هيكل ومدرسته :قلق توفيق الحكيم واختراق ليدل هارت 5-5

عبد الله السناوي الخميس 26-09-2013 22:51

سأله «توفيق الحكيم» ذات صباح فى منتصف الستينيات أن يبدى رأيه فى مقال كتبه للتو، ومقالاته تمزج ما بين الأدب ونقده والحياة وتأملاتها.. فاجأه السؤال لكنه أجاب على الفور: «يا أستاذ توفيق أنا أقرأ ما تكتب كأى قارئ آخر، أرسله إلى المطبعة أيا ما كتبت ولا تراجع أحدا».. وكانت فى خاطره قاعدة استقرت: «عندما يكون صاحب الرأى تجربته عريضة واسمه يزكيه فهو وحده من يتحمل مسؤوليته أمام الرأى العام ولا شأن لأى رئيس تحرير بما يكتب».

بدا أمامه رائد المسرح العربى، وروايته «عودة الروح» ألهمت «جمال عبدالناصر» وجيله فى مطالع الشباب، مصرا أن يقرأ ما كتب، وأن يسمع ملاحظاته عليه. لم يكد يطالع النص ويشرع فى القول: «هناك بعض ملاحظات» حتى استوقفه «الحكيم» طالبا إعادة المقال إليه ومزقه بلا تردد ملقيا أوراقه فى سلة مهملات بجانبه.

لم يكن «الحكيم» مستريحا لما كتب واستبد به قلقه.. أراد أن يتأكد بنظرة أخرى يطمئن إليها أن أسبابه فى محلها. القلق من طبائع الإبداع، فما هو رتيب ومألوف ومتوقع لا يلهم إبداعا يبقى أو يفضى إلى رؤية تختلف.. فى القلق سعى إلى شىء من الكمال لا يدركه لكنه يطلبه.

كان هو نفسه ذات الرجل.. فالقلق يلازمه قبل الكتابة وبعدها، وطقوسها تستهلك يوما كاملا، لا يفكر فى شىء آخر ولا تكون فيه مواعيد تشتت، لكن مشكلة جديدة استجدت عليه فى أحاديثه التليفزيونية.

عندما يكتب لديه فرصة مراجعة المعلومات وضبط السياقات، وأن ينظر فيها مرة بعد أخرى، أحيانا يمزق ما كتب ويبدأ من جديد: «إن استشعرت أن موضوعك يقلقك فلا تتردد أن تمزق ما كتبت».. «وإن أردت تغييرا جوهريا فابدأ من جديد حتى لا تربك النص والقارئ معه وتفقده اتساقه ومنطقه واحترامه».

لشاشات التليفزيون طبيعة أخرى، يعد نفسه فى أحاديثه المسهبة لما يريد أن يقول، لكن ما أن تتحرك الكاميرات فلا سبيل إلى مراجعة.

بعد بث أولى اطلالاته التليفزيونية قبل نحو عشر سنوات لم يقدر على النوم فى مواقيته قلقا على الصورة التى بدا عليها، وما إذا كانت إضافة لحياته المهنية أم خصما منها.. «كل إطلالة جديدة اختبار جديد».. «تقول لى إن تاريخى يشفع أمام مشاهدى لكن التاريخ وحده لا يقنع أحدا بأنه يسمع ما يستحق الاستماع إليه، وإن لم يكن الكلام مقنعا فسوف يكون من العبث أن تذكر الناس بالتاريخ».

بالتفاته أخرى قال: «ليت عندى نصف الثقة التى أراها أمامى فى محيا متحدثين على الشاشات»!

(1)

لا يولد شىء من فراغ ولا مكانة بلا قلق يصاحبها.

فى قلقه روح فنان كامن.. والقلق يطرح تساؤلاته وشكوكه وهواجسه كأنه لم يمسك قلما من قبل ولا اسمه دوى فى بلده ومحيطه وعالمه كـ«أهم صحفى فى العالم بالقرن العشرين» على ما وصفته «الواشنطن بوست» عند بداية قرن جديد.. ولا أثره دعا مديرة مركز التدريب فى وكالة «رويترز»، وهى تقدمه لإلقاء محاضرة فى جامعة «أوكسفورد» قبل سنوات، إلى وصفه بـ«الأسطورة الحية»، كانت لا تكاد تصدق أنها سلمت عليه يدا بيد قبل دقائق.

