مبنى يسوده الظلام.. واجهة محطمة النوافذ.. بقايا مكاتب تناثرت أجزاؤها، حطام وحجارة وزجاج.. عشرات السيارات المحطمة التى ضاعت ملامحها من شدة الانفجار أحاطت بمبنى مديرية أمن الدقهلية، الذى لم يبق منه سوى لافتة تحمل الاسم وعدد من الكردونات الحديدية، التى أحاطت بها قوات الشرطة حطام المبنى لحين الانتهاء من رفع الأنقاض ومحاولة التقاط طرف الخيط للوصول إلى مرتكبى الحادث.
«المصرى اليوم» قضت ليلة كاملة مع قيادات قوات الأمن وخبراء كشف المفرقعات الذين استعانت بهم المديرية من إدارة البحث الجنائى بوزارة الداخلية، لكشف تفاصيل الحادث.
كشافات إضاءة صغيرة وكشافات هواتفهم الخلوية، استعان بها خبراء المفرقعات لإنارة المكان الذى تحطمت أعمدة إنارته، محاولين رفع آثار الدماء المتناثرة، بجانب 5 لوادر ترفع ما يتم فحصه من حطام لإفساح الطريق أمام الخبراء لفحص أدلة جديدة، ورغم كثرة عدد السيارات المحطمة حول المبنى، فإن الخبراء أكدوا أن جميعها سيخضع للفحص فى معامل البحث الجنائى. وقال أحد الخبراء، الذى تحفظ على ذكر اسمه، إن نحو 6 من زملائه يعملون على تحديد هوية كل تلك السيارات، ولن تستغرق هذه العملية أكثر من أسبوع، متوقعا أن يتم القبض على الجناة فى أقرب وقت.
علامات الحزن تغالبها علامات التحفز للانتقام.. ظهرت على وجوه جميع العاملين من قيادات وأفراد الأمن الذين ظلوا يتابعون عن قرب عمليات رفع الأنقاض، فكانت أعينهم تراقب عمليات الفحص، وتنظر فى أسى لحطام المبنى، وكأنها تستعيد مشهد إخراج جثث وأشلاء زملائهم من المكاتب داخل البطاطين والسجاد.
العميد سعيد عمارة، مدير مباحث المديرية، ظل واقفًا لساعات بين خبراء الفحص ورافعى الأنقاض، تارة يرفع صوته مناديا على الأمناء لإبعاد المواطنين بعيدا عن مسرح الجريمة، وتارة أخرى يصرخ فى المجندين بالالتزام بأماكنهم فى الكردون حول الحطام، وبين هذا وذاك يتحدث مع خبراء الفحص، يسأل عن كل شىء وكل دليل صغير يعثرون عليه، مطالبا بسرعة الإنجاز.
ينادى عليه أحد المواطنين، قائلا: «عربيتى كانت جنب المديرية واتدمرت وأنا اتعرفت عليها من شكلها وعايز أستلمها»، فيرد باسما: «مش مهم الشكل أنا اللى يهمنى بصمة الموتور والشاسيه، وبعدين هانخلص الفحص ونسلمها لك، وكل العربيات الموجودة فى المكان لازم تتفحص كويس؛ لأنها ممكن توصلنا لخيط يقودنا للفاعل».
ينادى «عمارة» على أحد الجنود، وهو فى الطريق ينظر بأسى إلى مبنى المديرية المتهدم قائلا: «أنا مكتبى فى الجزء اللى اتهدم ده، يعنى لو كنت فيه كان زمانى ضمن الضحايا، لكن ربنا ستر قبل الحادث بربع ساعة روحت مع بعض ضباط قسم ثانى عشان نستجوب متهم، وفجأة وأنا هناك سمعنا الانفجار وعرفت إن فيه حاجة عند المديرية، فجيت جرى ولقيت المصيبة دى».
يضيف: «والله الموضوع ماهايعدى كده، إحنا وصلنا لخيوط كتير مهمة، وإن شاء الله هانجيب كل المتورطين ومش هنسيب حق اللى مات واللى اتصاب، ولا اللى بيعملوه ده هيخوفونا، كل نقطة دم بتنزل من واحد فى الشرطة بتزيد زمايله قوة وإصرار على الاستمرار فى مواجهة الإرهاب».
