يعتبر مؤسس تركيا الحديثة، وبطلها القومي في أعين مريديه، وعدو الإسلام ومحطم الخلافة في أعين خصومه، تمكن في سنين قليلة من البروز كقائد عسكري، ثم كزعيم سياسي، وألغى الخلافة العثمانية، وأسس تركيا المعاصرة التي أصبحت كما أراد دولة علمانية غربية الطابع والقوانين والهوى.
«مصطفي كمال أتاتورك» من مواليد عام 1881 بمدينة «سالونيك» اليونانية، التي كانت تابعة آنذاك للدولة العثمانية، وكان والده موظفًا بسيطًا آنذاك.
تلقى «مصطفي» تعليمه بمدرسة دينية تقليدية ثم بمدرسة حديثة، قم انتقل إلى المدرسة العسكرية العليا في عام 1893 في صباه، وهناك لقبه أحد مدرسيه بـ«كمال» لنبوغه الدراسي، فأصبح يلقب بـ«مصطفى كمال».
وتخرج برتبة «نقيب» عام 1905، و خاض حروبًا عدة ضمن الجيش العثماني في ألبانيا وطرابلس، قبل أن تشارك الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى إلى جانب دول المحور، وبرز نجم الضابط مصطفى كمال، كقائد عسكري من طراز رفيع، ليرقى إلى رتبة «جنرال» في عام 1916، وهو في سن الـ35 من عمره فقط.
وقبل تلك الأحداث بسنوات وبعد تخرجه من المدرسة العسكرية مباشرة كان قد أنشأ خلال خدمته في دمشق خلية سرية أطلق عليها «الوطن والحرية» ضد ما وصفه مريدوه «استبداد السلطان العثماني»، وعلى الرغم من أنه لم يعرف لهذه المنظمة نشاط سياسي يذكر مثل جمعية «الاتحاد والترقي»، فإن التنظيمين ينطلقان من مبدأ واحد، حتى قيل إن «مصطفى كمال» التحق فعلًا بالجمعية الأخيرة، بعد انكشاف أمر منظمته للسلطات.
اشتهر «مصطفى كمال» في اسطنبول بعد ما حققه مع قواته في «فلسطين وحلب وأنطاكيا» خلال الحرب، لكن أهميته تعاظمت بعد هذه الأحداث، حينما انتهت الحرب العالمية الأولى بهزيمة بلاده واحتلال أجزاء واسعة منها من قبل جيوش الحلفاء، حينها قدر لهذا الضابط أن يمارس دور المحرر الذي كرسه بطلًا قوميًا في عموم الدولة العثمانية، التي كانت لا تزال تستقطب عطف كثير من المسلمين.
وتزعم «مصطفى» ما سمي آنذاك بـ«حرب الاستقلال لتحرير الأناضول المحتل»، وظهرت كاريزما الرجل بصورة واضحة حينما رفض أوامر السلطان بالتخلي عن الواجب والعودة إلى اسطنبول المحتلة من البريطانيين، فاستقال من الجيش ونظم منذ مايو1919 قوات التحريرالتي قاتلت اليونانيين والبريطانيين والفرنسيين والإيطاليين تحت قيادته، حتى تمكن قبل نهاية صيف عام 1922 من طرد القوات المحتلة من بلاده.
أكسبت هذه الانتصارات «أتاتورك» شهرة في العالم الإسلامي الذي نظر إليه كبطل، لاسيما وأنه استعان بالرموز الدينية وعلماء الدين في حشد الناس للقتال معه، وانهالت عليه برقيات التهاني من البلدان الإسلامية، وتنبه إليه الغرب وكتب عنه الإعلام هناك ما زاده شهرة وتأثيرًا.
وخلال معارك التحرير وتحديدًا في ربيع 1920 أسس مصطفى كمال المجلس الوطني العظيم في أنقرة مكون من ممثلي القوى الشعبية المشاركة في حرب «التحرير»، ليتحول إلى حكومة موازية لسلطة الخليفة العثماني في اسطنبول.
وفي عام 1921 أصدر المجلس ما سماه «القانون الأساسي» الذي تزامن صدوره مع إعلان النصر وتحرير الأراضي التركية في صيف عام 1922، وأعلن خلاله «كمال» إلغاء السلطنة، وفي يوليو 1923 وقعت حكومة «أتاتورك» معاهدة لوزان التي كرست قيادته لتركيا باعتراف دولي.
وفي 29 أكتوبر 1923، أعلن «أتاتورك» مولد الجمهورية التركية وألغى الخلافة، وأعلن رئيسًا وجعل «أنقرة» عاصمة للدولة الجديدة بدلًا من اسطنبول، وبدأ سلسلة إجراءات استمرت بضع سنوات، غير من خلالها وجه تركيا بالكامل حتى أنه منع لبس «الطربوش والعمامة» وروج لـ«الملابس الغربية»، ومنع المدارس الدينية، وألغى المحاكم الشرعية، وألغى الألقاب المذهبية والدينية، وتبنى التقويم الدولي، وكتب قوانين مستوحاة من الدستور السويسري.
وفي عام 1928 ألغى «مصطفى» استخدام الحرف العربي في الكتابة، وأمر باستخدام الحرف اللاتيني، في محاولة لقطع ارتباط تركيا بالشرق والعالم الإسلامي.
وتحولت تركيا خلال 15 عامًا من حكم مصطفى كمال بشكل جوهري، ويذكر له الأتراك أنه أسس دولة قوية حديثة، لكن خصومه يشددون على أنه لم يكتف بإزالة آخر دول الخلافة الإسلامية، لكنه حارب الدين والتدين من خلال النظام العلماني الذي شرعه في تركيا.
ولم تكتف العلمانية الكمالية بفصل الدين عن الدولة، لكنها سيطرت على الممارسة الدينية، ومنعت كل مظاهر التدين بإجراءات قانونية تحميها مؤسسات الدولة وأبرزها الجيش.
وتوفى «مصطفى كمال أتاتورك» في 10 نوفمبر عام 1938، وبعد وفاته بخمسة أعوام، منحه البرلمان التركي لقب أتاتورك «أبو الأتراك» اعتزازًا به وتخليدًا له، وحتى اليوم ما زالت القواعد التي وضعها «أتاتورك» تحكم تركيا، لكن هذه القواعد ظلت موضع جدل داخلي معلن أو غير معلن، لأنها مست التدين الذي يمثل جوهر روح المجتمع، كما أن هذه القواعد تعرضت للانتهاك أكثر من مرة، وهي اليوم تواجه تساؤلات جدية ببقائها مع انتشار التيار الإسلامي في تركيا.