«لو تصورت أننى استوفيت الحكمة فإن دورى يكون قد انقضى».. «تاريخك يتوقف هنا وحركة الحياة تمضى من غيرك بحقائق جديدة وعصور مختلفة».. «فى كل مرة تكتب على ورق أو تطل على شاشة لابد أن يكون لديك شىء جديد تقوله لا يكرر ما اجتهد فيه غيرك».

هناك من يتصوره إلها إغريقيا فوق جبال الأوليمب ينظر من فوق، يستكفى بإرث تاريخه ويستغنى عن جديد عالمه، وأن ثقته فيما يكتب ويقول أقرب إلى النصوص المقدسة، وهذه أوهام لاحقت تاريخه، وكأى أوهام فإنها لم تكن صحيحة لا الآن ولا فى الماضى.. ولو كان على هذه الصورة الشائعة لما كان ممكنا أن يحلق فى عوالم الصحافة سبعين سنة متصلة من قمة إلى أخرى بعدها.

القلق يلازم الإبداع.. وفى مسرحية «توفيق الحكيم» الشهيرة «بنك القلق» شىء من شخصيته ونوازعه. النوازع ذاتها تملكت المواهب الكبيرة والاستثنائية فى التاريخ الفنى الإنسانى، وقد كانت سيدة الغناء العربى «أم كلثوم»، وجلال صوتها يهز الوجدان العربى من محيطه إلى خليجه، تكاد أن تهوى من فرط قلقها قبل أن تدخل على خشبة المسرح، كأنها تدخل اختباراً جديداً قد تخفق فيه، أو كأنها تعلمت للتو أبجديات الغناء، لكنها ما إن تبدأ فى الشدو تبدو ملكة على عرشها.

(2)

فى الصحفى لمحة فنان ومشروع روائى، لكن الصحافة على ما يرى «فن مجازى فماكيناتها تدور بالأخبار والتحقيقات وما يهم القارئ، وفى اليوم التالى تخرج إليه بجديد آخر، الفن ثابت وفى ثباته مشروع خلوده والصحافة متغيرة وفى تغيرها موهبة متابعة اهتماماتها».. «لسنا فنانين ولا روائيين ولا مؤرخين، لكن استلهام الفن فى روحه والرواية فى دراميتها والتأريخ فى أدواته يضفى على الرواية الصحفية جمالا وحيوية ودقة.. وهذا أقصى ما يطلبه صحفى».

«لا أستطيع ولا يستطيع غيرى أن يخطط لمجموعات كتبه على النحو الذى خطط به نجيب محفوظ لثلاثيته الشهيرة، فالروائى لديه مخطط عام له بدايات ونهايات يصوغها بقدر ما حباه الله من موهبة، يتحكم فى حركة الأحداث ومصائر أبطاله ويضفى على النص فلسفة ما يعتقد فيها، ولا نص عظيم بلا فلسفة وراء حركة أبطاله، بينما الصحفى محكوم فى روايته بالتاريخ الفعلى الذى لا يعرف بدايات ونهايات فحركته متصلة على الدوام، والصحفى يبدأ من نقطة ما افتراضية».

تجلت مواهبه فى البناء الدرامى لأبطاله وشخوصه فى رواياته لحوادث التاريخ المعاصر، ففى «سقوط نظام» قراءة فى الخلفيات الإنسانية لما قبل يوليو.. تراجيديا «الملك فاروق» وأسرته والرجال من حوله وصراعاتهم، وفى «ملفات السويس» قراءة أخرى لخلفيات إنسانية صاحبت الصراع على المنطقة فى حرب إرادات دخلت فيها طبائع بشر.. وفى «زيارة جديدة للتاريخ» بورتريهات سياسية لرجال اقترب من عوالمهم وجوانب إنسانية مجهولة فيها كـ«نهرو» و«اندروبوف» و«أينشتاين» و«خوان كارلوس».. وفى «ما بين السياسة والصحافة» تداخلت الرواية الأدبية مع زخم الوثائق مع انضباط فى الإيقاع يصعب على من ليست لديه مواهب الروائى الكامنة.. وفى «خريف الغضب»، بغض النظر عما أثاره من مساجلات سياسية صاخبة، بدا روائيا متمكنا من أدواته الفنية فى صياغة المشاهد الإنسانية وتقلبات نوازع البشر.