يتدخل العميد مجدى العمرى، رئيس فرع الأمن العام، ضاحكًا بمرارة: «أنا كنت فى مكتبى قبل الواقعة واتصلت على سعيد بيه عمارة، علشان ننزل قسم ثانى. فى الأول كان بيقولى استنى شوية، لكن أنا اصريت وقلت له ياللا يا باشا علشان نخلص قبل ما نروّح البيت، وفعلا نزلنا ولما رجعنا لقينا مكاتبنا بقت أنقاض». يرفع مجدى العمرى رأسه نحو مبنى المديرية قائلا: «مكتبى اللى واقع منه الجدار ده. أنا بقعد فى الحتة دى»، ويشير بإصبعه نحو المكان المتهدم، مضيفا: «لولا ستر ربنا كان زمانى واقع فى الشارع من الدور الخامس بسبب الانفجار. أنا كل مابشوف المنظر ده مش بصدق إنى لسه عايش».
المقدم سعيد شعيب، بإدارة البحث الجنائى، يلتفت لزملائه قائلا: «شفتوا المديرية من جوه حصل فيها إيه، لكن ربنا ستر إن الوفيات مش أكتر من كده، أنا مش قادر أنسى منظر العقيد سامح السعودى.. دخلت أنا والضباط المكتب ولم أجد غير جسد على الكرسى غرقان فى الدم، فصرخت فيهم مين ده، فقالوا ده العقيد سامح السعودى».
يقطع الحوار صوت أحد أعضاء فريق الفحص وهو ينادى على زميله قائلا: «تعالى شوف كده شكلها.. دى العربية اللى اتفجرت» فيجرى الجميع نحو الحطام الذى أشار عليه، ويسجل زميله ملاحظة ووصفا للحطام فى الساعة 9:30 مساء، ويقول للمحيطين: «دى سيارة هيونداى حمرا»، ويقترب بكشاف الموبايل نحو بقعة دماء وسط حطام السيارة ويقول: «ده دم.. تعالى صوره ونادى على بتوع المعمل الجنائى ياخدوا منه عينة علشان نشوف هى بتاعة أحد الضحايا ولا منفذ الحادث»، وتم التحفظ على بقايا السيارة بعيدا عن بقية السيارات الأخرى. لم يكن الحطام هو الدليل الوحيد الذى عثر عليه خبراء المفرقعات والأدلة الجنائية والمعمل الجنائى المنتشرون فى المكان، فقد تمكن فريق العمل من الكشف فى ساعة مبكرة عن حفرة عميقة فى الشارع بين مبنى المديرية والمسرح القومى، وأكدوا أنها الحفرة الناتجة عن انفجار السيارة. ووسط الأشلاء وفى تمام الساعة 11 مساء، عثر الخبراء على أشلاء آدمية متناثرة بالقرب من مكان الانفجار، جمعها خبراء المعمل الجنائى تمهيدا لفحصها وتحديد شخصية صاحبها أو أصحابها، مرجحين أن تكون هذه الأشلاء لمنفذ التفجير.
العميد عاطف مهران، رئيس إدارة البحث الجنائى، يرسم تصورا مبدئياًعن الحادث، قائلا: «أرجح أن يكون منفذ الحادث انتحاريا، اقتحم بسيارته المكان والحاجز الأمنى وفجر نفسه والسيارة المحملة بالمواد المتفجرة بعد اصطدامه بميكروباص الأمن المركزى».
