حتى يؤثروا فيها، فلو وضعت الأستاذ طاهر الخشاب مثلا «وهو خير من عندك» لما جاء فى الحزب السعدى إلا ما يقل عن مائة.
الخشاب: اسكت يا مغفل.
عابدين: إنك لن تجاوز ذلك، لا لأنك أقل كفاءة، ولكن لأن لهم نظما خاصة، ثم إن الاقتراح كله غير عملى، فإذا أخذت بأسباب الدين فإنك لن تتقدم فى الأحزاب.
جمال البنا: أنا أرى الفصل الكامل، والاقتصار على الناحية الروحية، فإن هناك طريقتين للإصلاح، الأولى: إصلاح الوضع حتى يمكن إصلاح النفوس، وهذه هى طريقة الماديين والحيويين، والثانية: إصلاح النفس، وهذه تؤدى إلى إصلاح الأوضاع، وهى طريقة الدين، ولا بد من انتهاج واحدة فحسب، أما الاشتراك فخطأ، ومن ناحية أخرى، فإن «الإخوان المسلمين» ستكون عالمية حقا، ومن حق هذه العالمية عليها أن تتجرد لها وتكرس لها كل جهودها، ولا تفرق بين البلاد، أو أن تعنى بصفة خاصة ببلد حتى وإن كان بلدها، وقد قلنا ذلك من قبل فكدتم ترموننا بالزندقة، أما العناية بمصر وشؤونها فدعوها للذين لا يؤمنون بغير مصر.
وفى يوم آخر دون جمال البنا: يوم خامل، قام فيه الجميع وهم صائمون فى الحادية عشرة، ولم ينهضوا من أسرّتهم إلا لصلاة الظهر، وقد احترت فى عمل الشاى، وحاولت أن أوقد النار بجذع أو غصن عبثا، إلى أن أرسل الله إلىَّ الشيخ حسن الأحمر، سكرتير المخزن فوضعه على الموقد الكهربائى، وقد شربته جالسا على السرير، أقرأ فى كتاب حياة محمد، ونحن الآن عصرا، والإخوان يقرأون المأثورات وهم يقرأونها ثلاث مرات فى اليوم، وزارنا اليوم قومندان المعتقل، وتفقد العنابر، وسار معه الأستاذ عابدين، ولما عاد أخبرنى بأن فضيلة الأستاذ المرشد قد تظلم من اعتقالى أنا والأستاذ عبدالرحمن، وبعد الظهر أرسل إلى طردا به ملابس حزنت لوصولها أكثر مما سررت بها؛ لأنها كانت بمثابة حكم بالبقاء بالمعتقل مدة طويلة، وزاد من هذا الشعور أن جاءت الأنباء بأن معتقلا من إخوان الأقاليم من المنتظر أن يأتوا به إلى هنا فى ظرف أسبوع تقريبا.. أفكر فى أن أضرب عن الطعام، كى أحمل البوليس على الاهتمام بطلبى، ولكنى أفضل أن أؤجل ذلك حتى الأربعاء المقبل ريثما أرى عبدالباسط كما أتوقع. لقد تضايقت اليوم وزهدت نفسى فى الطعام، وكسلت عن أداء أى فرض، ولا تزال الهوسة الدينية قائمة عند هؤلاء الناس الذين لا يعرفون الهدوء أو الانفراد أو الصمت، وأنا أفكر فى المسألة الدينية بعمق وألم، وقد فكرت فى إبداع مذهب دينى تكون الفكرة الأساسية فيه الأخذ بروح التشريع وطبيعة النبى لا أفعاله أو أقواله، ولو كنت متأكدا من بقائى هنا لسنة لكان ذلك خير ما أستهل به قراءتى. أفكر فى الجماعة ومصيرها، وماذا عسى أن ينفعنى التفكير وأنا هنا وراء الأسلاك الشائكة وقد تقوض عالمى القديم.