هناك أدوات يستخدمها فى إعداد موضوعه قبل أن يشرع فى كتابته، وأدوات أخرى يستخدمها أثناء الكتابة نفسها، فالأوراق والوثائق ذخيرته الحية والخرائط والصور كشافات تنير جوانب خفية، لكنه ما أن يبدأ فى وضع ما لديه على ورق فإنه يلتفت إلى ضرورات البناء الدرامى وضبط إيقاع ما يروى متدفقاً ومقنعاً وممتعاً، ومن مهام الكاتب الكبير أن يمتع قارئه.

«التاريخ دراما هائلة والإيقاع يضمن ألا يربك سياق أو يشتت قارئ».. وقد كانت إحدى معضلاته فى رواياته لحرب الثلاثين عاما والقنوات السرية وما بين السياسة والصحافة ضبط الإيقاع، بحيث يضمن التدفق الطبيعى لدراما التاريخ موثقة بلا ملل فى البناء أو بزحام وثائق فى غير موضعها.

(3)

فى تجربته المهنية تنوعت مصادر تكوينه التى انطبعت على أسلوبه.. وكانت هناك «ثلاثة تأثيرات واضحة.. عقلانية هارولد إيرل رئيس تحرير الجازيت، ورومانسية سكوت واطسون، سكرتير تحريرها، وحلاوة أسلوب وسلاسة محمد التابعى».

العقلانية ترسخت طبائعها فيه عند النظر إلى الحوادث وحقيقتها وزكت عنده العناية بالوثائق، فلا أحد يعتنى بالتوثيق إن لم يكن تكوينه يميل إلى التفكير العقلانى فى تفسير الظواهر السياسية وتحولاتها وفك شفراتها وألغازها. والرومانسية تبدت طبائعها فى النظرة الإنسانية للحوادث، بما يضفى عليها مذاقا آخر تأخذ فيه الطبيعة البشر مداها دون تصادم مع الحقائق وما تؤكده.. وحلاوة الأسلوب وسلاسته يضع ما يكتب فى صورة يتقبلها قارئه.. «أن يكون الأسلوب ممتعا لا مملا والإيقاع منضبطاً ومتدفقاً والكلام واصلاً إلى أهدافه».. «كل ما يكتب وله قيمة ينطوى بالضرورة على فكرة تقنع وشىء يمتع، والإمتاع أحد أسس قضية الأسلوب».

تجربته مع الأستاذ «محمد التابعى» فارقة فى حياته، فهو أقرب تلاميذه وآخرهم، حاول أن يقلده فى بدايات حياته، وكل تلامذته حاولوا تقليده لفترة من حياتهم، فقد كان أسلوبه متدفقا وبسيطا، فى بساطة عبقريته وفى تدفق سحره.. كان العالم فى سنوات ما بعد الحرب العالمية الثانية يتغير، ولغة الكتابة تتغير بدورها وبدا «التابعى» زعيما لانقلاب كامل فى الكتابة الصحفية الحديثة ورائدا فى أسلوبه وطرائق التعبير، ومضى «تلميذه الأخير» على دربه متأثرا ومضيفا ومجددا، فـ«لا أحد امتداد لآخر»، هذه هى القاعدة التى اعتقدها من بداياته إلى اليوم. هناك فارق بين التأثير والتقليد، المدارس الكبرى فى السياسة والصحافة والعلوم الإنسانية مدارس تأثير، تأخذ منها مناهجها وتقنياتها وتضيف إليها بقدر ما تستطيع.

