عشر برديات مصرية .. تأملات قصصية من وحى التاريخ والأدب والخيال (البردية الثالثة)الأفعى المدفونة فى الرمال

الإثنين 08-03-2010 00:00

تروى بردية قديمة ازدانت بالرسوم الملونة أن أحد فراعين الأسرة السابعة، التى لم يذكر التاريخ أسماء ملوكها، كان جالساً بعد ظهر أحد الأيام فى حديقة قصره، وقد شخِص ببصره إلى أعواد البردى التى نمت أمامه فى البحيرة المستطيلة، وكأنها نخلات خضراء صغيرة نمت فى الماء.

كان ينظر إلى البحيرة ويتأمل أعواد البردى التى انبثقت أعلى كل منها أفرع دقيقة فى كل اتجاه، كأنها أشعة الشمس المقدسة، لكن ذهنه كان مشغولاً بأمور أخرى تتعلق بذلك النفوذ المتزايد، الذى أصبح يتمتع به قائد الجيش، بعد الانتصارات التى حققها أخيراً، لذلك استدعى فرعون نختيس كبير الكهنة ليستشيره فى الأمر.

كان ذلك قبل أكثر من ألفى سنة قبل الميلاد، فى العصر الذى انقسمت فيه مصر على نفسها، فلم تعد دولة واحدة، لكن الملك كانت له طموحات فى الاستحواذ على المزيد من الأراضى المصرية لتوسيع مملكته، فشن أكثر من حملة على الأراضى المجاورة، وتحققت انتصارات زادت بعض الشىء من قوة مملكته، لكنها ساهمت فى نفس الوقت فى زيادة شعبية قائد الجيش.

وإلى جانب الحملات العسكرية كان الملك يدعم حكمه أيضاً ببناء المعابد العظيمة، تأكيداً لانتمائه إلى الآلهة وإرضاء للكهنة لما يمثلونه من قوة فى المملكة، لكن بمثلما كانت الانتصارات العسكرية تزيد من نفوذ الجيش كان بناء المعابد يزيد من قوة الكهنة، فكان الملك كلما أراد تحجيم أحدهما استعان بالآخر.

حضر نختيس وتقدم حتى وقف أمام الملك وبينهما البحيرة، ثم انحنى حتى كاد ينقلب فى الماء، أشار الملك إلى الحرس أن ينصرف ونهض من مجلسه، وأخذ يتمشى على حافة البحيرة فى هدوء ذهابا وإيابا أمام كبير الكهنة الذى ظل ينتظر ما سيقوله له.

قال الملك: «تعلم يا كبير الكهنة أننا حققنا انتصارات عظيمة للمملكة على مدى السنوات الأخيرة، فقد ضممنا بعض الأراضى فى الشرق كما أخضعنا بلاد بونت فى الجنوب».

فرد كبير الكهنة: «ذلك بفضل عظمتكم يا فرعون البلاد، إنه ثمرة ولائكم الدائم للإله آمون واحتضان جلالتكم لكهنته الذين يحفظون تعاليم الآلهة ويصونون العلم والمعرفة فى جميع أرجاء البلاد».

واصل الملك حديثه فقال: «فقط الجبهة الغربية استعصت علينا، إن إقليم برقة فى ليبيا كلما أرسلت له قوة هزمت شر هزيمة مما يعد تحديا لهيبة المملكة، لقد أصبح هذا الوضع يمثل شوكة تؤرقنا وتقض مضجعنا، لكن لا يبدو أن قائد الجيش فى نشوته بالانتصارات التى حققتها قواتنا يدرك خطورة الموقف».

بدأ نختيس يعى ما يرمى إليه الملك فقال: «يا مليكى العظيم لماذا لا ترسلون جلالتكم قائد الجيش نفسه على رأس قوة إلى برقة لإخضاعها، فإذا انتصر قضى بذلك على الخطر الذى يتهدد المملكة فى الغرب، وإذا انهزم قضى بذلك على خطر أكبر يمثله قائد الجيش نفسه فى الداخل».

عاد الملك فى هدوء إلى مجلسه، وأشار إلى كبير الكهنة أن يتناول إحدى ثمار النخيل الموضوعة فى سلة على المنضدة التى أمامه. مد نختيس يده وتناول حبة تمر بينما قال فرعون فى توجس: «لو انتصر قائد الجيش على تلك الجبهة المستعصية سيعود متصوراً أنه فرعون مصر»، فرد نختيس بصوت خفت قليلاً وكأنه لا يريد لنسمات الهواء أن تنقل كلماته خارج مجلسهما: «كيف ينتصر قائد الجيش وفرعون وحده هو الذى سيحدد حجم العتاد الذى سيرسل إليه فى المعركة؟».