وبعد مدة تخطت العام بأشهر قليلة قضيتها داخل معتقل الطور خرجت، وكان الوالد يعيش فى حزن شديد، ولكن كان لا بد للحياة أن تسير، فتلك سُنة الله التى لا نجد لها تبديلا، ورغم ذلك وجدت والدى استأنف عمله، وفى النفس ما فيها، ولعل العمل فى تلك الظروف أصبح سلوته الوحيدة التى يدفن فيها آلامه، وينسى بها أحزانه، فواصل أسلوب حياته وعمله، وكان والدى قد استقر بسلاملك مستقل فى حوش المنزل رقم 9 بحارة الرسام، وهى حارة ضيقة فى أحشاء القاهرة الغورية، وعلى ناصيتها مسجد الفكهانى، وكان البيت كالبيوت القديمة رحبا واسعا، وكان له حوش أو فناء متسع، وفى مواجهته سلاملك مستقل يرتفع بضع درجات عن مستوى أرض الحوش، وهذا هو الذى اتخذه الشيخ مكتبا ومخزنا للنسخ المطبوعة من «الفتح الربانى مشروع ترتيب مسند الإمام أحمد بن حنبل».
وأتذكر أنه لم يكن حسن الإضاءة أو جيد التهوية، لكن هذه أمور لم تكن تشغل الشيخ، ومن الصباح الباكر حتى منتصف الليل تقريبا كان الشيخ يأوى إلى مكتبه فيجلس القرفصاء كالكاتب المصرى القديم على مقعد عريض هو مربع خشبى ليس له مسند أو ذراعين، طرحت عليه حشية شلتة، وكان أمامه مكتبه، وهو تزجة صغيرة احتفظ بها من أيام تصليح الساعات وجعلها مكتبا، وهى تزجة لا بد أن تثير الخجل فى نفوس الذين يحرصون على المكاتب الفخمة ذات المحابر والوراقات، وينفقون عليها مئات الجنيهات، فعلى هذه التزجة المتواضعة كتبت أعظم موسوعة إسلامية تضم الحديث والفقه، وكانت الكتب تحيط بوالدى من كل جانب، وكان فيها الكثير من مطبوعات الهند، التى كانت من أوائل القرن العشرين، فقد نشرت العديد من أمهات كتب الحديث بفضل عناية حاكم ولاية حيدر أباد الدكن، وكذلك ملك بهوبال، وهما من أبرز ملوك الإمارات الإسلامية فى الهند وقتئذ، وكانت مكتبة والدى عامرة بالمجلدات والمراجع عن الحديث والتفسير والفقه وبقية العلوم الإسلامية، وقد وجدت بين أوراقه ورقة كتب عليها بخطه هذين البيتين «ألا يا مستعير الكتب دعنى.. فإن إعارتى للكتب عار.. فمحبوبى من الدنيا كتاب.. وهل أبصرت محبوبا يُعارُ؟».
ولم يكن والدى يترك مكتبه هذا إلا لأداء الصلاة فى جامع الفكهانى على ناصية الحارة أو فى مكتبه إذا أحس بتعب، وكان بالمكتب أريكة صغيرة يتمدد عليها فى بعض الحالات وقت القيلولة، وكان يؤتَى له بطعامه من شقته الخاصة بالمنزل نفسه بالدور الثانى، وحتى الأيام الأخيرة من عمر والدى لم ييأس أو يتوقف عن العمل، وكان قد وصل إلى منتصف الجزء الـ22 من المسند وهو عن التاريخ، ولما أحس بهجوم المرض حاول أن يعلمنى بأسرار عمله، وقال إن الجزء الـ22 عن التاريخ، وإن شرحه لن يحتاج إلى فنية وأستاذية كبيرة، ونصحنى بالرجوع إلى «البداية والنهاية» لابن كثير؛ لأن تاريخه يعتمد على الحديث، كما يتضمن التخريج، وهو محك الخبرة والأستاذية، وتوفى والدى فى عام 1958 وكتبت فيه قصيدة صغيرة قلت فيها «يا صاحب الفتح كم فى الفتح من دأب.. يكسبك فخرًا على الأجيال والسلف.. ولم يكن ذاك كافيكم، فجُدتَ لنا.. بمرشد الدعوة السَّمحاء فى الخلف.. الله أكرمكم، والله ألهمكم.. أنعم بكم، وبمن أودعت فى النطف».