فى تجربته مع «الجازيت» دخل إلى عوالم الجريمة والحرب.. «فى الجريمة دراما بشر فى مجتمع قلق وإطلالة على ما يجرى تحت القاع وفى الحرب ذروة الدراما الإنسانية عند حافة الحياة والموت».. فى «آخر ساعة» دخل إلى عوالم المسرح والبرلمان.. «فى المسرح تراجيديا النصوص المكتوبة.. وفى البرلمان تراجيديا السياسة وصراعاتها».

فى سنوات تكوينه الأساسى تأثر برجلين آخرين لكل منهما شخصية تناقض الآخر.. الأول «كامل الشناوى» بحياته الصاخبة البوهيمية وطباعه الحلوة والمشاكسة «فى كل يوم قصة حب جديدة وإحباط آخر وقصيدة مبدعة».. كلما ورد اسم «كامل الشناوى» فى حوار تتبدى على وجهه ابتسامة رائقة، وتتدفق عليه الذكريات، ولا يستدعى اسمه فى جلساته الحميمة إلا على النحو الذى كان يخاطبه به: «كمولة».. بينما لا يذكر اسم «التابعى»، ولم تكن هناك حواجز بينهما، إلا مسبوقا بلقب «الأستاذ».

التناقض ما بين شخصيته الانضباطية فى مواقيتها وعملها وتصرفاتها وما بين شخصية «الشناوى» بكل جموحها وعفويتها وليلها الممتد حتى ساعات الفجر سر عمق ذكرياته، فـ«التناقضات تصنع جمال علاقاتها وخصوصيتها».. والثانى الدكتور «محمود عزمى» بثقافته الواسعة وعمق رؤيته، وقد أفضت حواراته المنتظمة معه قبل ثورة يوليو إلى إطلالة مختلفة على اهتماماته، كان يعتبره «من بقايا الرعيل الأول من كُتاب مصر العظام».. وفيما بعد يوليو قدمه إلى الرئيس «جمال عبدالناصر» الذى عينه ممثلا دائما لمصر فى الأمم المتحدة وفارق الحياة شهيدا على منبر مجلس الأمن.

كان وفيا لأساتذته بأكثر مما هو معروف ومعلن، كان بوسع «التابعى» و«الشناوى» أن يطلبا ما شاءا فى ذروة صعوده الستينى، وأن يمشى ما يطلبان على الرقاب.

باتساع تجاربه، حاول أن يطور أسلوبه، وأن يكتشف لنفسه خصوصيتها ومزيج التأثيرات التى اكتسبها، ودخلت فى تكوينه ولازمته طويلا.. وفى تجربتيه بـ«أخبار اليوم» و«الأهرام» قصة أخرى امتدت تأثيراتها حتى عامه التسعين.

(4)

التحق بـ«أخبار اليوم» فى عام (١٩٤٦) بعد تأسيسها بعامين، لا يعتبر نفسه منتسبا إلى مدرستها. تكوينه الأول فى «الجازيت» حكم اختياره الرئيسى فى نوع الصحافة التى يفضلها. كان الصحفى الشاب أقرب إلى المدارس الصحفية الرصينة فى طبعتها الإنجليزية التى تؤكد الخبر ودقته، وأن يكتب على النحو الذى تقرره التقاليد المستقرة، وأن تكون عناوينه موافقة لمضمونه، وأن تحرص التحقيقات على استكمال جوانب الملف الذى تبحثه بروية من يريد أن يضع الحقائق أمام قارئه، بينما انتهجت «أخبار اليوم» مدرسة إنجليزية أخرى أسسها فى مطلع القرن العشرين «ماكس أيتكن»، اللورد «بيفر بروك» فيما بعد، مؤسس مجموعة صحف «الديلى إكسبريس» و«صنداى إكسبريس» و«لندن إيفنينج»، التى تمازج ما بين التسلية والدعاية على ما يقول منتقدوها. أخذ «على أمين» توضيبها وترتيب صفحاتها واستخدامات الصور وطريقة كتابة العناوين وصياغة الأخبار وأضفى عليها طابعا مصريا تقبله الجمهور، وكان نجاح الصحيفة ساحقا فى منتصف الأربعينيات من القرن الماضى.. وانتهج توأمه «مصطفى أمين» أسلوبا فى الكتابة السياسية فى نقد حزب الوفد وزعيمه «مصطفى النحاس» مستندا إلى معلومات توافرت له عن خفايا الصراع والاتصال ما بين الوفد والقصر الملكى على نفس النهج الذى كتب به اللورد «بيفر بروك» كتابيه الشهيرين: «السياسيون والصحافة» (١٩٢٥) و«السياسيون والحرب» (١٩٢٨).