رنا الملك بنظره إلى الأفق البعيد وهو يفكر فيما سمع، بينما فتح كبير الكهنة التمرة بأظافره المدببة، وأخرج منها نواتها قبل أن يضع التمرة فى فمه، وسادت لحظة صمت لم يسمع خلالها إلا حفيف أعواد البردى فى البحيرة وصوت فم نختيس، وهو يمضغ ثمرته فى رتابة، وقد لمع رأسه الحليق فى ضوء شمس النهار.

ومع بداية شهر أبيب الصيفى الحار أصدر الملك أوامره إلى قائد الجيش بالتوجه إلى برقة عبر الصحراء الغربية للقضاء على هذا التمرد غير المقبول على حدود البلاد، وفى اليوم التالى خرج الناس يودعون قائد الجيش وقواته ويلوحون لهم بسعف النخيل متمنين لهم العودة من الصحراء منتصرين.

وغاب قائد الجيش عن البلاد فارتاح الملك، ومضت شهور الصيف والجيش فى معارك تهدأ يومـاً أو اثنين لتشتعل فى اليوم التالى إلى أن مضى قيظ الصيف، وتبعه الخريف، ثم حل الشتاء فكان الجيش قد أنهك وخارت قواه بسبب عدم وصول إمدادات. ومع نهاية شهر هاتور البارد لقى قائد الجيش حتفه فى معركة فاصلة بين الجانبين.

وهكذا تخلص الملك من منافسه الأول، لكن قوات الجيش ظلت محاصرة فى الصحراء الغربية لا تستطيع العودة ولا تقدر على المقاومة، ومع مضى الوقت بدأ الطعام ينفد فتمردت القوات على مليكها الذى أرسلها إلى حتفها ولم يظهر أى اكتراث لأمرها وهى على حافة الفناء.

واستدعى الملك كبير الكهنة إلى القصر الملكى.. لم يلقه هذه المرة على حافة البحيرة، ولم تكن هناك فاكهة.. جلس الملك فى قاعة العرش، على رأسه التاج وفى يده الصولجان وقال لنختيس: «لقد قلت لى يا كبير الكهنة إن فى هزيمة قائدالجيش فائدة، لكننى لا أرى الآن إلا ضرراً ما بعده ضرر. لقد كان التمرد فى السابق خارج حدودنا فصار الآن بين قواتنا داخل الحدود.. إن قائد الجيش رغم نفوذه كان تابعاً لنا يأتمر بأمرنا ولا يتمرد علينا، لكن تمرد الجيش الآن يتهدد العرش ذاته».. فقال نختيس: «تمرد قوات الجيش هو مرض فى جسد الدولة لا ينبغى قبوله، كما أنه خيانة عظمى لعرش المملكة.. اتركهم يا مولاى حيث هم ولا تكترث لأمرهم فشمس الصحراء الحارقة ستكوى تلك البثور وتخلصك منهم كما خلصتك من قائدهم».

فالتفت الملك إلى كبير الكهنة وتمعن النظر فى رأسه الحليق وعينيه الجاحظتين وأدرك كم يكره هذا الرجل.. إنه يكرهه أكثر مما كان يكره قائد الجيش، فهو الذى تسبب فى ذلك التمرد داخل الجيش.

قال الملك لكبير الكهنة: «أريدك أن تذهب بنفسك إلى قواتنا فى الصحراء.. ستكون مهمتك أن تؤكد للجنود حرصى الشخصى على سلامتهم»، ثم أعطى الملك لكبير الكهنة لفافة بردية مختومة بالختم الملكى، وقال له: «عليك أن تقرأ عليهم هذا المرسوم الملكى القاضى بأننا عفونا عنهم جميعا عفوا ملكيا كاملاً، ثم تعود بهم إلى الوادى».

قال نختيس: «تعلم يا ملك الملوك أن أمور الدنيا ليست من اختصاصى، أنا ليس لى إلا عبادة آمون رب السماوات والأرض وفاصل الليل والنهار»، فرد عليه فرعون: «إن فى إنقاذ قواتنا المحاصرة فى الغرب خير عبادة للرب وأكبر قربان للسماء». فقال الكاهن: «ولكن لم اخترتنى أنا؟» رد عليه الملك: «اخترتك لأنك كبير الكهنة ورعايانا المحاصرون سيصدقونك ويثقون فى حديثك، اذهب إليهم على الفور وخذ معك كل ما تحتاجه».

قال الكاهن: «ما أحتاجه هو بركات آمون التى لا تتأتى إلا برضاكم الملكى عنا»، فقال الملك فى اقتضاب: «لك هذا» وانتهت المقابلة.

