المطران عطا الله حنا رئيس أساقفة سبسطية الروم الأرثوذكس فى القدس.. هو من الجيل الذى ولد بعد نكبة فلسطين وقبيل نكسة العرب عام 67، فكان طبيعيا أن يقيم جسرا بين الدين والنضال فأزعج الإسرائيليين بسبب نضاله المستمر، فاتهموه بأنه داعم للإرهاب واعتقلوه أكثر من مرة بسبب وقوفه الدائم ضد سياسات الاحتلال واعتراضه على بيع بعض ممتلكات الكنيسة الأرثوذكسية فى القدس لهم.
المطران عطا الله حنا أثبت كغيره من المناضلين المسيحيين مثل عزمى بشارة ووديع حداد ونايف حواتمة، أن النضال يجمع المسيحيين والمسلمين فى خندق واحد من أجل تحرير الأرض المحتلة.
يؤكد مطران القدس للروم الأرثوذكس فى حواره لـ«المصرى اليوم» فى أبوظبى، أن المسيحيين فى فلسطين والمشرق العربى مواطنون عرب وليسوا من مخلفات الحروب الصليبية، وأن الديانات لا تفرق بين الناس وأن تحرير القدس مسؤولية المسلمين والمسيحيين معاً.. وإلى نص الحوار:
■ أطلقتم مؤخراً وثيقة «وقفة حق» باسم مسيحيى فلسطين.. ماذا عن هذه الوثيقة وأهدافها؟
- هذه الوثيقة تهدف إلى مخاطبة الغرب وخصوصاً الكنائس الغربية من أجل الدفاع عن القدس والقضية الفلسطينية. وتعتبر الوثيقة الصادرة باللغات العربية والإنجليزية والفرنسية والألمانية مناشدة ورسالة من مسيحيى الأراضى المقدسة إلى كافة مسيحيى العالم بضرورة التحرك من أجل حماية المقدسات فى فلسطين وتحديداً فى مدينة القدس لما تمثله من مكانة دينية خاصة لدى الطوائف المسيحية فى شتى بقاع العالم.
وطالبنا من خلال الوثيقة المجتمع الدولى بوقفة حقّ تجاه ما يواجهه الشعب الفلسطينى من ظُلم وتشريد ومعاناة وتمييز عُنصريّ على مدى ستة عقود، وأوضحنا أن الاحتلال العسكريّ لفلسطين خطيئة ضد الله والإنسان لا تغتفر إلا بالسلام العادل وتحقيق المساواة.
ونتمنى أن تلقى هذه الوثيقة استحسان شريحة عريضة من مسيحيى العالم كما حصل مع وثيقة جنوب أفريقيا 1985 الشهيرة والتى لاقت الترحاب والتأييد وأنهت العنصرية وغدت مِيثاقاً ضد الظلم والاضطهاد.
هذه الوثيقة ليست خطاباً سياسياً ولا انتخابياً، ولكننا فضلنا أن نخاطب الغرب بلغة وطريقة حضارية، من دون أن نغفل ثوابتنا الفلسطينية.
■ بصفتك من المهتمين بالدفاع عن القدس.. ماذا عن الوضع الحالى فى المدينة المقدسة؟
- لست مهتماً بالقدس.. أنا القدس، من يهتم بالقدس قد يكون بعيد متضامن، أما أنا فعلاقتى بها ليست علاقة اهتمام وإنما علاقة بمدينة مقدسة للمسيحيين والمسلمين من سكان فلسطين. القدس التى يحتفل بها هذا العام عاصمة للثقافة العربية والتى نتمنى من الدول العربية أن تتخذها عاصمة أبدية للثقافة العربية، هى لنا وليست للاحتلال ولا للعنصرية، ونحن فى القدس، مسيحيين ومسلمين نناضل من أجل تحريرها فهى تسكن فى قلوبنا وانتمائنا وهويتنا.
ولا يمكننا أن نتحدث عن هوية وطنية للشعب الفلسطينى من دون تأكيد أن القدس هى العاصمة الروحية والوطنية لشعبنا. القدس فى كارثة حقيقية، والكارثة ليست فقط فى ما يمارس بحق المدينة من سياسات ظالمة من قبل الاحتلال الإسرائيلى، إنما فى الصمت العربى والانقسام الفلسطينى الذى سيستفيد منه الاحتلال.
ولا يكفى أن ندين إسرائيل وسياساتها، وعلى العرب أن يتوحدوا من أجل القدس، فإذا لم توحدهم المدينة المقدسة فمن سيوحدهم؟
وأدعو الأمة العربية أن تتوحد من أجل الدفاع عن القضية الفلسطينية وعن القدس قبل أن تطمس إسرائيل معالمها الإسلامية والمسيحية.
■ ما المطلوب من العرب تجاه هذا الواقع الأليم؟
- ليس المطلوب منهم الكلام والخطب الرنانة، فالقدس التى هى مدينة عربية مهمة لكل المسلمين والمسيحيين ليست فى حاجة لمن يتغنى بعروبتها، وإنما فى حاجة إلى من يعمل من أجل الحفاظ على هذه العروبة.