رغم أن تكوينه المهنى الأول فى «الجازيت» حال دون انتسابه لمدرسة «أخبار اليوم» إلا أن فترة عمله فيها مراسلا متجولا ومديرا للتحرير أتاحت أمامه أن يطل على القارئ المصرى بلغته العربية عبر سلسلة تحقيقات من مواطن الأحداث والحروب والصراعات والانقلابات لخمس سنوات متصلة.. وكان «على أمين» هو من اقتنع ودعم اقتراحه أن يسافر إلى مواطن الخطر، وأن يكتب من هناك لقارئ مصرى تداهم الأحداث منطقته دون أن يكون ملماً بحقائقها وأسرارها وخفاياها.. وكما يقول فإن «صحيفة أخرى غير أخبار اليوم لم تكن مستعدة وقتها أن تتحمل تكاليف رحلات صحفية طويلة إلى مواطن الأحداث الساخنة».

بانتقاله إلى «الأهرام» فى بدايات عام (١٩٥٧) شرع فى تأسيس تجربته الكبرى، وفى تجربته الأهرامية أرسى قواعد مدرسة جديدة، لكنها لم تستكمل مقوماتها على النحو الذى صنع أسطورته إلا بعد أن غادر مطابخها الصحفية عام (١٩٧٤)، فقد أضاف إلى تقنياتها أدوات، واتسعت تأثيراتها خارج ما هو معتاد فى المدارس الصحفية الأخرى.

هذه مسألة لافتة ومثيرة، فلأول مرة فى التاريخ يكتسب صحفى مكانة أكبر مما كانت له، وهو فى قلب السلطة ومركز صناعة القرار فيها، وأن تتسع مدرسته لغير أهل صنعته، فهو أسس لمدرسة تجاوزت تأثيراتها الصحفيين إلى الدبلوماسيين والعسكريين، فالأجيال الجديدة من الدبلوماسيين المصريين وجدت فيما كتب عن السياسة الخارجية ونظرية الأمن القومى أسسا لبناء رؤى وتصورات وعقائد تستند على الوطنية المصرية ومحيطها العربى، والقادة العسكريون المعنيون بقضية التخطيط الاستراتيجى والرؤى التى تحكم الأمن القومى وجدوا فيما كتب إضافات جوهرية أثرت وألهمت.. ومن بين من أثرت فيهم الفريق أول «عبدالفتاح السيسى» قائد الجيش المصرى الذى قرأ كل حرف كتبه.

(5)

فى يومه الأول رئيسا لتحرير «الأهرام» فاجأته تحدياته، فهو فى الثالثة والثلاثين من عمره بينما قيادات الصحيفة العريقة تجاوز أغلبهم الخمسين، وهو قادم من «أخبار اليوم» وهى تجربة صحفية تناقض ما اعتادته «الأهرام» من تقاليد رسخت وأساليب فى كتابة الأخبار والتحقيقات والعناوين وترتيب الصفحات وتوضيبها.. وهذه مسألة حساسة لوحدها بغض النظر عن ميله الطبيعى إلى النهج المهنى لـ«الأهرام».. لكنه استطاع تجاوز فجوة الأعمار وجفوة المدارس.