أعد نختيس عدته ومضى غربا على رأس قوة عسكرية تحمل كل العتاد الذى تحتاجه القوات المحاصرة من أجل عودتها سالمة. وحين وصل أخيرا إلى القوات فى موقعها على الحدود وجد حالها بائسا بأكثر مما كان يتصور، كان المرض والوهن قد تمكنا من أفرادها، وما إن حط رحاله بينهم وسط الصحراء القاحلة حتى هللوا لقدومه وهتفوا بحياته وبسقوط الملك، لكن نختيس أكد لهم أنه لم يأت إلا بأمر من فرعون، وظل يحدثهم ثلاثة أيام متتالية فازداد التفافهم حوله وهتافهم بحياته.

وفى اليوم الرابع تسلل أحد الجنود من خلف كبير الكهنة وهو يواصل حديثه للقوات وما إن انتهى من الكلام حتى سارع الجندى فوضع خوذة نحاسية صدئة فوق رأس نختيس صائحا: «عاش نختيس فرعون مصر خادم آمون ملك ملوك العالمين!» فردد بقية أفراد الجيش الهتاف وراءه.

وجاء قائد القوات التى صحبت نختيس منزعجا لما حدث وطلب أن يصدر له الأمر بقمع تلك الخيانة فى مهدها قبل أن تصل أنباؤها إلى الوادى فيحدث ما لا تحمد عقباه.. لكن نختيس قال له وهو ينظر إلى قرص الشمس الأحمر الهابط فى الغرب: «تلك هى مشيئة آمون فى علاه أيها الجندى، وليس لنا أن نتدخل فيها». وأضاف دون أن ينظر إلى القائد: «إن الآلهة تتدبر أمورنا بما تراه وما علينا نحن إلا الامتثال لإرادتها»، فقال القائد: «ولكنا جئنا هنا فى مهمة محددة..»، فقاطعه نختيس: «لقد طغى الملك وفسد فكانت مشيئة آمون أن يعود العدل والرخاء إلى أرض مصر على يدى كبير كهنته، وبمعاونتكم، وبجند مصر الأبرار الذين يشرفون بقيادتكم».

سكت القائد ولم يتكلم أمام مشيئة آمون فى علاه، فوضع نختيس يديه فوق صدره فى علامة الصولجان وقال: «إنه قدرى بمثل ما هو قدركم.. اذهب على الفور إلى القوة التى أتيت بها وأخبر أفرادها أن ينضموا إلى إخوانهم الذين كانوا محاصرين، فغدا سنعود جميعا إلى الوادى لنتولى مسؤولياتنا.. أنا فرعون مصر المختار من آمون، وأنت قائد الجيش المصرى المعين من فرعون».

حين وصل إلى الملك فى قصره أخبار ما حدث على الجبهة الغربية لم يصدق أذنيه إلى أن تأكد أن نختيس عبر الصحراء الغربية بالفعل، وأنه يتقدم إلى الوادى على رأس القوات الموحدة، بعد أن انضمت قواته للمتمردين.. خرج الملك على رأس قوة من حرس القصر لملاقاة نختيس فى موقعة دامية تمكنت القوات الموحدة خلالها من أسره فعاد إلى القصر الذى خرج منه فى الصباح ملكا ليدخله فى المساء أسيرا. أمر نختيس بحبس الملك داخل زنزانة أسفل القصر مكبلا بالأغلال فى انتظار أن ينفذ فيه فى الصباح حكماً بالإعدام بتهمة الخيانة العظمى، لأنه تسبب فى حصار الجيش الذى كاد يفنى فى الصحراء.

على أن تاريخ مصر لا يبقى على حال، فقد مضت السنون وانصلح حال البلاد فحققت الانتصارات فى شتى المجالات، لكن يبدو أن الخيانة ظلت كامنة تحت الانتصارات كالأفعى الرقطاء المدفونة فى الرمال تطل برأسها بين الحين والحين كلما وجدت من أيقظها، فتنتفض واقفة لتسدد لدغتها المميتة.

وفى بردية أدبية جميلة تحمل اسم «تعاليم إمنمحات» ويعود تاريخها إلى الأسرة الثانية عشرة يتقمص الشاعر صوت فرعون مصر العظيم إمنمحات الأول الذى اغتيل بيد أعوانه فى مؤامرة خسيسة فيوجه النصائح إلى ولده سنوسرت الأول قائلا:

لا تثق بصديق ولا شقيق

لا تسلم سرك لأحد

لقد أكرمت الفقير

وأكبرت الصغير

وربيت اليتيم

وأطعمت المسكين

لكن من تناول طعامى

هو من حرض الناس ضدى

ومن مددت له يدى

هو من أثار القلاقل حولى.

نصوص: محمد سلماوى

لوحات: مكرم حنين

تنشر نصوص البرديات يومى الاثنين والخميس من كل أسبوع