■ ذكرت أنك كنت فى صفوف الإخوان أثناء دراستك الإعدادية.. كيف انضممت للجماعة فى هذه السن المبكرة وكيف أثر هذا على تكوينك الشعرى؟
ـ أخى الأكبر هو من جعلنى أنضم للإخوان المسلمين كنت أقدم مع المؤذن التسليمات قبل الأذان مثل «الصلاة والسلام عليك يابحراً جارياً فى علوم الله»، وكنت أحضر الاجتماعات ومأثورات الإمام الشهيد وحديث الثلاثاء فى الشعبة وبعضنا كان يختار ليقول كلمة الدعاة الصغار، وكنت أنا المختار فى معظم الأحيان لألقى قصيدة شعرية، وكان لهذه الفترة تأثير على تكوينى الشعرى بالطبع فقد كنت أكتب باللغة الفصحى، وحتى والدى نفسه دخل إلىَّ وأقنعنى بتعلم علم العروض من باب «الله يفتح عليك يا شيخ سيد»، وكان هناك عدد من الأنشطة الأهلية المحدودة جداً، ولكن كانت هناك بعض مراكز للتجمعات من بينها شعبة الإخوان المسلمين والتى كانت تضم نشاطى المكتبة والدعاة وغيرهما، وبهذا انضممت للإخوان ثم بعد فترة انضممت لحزب مصر الفتاة بلعبة ابتزازية طفولية.
■ ما قصة هذه اللعبة؟
ـ كانت سنى 12 عاما وكنا جميعاً معبئين بمشاعر وأحلام وطنية تحررية للتخلص من المستعمر وفى منازلنا لا تنام القضية الوطنية أبداً خاصة مع انفجار الكفاح المسلح فى بورسعيد والقنال، وكان كل من الإخوان وحزب مصر الفتاة ينظم معسكراً لتدريب الفدائيين فاتجهت لمعسكر الإخوان وقلت لهم إننى أريد أن أنضم للكفاح المسلح وأن حزب مصر الفتاة قد عرض علىّ أن أنضم لمعسكره وإن لم يقبل الإخوان انضمامى لهم سأنضم لمصر الفتاة، وجاءنى الرد من مسؤول الأسرة التى أنتمى إليها بأن الكفاح أولى أن يكون من خلال الإخوان ووافق على انضمامى للمعسكر وخلال 40 يوماً تدربت على قواعد النيشان والمصارعة اليابانية، وكنا نعيش حياة شبه عسكرية فى إحدى جزر بحيرة المنزلة وانتهى معسكرنا برحلة على أقدامنا لمقر شعبة الإخوان المسلمين ببورسعيد.
وبعد فترة من انتهاء المعسكر بدأت أزور مقر حزب مصر الفتاة لقراءة مزيد من الكتب غير تلك التى انتهيت منها لسيد قطب والخولى وغيرهما، وفى هذه الفترة كان «أحمد حسين» نجماً ساطعاً إعلامياً ولم أنس مقولة «رعاياك يا مولاى» التى كانت تقال له فكان اتجاهى لمصر الفتاة بناء على الشغف للقراءة والفضول لمعرفة المزيد وهو ما لم أتمكن منه وسط الإخوان المسلمين.
■ كيف انتهت تلك الفترة من العمل مع الإخوان وحزب مصر الفتاة؟
ـ بعد أن وصلتُ سن الرابعة عشرة، وفى مرحلة الثانوية العامة انقطعت هذه التواصلات الصبيانية مع الحركة السياسية ولكنها تركت بداخلى حلم تحرر اشتراكى إسلامى غير واضح المعالم يتضمن مبادئ العدالة الاجتماعية والحرية الفكرية، كان الإخوان ومصر الفتاة يعدان سبباً فى تغذية كليهما، وبعد أيام من الثانوية العامة أعلن «سعيد رمضان» عن تأسيس منظمة الشباب فانضممت لها وحصلت على دورة تدريبية وتدربت على بندقية «الليهام فيلد» الشهيرة، ثم أعلنوا عن الحرس الوطنى الذى أسسته حكومة الثورة وتلقيت دورة تدريبية فى الحرس الوطنى.
■ عوداً إلى الشعر.. كيف تطورت كتاباتك فى هذه الفترة؟
ـ قابلت فى هذه الفترة وأنا بين 14 و15 عاماً.. أستاذ الرسم «شحاتة سليم نصر» الذى لم يكن له جدول أو حصص ثابتة وكانت حصة الرسم تعتمد على الهواية فكان يعتبر مسؤولاً عن الفرق الرياضية وكنت ألعب البينج بونج والڤولى بول وسط مدرسة تهوى السباحة فقط، كنت أكن للأستاذ «شحاتة» كل الاحترام فهو أول من قال لى «لا أعرف» وسط مجتمع «يعرف الغنى والكبير فيه كل شىء ويفتى بجميع الفتاوى».