لمدة شهر كامل، تابع حركة العمل فى الصحيفة، ترك كل شىء يمضى بالطريقة المعتادة.. «لا أمليت تصورات مهنية متعجلة ولا أقدمت على تغيير الخط التحريرى العام».. و«أخذت وقتى فى التعرف عن قرب على الكفاءات والمواهب التى يمكن الاعتماد عليها فى أى خطط تطوير مستقبلية لاكتساب قارئ جديد».. «أخذت ما أحتاج إليه من وقت للتفكير فى خطط التطوير نفسها».. «عندما استكملت خططى بادرت بتغيير شامل فى الأهرام محاولا أن أضفى على موادها التحريرية حيوية تفتقدها مع الحفاظ على شخصيتها الرصينة».. وكان «تقديرى أن الاتصال بمصادر الأخبار بالطريق الصحيح واللائق مسألة حاسمة للانفراد الصحفى ودقة ما ينشر»، فـ«كل صحيفة تغطى أولا ما يغطيه غيرها من أخبار، وتنافس ثانيا فى متابعة تلك القصص الإخبارية واستقصاء خلفيات جديدة، ثم تحاول ثالثا أن تنفرد بأخبار تسجل أمام قارئها قدرتها على إشباع احتياجاته من المعلومات أكثر من غيرها».

لم يكن ما وصلت إليه «الأهرام» فى ستينياتها تحت رئاسته من معدلات توزيع عالية ضربة حظ، ولم يجر تصنيفها كواحدة من أكبر عشر صحف فى العالم ضربة حظ أخرى، فقد وهب وقته كله من أجل الصحيفة التى ترأسها «لا يملك الإنسان إلا وقته والانفلات فى الوقت يضيع كل شىء».. وأودع روحه فى بنيانها الجديد الذى صمم على أفضل ما أتاحه العصر، زين جدرانه بلوحات تشكيلية لكبار الفنانين، كأنها ثقافة بصرية رادفت ثقافة السمع، فقد كان ممكنا أن تسمع أنغام السيمفونيات تصدح بخفوت فى مكتبه.. وكان درة تاجها احتضانها العلامات الرئيسية فى قوة مصر الناعمة.

«لم أسمح لنفسى فى أى لحظة لأى سبب أن استدعى أحدا من كبار الأدباء والمفكرين الذين احتواهم الدور السادس إلى مكتبى فى الدور الرابع.. أنا الذى أذهب إلى مكاتبهم محاورا عندما يتوفر عندى وقت.. أنت تتحدث عن توفيق الحكيم ونجيب محفوظ ويوسف إدريس وزكى نجيب محمود ولويس عوض وبنت الشاطئ وصلاح طاهر وهم حجر الأساس وقتها فى بنية الثقافة المصرية وقوة مصر الناعمة فى محيطها».

«أردت توفير مناخ للإبداع بدون ضغوط أو شواغل أخرى وتركت القيمة تتجلى وفق ما يرى أصحابها».. مثلا: «قلت لنجيب محفوظ لا أريد منك أن تفعل شيئا غير أن تهتم بفنك الروائى، كل ما أتمناه أن تنشر كل عام رواية جديدة على حلقات».. وكان من بينها رواية «أولاد حارتنا»، التى أثارت جدلا وصخبا وأدت بعد سنوات طويلة إلى محاولة اغتيال الروائى العالمى «نجيب محفوظ»، لكنه أصر على استمرار النشر وتحمل مسؤوليته.

«أردت بوجودهم أن أؤسس لصحافة القيمة والارتفاع بمستوى الحوار العام وأن يكون المثقفون والأدباء والمفكرون الكبار فى قلب المشهد يتابعون ما يجرى فيه ويكتبون عن معرفة».

كانت تجربته فى «الأهرام» عميقة فى تأثيراتها وممتدة إلى أجيال لم تكن ولدت يوم أن غادره قبل أربعين عاما وبدت تأثيراتها وامتداداتها داعية إلى حملات هجوم عليه وصلت ذروتها فى دراسة موسعة عنه نشرتها صحيفة «يديعوت آحرنوت» الإسرائيلية فى سبتمبر (٢٠٠٩) تضمنت عبارة تشى بمحتواها: «روح هيكل الشريرة تطارد إسرائيل فى طوابق الأهرام».

