منذ الثانية بعد منتصف الليل، يقف عبد العزيز غريب، الموظف بالمعاش، أمام أحد مستودعات الأنابيب، على أمل الحصول على أنبوبة البوتاجاز، الرجل الذى شارف على الثمانين استند على عصاه الخشبية، وساعده جيرانه على النزول من الدور الثالث الذى يقطن فيه، كى يستقل أول «توك توك» يقابله ويسرع به إلى مخزن الأنابيب بشارع أحمد عرابى فى شبرا الخيمة.
مرت الساعات، وظهر أول شعاع شمس، عندما أخرج «عبد العزيز» منديله لمسح عدسات نظارته السميكة، وبدأ يقلب فى صفحات أحد الجرائد التى استعان بها ليقضى على ملل ساعات الانتظار خلال رحلة الحصول على أنبوبة.
فوق أنبوبته الفارغة جلس الحاج «عبد العزيز»، يروى لـ«المصرى اليوم» معاناته فى الحصول على أنبوبة البوتاجاز: «كل شهر على الحال ده، مفيش مرة جيت فيها المخزن وخلصت بالأنبوبة من أول ما أوصل، لازم انتظر ساعات، ويؤذن علينا الظهر والعصر، وإحنا برضوا لسه فى الشارع، وبيفضل المخزن مغلق لحد ما تيجى العربية، علشان أصحابه يتجنبوا الشجار مع الناس اللى زهقت من القاعدة».
لم يكن هناك بديل أمام الحاج «عبد العزيز» سوى الجلوس أمام باب المخزن، أملا فى الحصول على الأنبوبة المدعمة، التى وصل سعرها لـ50 جنيها على عربات الكارو، وتساءل: «لما أجيب أنبوبة بـ50 جنيه، ويبقى لى 500 جنيه بس من المعاش، ممكن أكمل عيشتى إزاى؟».
إلى جواره جلست «أم محمد»، ومعها ابنها الرضيع، تنتظر فى الطابور، تحتضن السيدة رضيعها فى محاولة لحمايته من برودة الطقس، وتدثره ببطانية صوف، تقول إنها وصلت إلى باب المخزن فى الخامسة فجرا لتجد أمامها طابورا طويلا، لكنها استطاعت أن تحجز لها مكانا، وأضافت: «أنا من ميت نما، وعلشان آجى المخزن لازم آخد (توك توك) بـ10 جنيه رايح جاى، بس كل ده أهون من أنى اشترى الأنبوبة من قدام البيت بـ40 جنيه، اللى أصلا ممكن نقعد أسبوع كامل من غير ما نشوف جنيه منهم».
أما ياسين أحمد، موظف بالقطاع الخاص، فأكد أن حصوله على الأنبوبة يستلزم غيابه عن العمل، وبالتالى الخصم من راتبه، يقول: «المرة دى وصلت أبويا بالأنبوبة للمخزن يقعد بيها بدل منى لأنى أوشكت على خسارة وظيفتى بسبب الأنابيب، ولا الشركة بترحم، ولا الحكومة بترحم».
وفى مخزن الانابيب بمنطقة مسطرد، قال عبدالحكم عامر، أحد الأهالى، إنه، ولليوم الرابع على التوالى، يفشل فى الحصول على أنبوبة من المخزن الذى يأتى إليه كل مرة من 7 صباحا ويظل حتى 12 مساء، بسبب الزحام وتدافع عربات الكارو للحصول عليها، لدرجة دخولهم فى شجار مع الأهالى، ينتهى بالطبع لصالح أصحاب العربات، كما أن الحصة التى تزود بها الشركة المخزن والأهالى غير متكافئة على الإطلاق مع أعدادهم التى زادت فى المنطقة بشكل كبير. أما كوثر محمود، التى فشلت فى الحصول على الأنبوبة منذ أسبوعين، فاضطرت للذهاب والإقامة فى منزل شقيق زوجها، لتعد الأسرتان الطعام للجميع على موقد واحد بأنبوبة واحدة، تقول: «لما لاقيت الأنبوبة بتاعتهم قربت تخلص اضطررت أنزل أكتر من مرة فى الفترة الأخيرة، علشان أغيرها بواحدة تانى لكن مافيش فايدة».
«الكشرى والجبن القديمة والفول والطعمية» بدائل نجاة كرم، ربة منزل، لإطعام أطفالها، فجميعها أطعمة لا تستلزم موقدا لإعدادها، تقول: «تعبنا وملينا خلاص، من شهر مش عارفة أغير الأنبوبة، حياتنا كلها متلخطبة ومحدش عارف الأزمة دى هتستمر لحد إمتى».
أما عزيزة محمد، فلم تتحمل الجلوس فوق الأنبوبة طيلة ساعات الانتظار، وفضلت الجلوس على الأرض، بعد أن لملمت ذيل جلبابها الأسود، وقالت: «هنعمل إيه؟، ما باليد حيلة، مفيش حد فى البلد دى هيحس يوم بالغلابة، لكن ربنا موجود».
أما طارق السيد، حلاق، فقرر المجىء لتبديل الأنبوبة تلك المرة بدلا من زوجته، التى عادت إليه فى المرة الأخيرة مكسورة القدم بعد أن سقطت عليها الأنبوبة من كثرة الزحام، يقول: «صرفت على زوجتى 200 جنيه لعلاج الكسر، وهو ده اللى أخدناه من الأنبوبة المدعمة، بدل ما ندفع 8 جنيهات، وناخدها فى سلام، صرفنا قدامها 200 جنيه».
كبر سنه وضعف قواه البدنية، دفعاه لتحويل عربة الخضار إلى عربة لنقل الأنابيب، إنها الحيلة التى لجأ إليها مصطفى محمد، 76 سنة، لنقل الأنبوبة التى لم يعد يقدر على رفعها فوق كتفيه، وقال: «أعيش بمفردى بعد زواج كل أبنائى ووفاة زوجتى، وفى كل مرة كان يأتى لى الأبناء المتزوجون بالطعام لمعرفتهم بأن الأنبوبة فارغة، لكننى لم أعد أرغب فى تحميلهم كل هذا العبء يوميا، فقررت النزول عشان أملا الأنبوبة واعمل أكلى بنفسى».
على الجانب الآخر، قال عبد النبى عرابى، صاحب مخزن، إنه لا توجد أزمة أنابيب فى منطقة شبرا الخيمة، لأن 60% من شقق المنطقة لديها غاز طبيعى، والأزمة الحقيقية فى أن بعض التجار يحاولون الحصول على أكثر من أنبوبة فى النقلة الواحدة، وهو ما ترفضه إدارة المخزن، فيضطرون للتحايل عن طريق استئجار أناس للوقوف فى الطابور والحصول على الأنابيب، وفى تلك الحالة لا يمكننى منع أى مواطن من الحصول على الأنبوبة.
وأكد «عرابى» أن المخزن يفتحه اثنان من موظفى التموين بمجرد وصول العربة، وبعد توزيع الأنابيب يغلقون المخزن بأيديهم، وهو الإجراء الرسمى الذى نتبعه، وإلا وقعنا تحت طائلة القانون.