وسألنى بعد أن عرف عن قصة كتابتى للشعر من زملائى عن كتاباتى وبعد أن قرأ لى اتجه لمدرس اللغة العربية بالمدرسة _ الأستاذ «عبدالكافى» _ الذى أكد له أن شعرى سليم ومنظم ومقفى جيداً وبدأت معه الدرس الثانى.
أكد لى أستاذى «شحاتة» أننى أكتب جيداً فى تأمل الوجود.. فرح مكتئب نشط حزين محب مهجور مجروح، ولكن هذه المشاعر الإنسانية تعد على أصابع اليد الواحدة تكتبها مرة تكون جيدة وأخرى تصبح جميلة وثالثة تصبح أجمل ولكنها لن تتجدد، وحينما سألته عن حل لهذا اللغز.. أجابنى: أنت هنا أمام البحيرة حولك 30 ألف صياد لكل منهم مشاعر لم يكتب عنها أحد تنتظر من يسردها فى أبيات، حاول أن تجد هذا الكنز المدفون فى قلوب الصيادين، وهنا بدأت أعبر الشارع الآخر من القصيدة لأبحث عن قصائدى التائهة كما قال لى مدرسى، ولكن حاجز اللغة كان يحول بينى وبين قصائد الصيادين، وجاءنى الحل عبر كتابات العظماء «يوسف إدريس» و«يوسف الشارونى» و«عبدالرحمن الخميسى» حيث طرحت قصصهم القصيرة حلاً يسيراً حيث تكتب الحوارات بالعامية ويكتب السرد باللغة الفصحى.
■ هنا دخلت إلى بوابات شعر العامية.. هل تذكر أولى كلماتك وأول قصيدة عامية كتبتها؟
ـ بدأت أكتب سرد القصائد بالفصحى والحوار بالعامية وقصائد العامية تنفصل عن جسد الفصحى وهى الأكثر انتماء للحياة ولنبض الناس وكانت غالبية قصائد الفصحى التى أكتبها قصائد ذاتية، ومع بداية دخول موجة «التفعيلة» لمصر كنت أقرأ الرسالة الجديدة فى عام 1955 وبها المحاولات الأولى لـ«صلاح عبدالصبور» و«نجيب سرور» و«أحمد عبدالمعطى حجازى» و«فوزى العنتيل» و«د. أحمد كمال زكى»، فكتبت قصيدة بصيغتين «الموالية والتفعيلة.. الموالية على ما أذكر بدأت بـــ«الفجر أذن يا بويا قوم بيت الراحة».. سيبك من النوم ومن الأحلام ومن الراحة.. قوم للشقا يابا مين بياكلها بالراحة.. ولا كلمة يابا مبتردش على ولدك ليه يابا ليه الدموع دخلتها طراحة.. العيد ورا العيد عليا فات ما حيانى.. لا فيه جديد للعيال ولا نوره حيانى.. ولا كحك يابا لكن صوت أمى حيانى.. ورا كل ميت تصوت والدموع تجرى.. كأنها دمك أنت آه يانى» إلى آخر القصيدة وكتبتها أيضاً بالتفعيلة لأقول «شهور ياما وأنا عايش ماليش أما.. فى دنيا كلها ضلمه.. وأنا خايف من الضلمة وأقول ياما ومترديش.. أنا عارف بإنك واخدة على خاطرك.. لكن ياما أنا هربان عشان خاطرك.. عشان يسكت لسان جوزك ولا يقولش..أنا هارميكى فى الشارع إذا ابنك ده ضرب ابنى.. ويضربنى.. وتجرى والدموع تجرى وتجرى عليه عشان تحوشيه.. ويرمى يمين.. تكونى طالقة يا أم حسين إذا حوشتى».. إلى آخر القصيدة الميلودرامية الطفولية.. وتستمر الكتابة الشعرية فى هذا الاتجاه بعضها بالفصحى وآخر محاولات شعر عامى تجريدى لا تتضح معالمه.