(6)

تباينت طبائع أسلوبه بطريقة أو أخرى من مرحلة إلى أخرى.. فى بداياته بـ«آخر ساعة» بدا وصفيا والتعبيرات متدفقة بمترادفاتها، كان متأثرا بأستاذه «محمد التابعى»، والتأثير طبيعى فى الصحافة وغيرها، فلا أحد يبدأ من فراغ ولا موهبة تأسست كأنها نبت فى صحراء، لكل شىء قاعدة بناء يشيد فوقها، وكان «الأستاذ التابعى» هو قاعدة البناء الأولى، وأخذ أسلوبه طابعا إضافيا فى سلسلة تحقيقاته الميدانية للصراعات والحروب التى غطاها لصحيفة «أخبار اليوم» اعتمادا على المعلومات والأوراق لا الآراء والانطباعات قبل أن يستكمل مقومات أسلوبه على النحو الذى اشتهر به فى مقاله الأسبوعى صباح كل جمعة «بصراحة» بما يطلق عليه «المقال المعلوماتى»، وكانت السفارات الأجنبية فى القاهرة تترجمه على الفور فى برقيات ترسل عاجلا إلى مقرات الحكم فى بلدانها، فلعلها تستكشف مما كتب اتجاهات الحوادث فى أكثر بلدان العالم الثالث أهمية فى ذلك الوقت.. لكنه اكتسب روحا جديدة بعد أن غادر «الأهرام»، فالتحرر من قيود السلطة أضفى حرية أكبر على كتاباته انعكست على أسلوبه وتقنياته.. استلهم من نظرية «ليدل هارت» فى «الاقتراب غير المباشر» نهجا فى أغلب مجموعات كتبه اعتمادا على الوثائق ولغتها فى «الاختراق» و«التطويق».

«أن تكون كل حقيقة بوثيقة».. وعلى ما يقول فإنه: «فى تاريخ العسكرية الحديثة هناك استراتيجيتان كبيرتان.. كلاوزفيتز ثم ليدل هارت، الأول نظرية فى الحرب شاملة، والثانى نظرية فى القتال ناجعة».

وفيما يشبه المغامرة المهنية قام بانقلاب أساسى فى البناء العام لمقالاته محتذيا «والتر ليبمان»، أهم صحفى أمريكى فى التاريخ، بالخروج عن المألوف والمعتاد والكتابة فى مجلات أقل انتشارا فى توزيعها وأكثر قيمة فى محتواها فيما يعرف بـ«المقال المستطرد».. الذى «يظهر فيه كاتبه، وكأنه يتحدث وكأنه يمشى وكأنه يتجول بعيدا إلى حيث يأخذه موضوعه مفتوحا وطليقا».

«المقال المستطرد مكان وسط أطول من المقال وأقصر من الكتاب وهدفه أن يمسك بموضوع معين ويستوفيه قدر ما هو ممكن» على ما كتب شارحا.

تجربته فى «المقال المستطرد» امتدت لسنوات على صفحات مجلة «وجهات نظر».. والأسلوب احتفظ بمقوماته العامة، لكن جمله بدت أطول والأقواس التى يضيف داخلها معلومات إضافية زادت، وكان ضبط الإيقاع «بقدر ما هو ممكن» معضلته الأساسية.. قبل أن يعود مجددا باختلاف المنابر والقضايا إلى الأسلوب الذى ارتبط به فى مقالات «بصراحة» مع شىء من إضافات الخبرة والزمن.

«ما حدث طبيعى وإنسانى ومهنى فأنت تتحدث عن تجربة سبعين سنة».

(7)

عند افتراق الطرق مع «أنور السادات» ضمهما لقاء عائلى. تحدث الرئيس مطولاً عن رهاناته الجديدة فى الإدارة السياسية لنتائج حرب أكتوبر، وأطلق لأول مرة عبارته الشهيرة: «٩٩٪ من أوراق اللعبة فى يد أمريكا».. احتدم سجال وارتفعت أصوات وفى طريق عودته إلى بيته الذى يجاور بيت «السادات» قال لقرينته: «قررت أن أغادر الأهرام، فإما أن أدافع عن سياسة لا أقتنع بها وأخسر نفسى، وإما أن أكسبها وأنهى هذه الصفحة من حياتى».. ثم حاول أن يخفف عنها وطأة ما قال: «تأكدى أن الحقائق ستقول كلمتها فى النهاية».

وقد كسب «محمد حسنين هيكل» رهانه على موهبته ومستقبله وتأكدت مكانته، وأثرت مدرسته بعمق على أجيال تعاقبت: «لم تكن معنا عندما كنا هناك».