وحدد خبراء المفرقعات فى المكان أن تكون السيارة التى انفجرت كانت تحمل كمية تتراوح ما بين «1 و1.5 طن» من مادة «TNT» شديدة الانفجار، كما كشف أحد أعضاء الأدلة الجنائية، تحفظ على ذكر اسمه، عن أن »عملية التفجير تشبه كثيرا عملية تفجير المفخخة أمام معسكر الأمن المركزى بطريق (القاهرة - الإسماعيلية) الصحراوى أوائل الشهر الجارى،مما يدل على وجود صلة بين الأيادى التى تقف خلف الحادثين»، حسب قوله. فى الساعة الحادية عشرة والنصف، حضر إلى مسرح الجريمة اللواء عمر الشوادفى، محافظ الدقهلية، الذى حرص على التحدث بهدوء مع جميع العاملين على رفع الأدلة الجنائية، ليشجعهم على الاستمرار فى عملهم بنشاط، ودخل »الشوادفى« فى نقاش مع قيادات مديرية الأمن الموجودين فى المكان حول آخر المستجدات والأدلة التى عثروا عليها، واستمر فى الموقع ساعتين. وأثناء حديثه قاطعه أحد المواطنين الموجودين فى موقع التفجير: «إحنا عايزين حق الشهداء دول، مش عايزين أى حاجة تانية غير كده»، فرد عليه: «أوعدك مش هنسيب حقهم». يعلق »الشوادفى" على الحادث: «مصر فى حرب حقيقة مع الإرهاب، وهناك قناعة فى الشارع بأنه لم يعد هناك أى تعاطف تجاه الإخوان، وأنه يجب مقاومتهم، والأحداث الإرهابية التى تعرضت لها الدقهلية زادت أهلها قوة وصمودا، للاستمرار فى تنفيذ خارطة الطريق والنجاح فيها وتحقيق الاستقرار رغم أنف جماعات الإرهاب الأسود».
ياسر عطا، أمين شرطة فى إدارة البحث الجنائى بالمديرية، لم يغادر المكان منذ وقوع التفجير، يحكى شهادته عن الحادث: «غادرت مبنى المديرية قبل الحادث بقليل، ولم أكن أتوقع أننى سأعود لأجده حطاما، فور علمى بالخبر هرولت إلى المكان للاطمئنان على زملائى، وكان أغلبهم مصابين بإصابات خطيرة، واللى بيعملوه الإرهابيين دا مش بيزدنا غير إصرار على ملاحقتهم لإيداعهم فى السجون».
بعد منتصف الليل بقليل، تجمع عشرات الأهالى خارج الكردون الحديدى، مرددين هتافات منددة بالحادث ومناهضة لجماعة الإخوان، ومنها: «على وعلى كمان الصوت.. مصر أبدا مش هتموت».
صباح محمود، التى تسكن بالقرب من مبنى المديرية قررت النزول مع زوجها وأولادهما للتنديد بالحادث، تقول: «اللى حصل ده ما يرضيش ربنا، وأنا اتعمدت أنزل بالأولاد علشان يعرفوا إننا مش هانخاف من الإرهابيين، واللى بيموتوا من الشرطة هم ولادنا، واللى طمعان من الإخوان فى منصب تانى ياريت يعرف إن مصر رجعت لنا واستحالة نسلمها لكم تانى».
مع أى تجمع بشرى عقب الثورة، يحضر بائعو الأعلام والمياه والمشروبات الساخنة، إلا أن محمد مصطفى، بائع أعلام، أكد أن هذه هى المرة الأولى التى لا يجد فيها رواجا لبيع الأعلام خلال مسيرة أو مظاهرة، بسبب سيطرة حالة الحزن والصدمة على المشاركين فى المسيرة، فيما صاح إسلام جلال، أحد الأهالى: «مش عاوزين من الدولة غير إنها تفوضنا نتعامل مع الإخوان بنفسنا».
عمليات البحث والتنقيب عن الأدلة، بالإضافة لرفع الأنقاض، استمرت حتى الساعات الأولى من صباح أمس الأربعاء، ورغم ساعات العمل الطويلة، فإن العميد نبيل عبدالعظيم، مدير إدارة مرور الدقهلية، كان موجودا بين رجال البحث الجنائى. يقول: «تم رفع حطام عدد كبير من السيارات، والإدارة انتهت حتى الآن من فحص وتحديد نوعية 14 سيارة من خلال بصمات الشاسيه والموتور، وتبين أن بعضها يتبع مديرية أمن الدقهلية، وأخرى تخص مواطنين مدنيين، وتم تسليم فرع البحث الجنائى بالمديرية ملفا بنوعية السيارات وأسماء ملاكها، للتحرى بشأنهم حول الواقعة، وجار فحص بقية الحطام».
انتهت معظم عمليات البحث مع سطوع الشمس، وبدأت الفرق تجهز نفسها للانصراف تمهيدا لوصول فرق أخرى تستكمل مهمة جمع الأدلة التى قد تكون مختبئة تحت حجر أو حطام سيارة هنا أو هناك.