■ كيف يخرج العرب من دائرة الكلام إلى دائرة الفعل؟
- أعتقد أن العرب قادرون على أن يقوموا بأشياء كثيرة، فهم ليسوا أمة ضعيفة أو مترهلة، هم أمة مجيدة تمتلك مقومات حضارية وإنسانية كثيرة تؤهلهم للقيام بخطوات جادة لتحرير الأرض. لا يمكن أن ننال تعاطف العالم إذا لم نقنع الآخرين بعدالة قضيتنا، وتلك العدالة كفيلة بأن تحرك ضمائر الشرفاء فى كل بقاع الأرض.. المطلوب منا جميعاً العمل من أجل تحرير عاصمة فلسطين.. فقد انتهى وقت الكلام وحان وقت العمل.
■ فى رأيك.. هل ستتمكن إسرائيل من تهويد القدس بشكل كامل، خصوصاً فى ظل الصمت العربى والانقسام الفلسطينى كما ذكرت؟
- إنها عربية وستبقى عربية، وما شيده الاحتلال هو عبارة عن بؤر استيطانية، دخيلة على الواقع المقدسى، فالقدس بكل ما فيها من كنائس ومساجد وأسوار وأبنية تحمل طابعا متميزا، فهى مدينة متميزة بطابعها المعمارى وبطابعها الحضارى وبوجهها الإنسانى المتميز، وما بناه الإسرائيليون فيها هو شىء غريب عن هذا الطابع، وبالتالى الصورة المهيمنة على مدينة القدس بالرغم من كل سياسات إسرائيل الاحتلالية هى صورة الوجه العربى، من يأتى إلى القدس أول ما يراه كنيسة القيامة والمسجد الأقصى، هذا الوجه العربى لهذه المدينة المقدسة، لا توجد هناك قوة احتلالية أو غير احتلالية قادرة على حجبه.
■ شاركت فى عدد من القمم العربية والإسلامية.. ما دلالة هذه المشاركة وما جدواها؟
- مشاركتى فى بعض القمم العربية والإسلامية جاءت للتأكيد على حقيقة تاريخية نؤكد عليها دائما، وهى أن المسيحيين فى فلسطين والمشرق العربى جزء لا يتجزأ من الأمة العربية، فهم مواطنون عرب وليسوا من مخلفات الحروب الصليبية، وعندما جاء الفتح الإسلامى للقدس، كان مَنْ استقبل خليفة المسلمين عمر بن الخطاب عندما جاء إلى المدينة المقدسة هو البطريرك الأرثوذكسى العربى الدمشقى صوفرونيوس..
نحن كنا قبل الإسلام وبعد الإسلام وسنبقى، وأنا كمسيحى عربى أنظر إلى الحضارة الإسلامية كجزء من مكوناتى الثقافية، وعلى المسلمين أن ينظروا إلى الحضارة المسيحية كجزء من مكوناتهم الثقافية فنحن كمسيحيين ومسلمين توحدنا ثقافتنا العربية وانتماؤنا، وأعتقد أن الديانات لا تفرق بين الناس لكن هناك أناساً يتبعون لهذه الديانة أو تلك، هم من يفرقون بين البشر، فالإسلام الحنيف والمسيحية الحقة لا يفرقان بين الناس، وعندما أشارك فى مؤتمر إسلامى أشعر أننى بين إخوتى، ونحن نشارك كمسيحيين فى تلك المؤتمرات لنؤكد البعد المسيحى للقدس وللقضية الفلسطينية، ونحن حريصون على المشاركة فى حل القضايا القومية، والقدس أمانة فى أعناقنا، وواجب علينا جميعاً أن نعمل من أجل تحريرها.
وفى كل قمة عربية أو إسلامية كنت أشارك فيها، كان يطلب منى أن أتحدث، والحمد لله كنت ألمس أن هناك أصداء إيجابية لما أقوله وما أبديه ولا سيما أننى أنتمى للقدس التى ينظرون إليها فى الإسلام على أنها أولى القبلتين وثالث الحرمين، وهذا أمر نحترمه ونقدره، وفى ديانتنا المسيحية لا يوجد لدينا أقدس من القدس، ففيها عاش المسيح ونادى بقيم المحبة والتسامح بين الناس، لذلك إذا أردنا التحدث عن القدس وقضيتها، فعلينا أن نبرز أبعادها الإسلامية والمسيحية.