■ ما دور والدك فى هذه الفترة من تأرجحك فى الكتابة بين العامية والفصحى؟
ـ والدى كان مشغولاً بحياته العادية، وكان يرصد بين الحين والحين.. أثناء سهرى للانتهاء من إحدى مجلات الحائط مثلاً يقوم بمناقشة إحدى قصائدى لكنه كان قليل التدخل فى كتاباتى خلال تلك الفترة، ويمكن القول بأن جيلى عامة وأنا خاصةً كنا «تربية أمى» فهى الأقرب دائماً وهو الذى يحضر على فترات لكنه كان مهماً بالتأكيد ويظل هو معلمى الأول، وله فى حياتى تأثير كبير قد أقفز قفزة كبيرة لأسرده ولك أن تضعيه أينما شئت.. ففى آخر أيام حياته كنت أنتمى للتيارات اليسارية التى كان يشاع عن المنتمين لها أنهم كفرة، وأصيب بتسمم البولينا كان يشكو من عدم توافر علاج لألمه وقال لى «يغفر لى الله إن كان موجوداً كل ما فعلته بعد ما رأيت من عذاب» وأصبت بهول من مفاجأة وصوله إلى التشكك فى وجود الخالق ولو للحظة.. وبدأت أنا اليسارى الذى يشاع عنه الكفر أقول له «متقولش كده يا عم أحمد _ كما كنت دائماً ادعوه- إنت راجل مؤمن» واستكملت عظتى وأنا مازلت مصاباً بهول الصدمة بأن يتشكك والدى فى مشوار حياته كله وهو على أعتاب الدنيا وهو يبكى إلى أن انتهت بقوله.. «ربنا يفتح عليك يا شيخ سيد ربنا يزيدك إيمان».
والدى كانت له لقطات كثيرة مضيئة ومؤثرة فى حياتى.. وأنا صغير كنت أرى أولاد أعمامى يقبلون يده فحاولت فى إحدى المرات أن أقبل يده من باب الغيرة منهم.. وفاجأنى بأن نفر يده عنى وقال لى بصرامة وحزم «متبوسش إيد مخلوق»، وعندما كبرت فهمت دلالة هذا الدرس وشعرت برغبة شديدة فى تقبيل يده لأنه زرع هذه القيمة الإنسانية داخلى وهى الكرامة.. وحاولت أن أعيد الكرة كلما قابلته فكان يسحب يده دائماً ويكتسى وجهه بابتسامة رضا وهو يسبنى بلطف ويستغفر الله، ولم أستطع أن أقبل يده إلا وهو يموت.. وكنت أشعر بأننى مدين بهذه القبلة قبل أن يموت بالمطرية فى الدقهلية.
■ نعود مرة أخرى للمطرية.. ماذا بعد أن بدأت الكتابة بالعامية؟
ـ انتهيت من دراستى بالمدرسة الثانوية بالمطرية «أحمد ماهر الثانوية» وقبل أن أحدد التخصص الذى أختاره بين علمى أو أدبى، كنت فى غاية الفرح وأنا أختار القسم الأدبى لميولى للأدب ولكن والدى سألنى عن اختيارى وعندما عرف أننى اخترت القسم الأدبى طلب منى أن أغير اختيارى لأدخل كلية الهندسة فاخترت علوم الرياضة ونجحت ودخلت كلية الهندسة بجامعة الإسكندرية..لأعبر من مدينة الصيادين الصغرى لمدينة الصيادين الكبرى «الإسكندرية»، والتى كانت حقاً مدينة «كوزموبوليتان» بها جاليات من كل حوض البحر الأبيض المتوسط، أغلبهم من اليونانيين والطلاينة وأهل الشام والأرمن، وكل هذه الجاليات كانت لها منتدياتها ومجلاتها ونواديها الاجتماعية وعزف موسيقى كلاسيكية، وكذلك منتديات أدبية يرن فى أذنى حتى الآن من ضيوفها «عاطف إدريس» أستاذ بكلية الآداب بالإسكندرية، الذى كان يرعى الحركة الأدبية هناك، وكذلك كانت هناك ندوات شعرية وفى يوم الثلاثاء بمكتبة البلدية بالإسكندرية كان الشيخ «أسامة الخولى» يدرس محاضرة وجلسة استماع لموسيقى كلاسيكية، وكانت معظم الندوات بحضور أسماء لامعة مثل «محمود الكنفوشى» الزجال الشهير، وكذلك «محمد الأطمس» و«أبوسمرة» وخرج مع جيلى الشاعر الجميل «عبدالمنعم الأنصارى» و«الكيوى» وكان الأشهر فى الإسكندرية و«أمين قاعود» شقيق العظيم «فؤاد قاعود»، وكنت تقريبا لا أفوت عرضاً مسرحياً أو ندوة أو حفلاً أو كتاباً إلا قرأته، وكانت أول مقتنياتى الشخصية للكتب الخاصة هى عن مشاركتى فى إدارة مكتبة المدرسة سنوياً كمكافأة وأول كتب اشتريتها من حر مالى كانت من مكتبة الرملى بالإسكندرية وأذكر أنه كتاب الفيتورى الأول التى كنت أعشق بيوتها المستهلة بـ«أفريقيا أفريقيا استيقظى»، وتعرفت من خلال كتب المكتبة على «صلاح عبدالصبور» وهو يقول «الناس فى بلادى جارحون كالصخور» وتعرفت على «صلاح جاهين» فى «كلمة سلام» وأيضاً الشاعر الذى لم أكن أسمع عنه وهو «فؤاد حداد» حينما قال «قالك هانبنى السد قال الوطن كلمته ومشينا يد فى يد».