■ ماذا عن وضع المسيحيين فى القدس؟
- وضع المسيحيين فى القدس مثل وضع المسلمين، وعندما نتحدث عن القدس فنحن نتحدث عن الشعب الفلسطينى بكل طوائفه من مسلمين ومسيحيين، وما يعانيه إخواننا المسلمون نعانيه نحن المسيحيين، والهجرة التى ألمت بالشعب الفلسطينى ألمت بالطرفين لكن تداعياتها تظهر أكثر بين المسيحيين لقلة عددهم، فهم الآن لا يشكلون سوى 1.5% من سكان فلسطين التاريخية منهم 60 ألفاً فى المناطق المحتلة عام 1967 «القدس والضفة الغربية وقطاع غزة» و150 ألفاً فى المناطق المحتلة عام 1948، أى أن عددهم الإجمالى يبلغ 210 آلاف نسمة فقط، والهجرة مازالت مستمرة ومتواصلة.
وهجرة المسيحيين خسارة للشعب الفلسطينى كله وليس للحضور المسيحى فقط، فهم مازالوا عنصراً فعالاً بالنسبة للقضية الفلسطينية، هنالك كارثة حقيقية وهى حدوث تراجع كبير فى أعداد المسيحيين بسبب مضايقات الاحتلال المستمرة، فهل يعقل أن تكون الأرض التى ولد فيها المسيح وانطلقت منها الديانة المسيحية إلى العالم خالية من المسيحيين؟ لا يمكن أن نتخيل القدس ولا فلسطين دون مسيحيين، حيث يشكلون مع إخوانهم المسلمين أسرة الشعب الفلسطينى المناضلة من أجل تحرير الأرض المحتلة.
■ كيف يمكن وقف نزيف الهجرة المستمر؟
- أعتقد أن هجرتهم لن تتوقف إلا بحل عادل للقضية يضمن الأمن للشعب الفلسطينى، وكذلك إزالة الجدران والحواجز التى تعوق انتقال وتواصل الفلسطينيين بين المدن المختلفة، ولا تنس أن نكبة 1948 هجّرت كثيراً من المسيحيين وهم ممنوعون من حق العودة، فهم لاجئون فى كل مكان فى العالم، وبالتالى فالقضية ليست قضية بقاء، وإنما قضية حق عودة لكل الفلسطينيين، وهو حق مقدس ولن نتنازل عنه، فأنا بالنسبة لى حق العودة أهم من تكوين الدولة ومن تحرير القدس، لأن الفلسطينى إذا عاد إلى بلده فهو الذى سيحرر القدس والدولة.
■ الأوقاف المسيحية والإسلامية فى القدس.. ماذا عنها؟
- كل شىء مهدد فى ظل الاحتلال الذى لا يستثنى أحداً ولا يستثنى مساجد أو كنائس أو أوقافاً إسلامية أو مسيحية، ولذلك عندما أتحدث عن القدس وفلسطين، فأنا أتحدث عن الكل وليس عن الكنيسة فقط، فأنا خادم لكل الشعب الفلسطينى، لأن واجبى الروحى والإنسانى والقومى يحتم علىّ الدفاع عن كل الأوقاف والأملاك العربية فى القدس سواء كانت مسيحية أو إسلامية. .
والمؤامرة على القدس كبيرة جداً، وإسرائيل منذ الاحتلال استولت على الكثير من العقارات والأوقاف الإسلامية والمسيحية، فمقر الهيئة الإسلامية العليا فى القدس الغربية، الذى أسسه الراحل العظيم الشيخ أمين الحسينى، يريد الإسرائيليون تحويله إلى فندق فى الوقت الحالى، وكذلك الأوقاف المسيحية تم الاستيلاء على كثير منها زوراً وبهتاناً، وهذا أمر غير قانونى، ويجب أن ترجع الحقوق إلى أصحابها، فإجراءات الاحتلال غير شرعية ولن نعترف بها.
■ ماذا عن أوضاع الكنيسة المصرية فى المدينة المقدسة؟
- فى مدينة القدس هنالك كنائس أرثوذكسية وكاثوليكية وإنجيلية، والكنيسة القبطية المصرية تنتمى إلى الطائفة الأرثوذكسية، ونحن نحترم هذه الكنيسة ونقدر جهود ومواقف البابا شنودة الثالث، بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية، فى دعم القضية الفلسطينية، وعموماً: كنائس كل الطوائف تعانى من مضايقات الاحتلال التى لا تنتهى.
■ هل تؤيد فكرة أن تكون القدس عاصمة لدولتين؟
- أنا من أولئك المعتقدين بأن فلسطين يجب أن تكون دولة واحدة يعيش فيها الجميع مسلمين ومسيحيين وحتى اليهود، وعندما أقول اليهود فلا أقصد هنا المستوطنين الذين نهبوا الأراضى واستولوا على حقوق الفلسطينيين بغير حق، نحن لا توجد لدينا مشكلة مع اليهود.. مشكلتنا مع الصهيونية، أنا أؤمن بدولة واحدة يعيش فيها الجميع، وفكرتى هذه تزعج كثيرين.. نحن لن نتنازل عن القدس ولا أى مدينة عربية فى فلسطين التاريخية مثل يافا وعكا والناصرة وغيرها من المدن التى هى ملك لآبائنا وأجدادنا.