■ إذا كانت الإسكندرية علامة فارقة فى حياتك الفنية فماذا بعدها؟
ـ الإسكندرية كانت انفتاحة ومدرسة كادر فنى، وكانت متابعتى لهذه المدرسة ومواظبتى على حضورها سبباً فى رسوبى بإعدادية الهندسة المعمارية، وقررت أن أذهب للقاهرة لأدرس هندسة المبانى فى سبع سنوات أثقف نفسى لأقصى ما أستطيع ولا أنشر أى حرف قبل أن أنتهى من هذه السنوات السبع التثقيفية وكان حلماً طفولياً أهوج تحطم بعد عام عندما جاء العدوان الثلاثى فبعثت شعرى المكتوب بالفصحى للشاعر «فوزى العنتيل» بمجلة الرسالة الجديدة لأجده يفاجئنى بنشر مختارات منه ببريد القراء وكتب بها ملاحظة يقول فيها.. «اخترت هذا النموذج من قصائدك وقد شعرت من أشعارك بموسيقى جديدة سيعلو صوتها يوماً ليهز المشاعر إذا اهتممت بكذا وكذا»، وأنا بالقاهرة أيضاً كان أحد أصدقائى «مجدى مكارى» أخذ بعضاً من أشعارى لبرنامج «كلامه جميل» الإذاعى، ودعانى لأسمع البرنامج لديه بعد أن اتفق مع الأستاذة «سميرة الكيلانى» على يوم إذاعة البرنامج، ثم فى برنامجها الآخر «الثقافة الجديدة» استضافت الدكتور «محمد مندور» وكانت مادة الحلقة هى شعر طالب الهندسة ذى الجسارة التجريبية الحالم بلا آفاق للحلم «سيد حجاب».
وكنت قد قرأت فى عدد كبير من قوالب الشعر من بينها «السونيت» و«الرينادا» وأعجب بها الدكتور «مندور» وقال كلاماً جميلاً جداً بناء على «مدسوسات مجدى مكارى»، الذى أرسل شعرى لمجلة الشهر وكان يصدرها سعدالدين وهبة ويشرف على الشعر فيها الدكتور عبدالقادر القط، لتتصدر المجلة قصيدة «ثلاث أغنيات للبعيد» للشاعر سيد حجاب، وكانت هاتان الحادثتان سببا فى ضياع حلمى الطوباوى بعدم النشر لمدة سبع سنوات.
■ بعد أن فتحت لك القاهرة أبوابها وصفحاتها.. هل طرقت أبواب العمل السياسى مرة أخرى؟
ـ فتحت حياة أخرى فى القاهرة مع أوائل 1959 وتعرفت على اتجاهات كثيرة، وكنت دائماً أذهب لمعهد الفنون المسرحية لأحضر محاضرات الدكتور «محمد القصاص» و«على فهمى» و«محمد مندور»، وكان لى أصدقاء كثر بكلية آداب عين شمس التى كانت تدرس بها أختى، وبعد ضربة يناير 1959 تعرفت على الكاتب أسامة أنور عكاشة الذى كان يدرس فى نفس الفترة، لأنضم لإحدى الفصائل اليسارية التى تعتبر «يسار اليسار» والتى اقتنعت بفكرها وأذكر أننى حينما طلبت ذلك قلت لمن جندنى للتنظيم اليسارى «سأدخل هذا التنظيم بشرط ألا يناقشنى أحد فى مسألة تدينى ولا أريد أن أناقش أحداً فى هذا إنها مسألة شخصية ولا تخص أى شخص غيرى (فجاءنى الجواب) ستقابل عدداً من الملحدين.. لا تناقشهم فى إلحادهم ولن يناقشوك فى إيمانك» وقد كان.