«اسكندرية اليوم» تـقضى يـوماً كـاملاً مـع ضحــايـا الــــــعقارات المنهارة فى «كرموز»

كتب: محمد عبد العال الأحد 30-05-2010 14:33

انتشروا على نواصى الشوارع وسلالم العقارات إلى جوار ما نجحوا فى الخروج به من أمتعة قبل أن تلتهمه الأنقاض، يراقبون الحفار الذى يقوم بإزالة الأنقاض، والحطام.. قلوبهم تزداد خفقاً فى كل مرة يقوم فيها الحفار بإخراج أشلاء «العفش»، آملين أن يخرج لهم فى إحدى المرات بـ«هدمة» بدلا من تلك التى يرتدونها منذ أكثر من أسبوع أو «بطانية» يلتحفونها ليلاً أثناء نومهم فى الشارع.

رحلة يومية يبدؤها ضحايا العقارات المنهارة فى كرموز فى التاسعة من صباح كل يوم من أمام منازلهم المنهارة لتنتهى أمام مسؤول الأمن بالمحافظة أو الحى، حيث تعودت آذانهم خلالها على كلمات «فوتوا علينا بكرة وربنا يسهل».. تلك الكلمات حفرتها المعاناة فى ذاكرتهم بسبب ما يلاقونه من أهوال خلال تواجدهم فى الشارع منذ أكثر من أسبوع.

برودة الساعات الأولى صباح كل يوم من الأيام الثمانية التى قضاها الأهالى فى الشارع، ورطوبة الأسفلت الذى يفترشونه طوال الليل على قطع بالية من «الحصير» البلاستيك، كانتا كفيلتين بتحويل أجسادهم إلى هياكل عظمية تكسوها طبقة رقيقة من اللحم، وتغطيها طبقة سميكة من الأتربة المنبعثة طوال «النهار» من الأنقاض مع كل «نسمة هواء» تتسلل إلى المنطقة.

تعاطف أهالى المنطقة مع المتضررين لم يكن غريبا، نظرا لطبيعتها الشعبية وحكم «الجيرة» و«العشرة»، بحيث أصبح من الطبيعى أثناء تجولك فى المنطقة أن تجد مدخل أحد العقارات مكتظا بالبقايا التى استخرجها الأهالى من الأنقاض دون أى تذمر من قبل ساكنيه.

محاولات مضنية تستمر لساعات طويلة يقضيها الأهالى كل يوم فى التنقيب عن بقايا أثاثهم وملابسهم وسط أكوام الحطام والأنقاض. وسط الضوضاء الناتجة عن عمل الحفار فى المنطقة، وفوق أنقاض المنزل رقم 76 بشارع الزمزمى، وقف محمد مصطفى، وهو يحاول استخلاص «شباك» خشبى من براثن أكوام الحطام والأتربة التى كونت فيما بينها بمساعدة الطبيعة تحالفا مضادا لجهود الأهالى المستمرة بشأن العثور على ما تبقى لهم من متعلقات.

«عيوشة أبوالفتوح» جلست «حافية القدمين» على كرسى خشبى طوال اليوم بالقرب من الحطام بينما تروى مأساتها منذ انهيار المنزل رقم 76 الذى كانت تقيم فيه لسنوات طويلة: «من يوم ما حصلت المصيبة دى وأنا مش قادرة أمشى ولا أقوم من على الكرسى زى ما أنت شايف، ومحدش سأل فينا من بتوع الحى يا ابنى علشان اللى ما معهوش بيموت فى البلد دى.. هأقولك إيه ولا إيه بس مش كفاية إننا نايمين فى الشارع وبقينا ملطشة لكل اللى رايح واللى جاى».

الوضع فى شارع محيى الدين لم يختلف كثيراً عما هو موجود فى شارع الزمزمى، فالمعاناة والمأساة واحدة وأيضا المصلحة أصبحت مشتركة، ففى ساعات النهار الأولى تنتشر أسر العقارات المنهارة على سلالم العقارات المواجهة للحطام، خاصة النساء منهم، فى حين يقضى الرجال يومهم فى التنقل بين كراسى المقهى والأنقاض فى انتظار ما لا يجىء.

انهيار تلك العقارات لم يعد مجرد كارثة حلت فجأة على بعض الأهالى فى المنطقة وإنما تحول إلى نذير «شؤم» لدى جميع سكان المنطقة، خاصة تلك الأسر المقيمة فى العقارات الملاصقة للمنازل المنهارة، نتيجة ظهور تشققات وشروخ واسعة فى جدرانها، وهو ما تقول عنه فوزية دياب عبدالله، إحدى المقيمات فى العقار رقم 85 بشارع محيى الدين: «طبعا سبنا البيت من الخوف وأخدنا حاجتنا وقاعدين فى الشارع دلوقتى لما نشوف إيه اللى هيحصل.. وعلى فكرة كل الناس هنا تعبانة من زمان ونفسها تستريح». كغيره من أفراد الأسر المتضررة، وقف فرج أحمد مكى، على باب حديدى لأحد العقارات التى تبدو عليها حداثة الإنشاء وهو يقول: «أبويا وأمى بيناموا عند الجيران وأنا بستنى القهوة لما تشطب علشان أنام فيها».

يهدد فرج بأنه فى حالة استمرار مماطلة مسؤولى الحى والمحافظة فيما يتعلق بتخصيص وحدات سكنية بديلة لهم تحميهم – بحسب قوله - من «تلطيش وبهدلة الشارع»، سوف تقوم جميع الأسر المتضررة بنقل إقامتها وبقايا أمتعتها من الشارع إلى الرصيف المواجه للمحافظة «لغاية ما يشوفوا لنا حل».

الجبن وأقراص «الفلافل» وأطباق الفول وأرغفة الخبز أصبحت مصدر الطاقة الوحيد المغذى لهذه الأجساد طوال اليوم، حسب قول على راغب عبدالله، أحد المتضررين: «علشان هنطبخ إيه ولا فين وكل شىء معانا راح تحت الأنقاض؟!».

أضاف على: «الواحد لسه طالع من السجن وبيقول ربنا تاب عليه وهيمشى كويس، لكن المسؤولين شكلهم مش عاوزين كده.. أنا نفسى حد منهم ييجى يشوف إحنا عايشين إزاى».

وتابع بنبرة اعتصرها غضب شديد، بعد صمت دام لحظات: «إحنا بقينا متسولين، هدومنا اللى لابسينها دى بقالها أسبوع على جسمنا، وموضوع روحنا للجيران ده بقى يسبب لنا ويسبب لهم حرج كبير، علشان كده بنروح الجوامع نقضى حاجتنا».

وداخل إحدى ورش السمكرة، على مقربة من دورة المياه «غير الآدمية» الموجودة داخلها - المواجهة للعقار رقم 76 -جلست أسماء وزوجها رجب محتضنة طفلتها الرضيعة إسراء، وهى تروى: «عم محمد صاحب الورشة كتر خيره عطف علينا وفتح لنا الورشة علشان ننام فيها وجاب لنا بطانية بنفرشها بالليل رغم إن حاله واقف بسببنا، وبنتى ربنا متوليها ومحنن قلب الجيران اللى بياخدوها يشطفوها ويغيرولها هدومها».

فى الثامنة مساء وما إن أسدل الليل ستاره على المنطقة حتى التف المتضررون فى شارع الزمزمى حول جهاز تليفزيون «أبيض وأسود» – أنزله أحد الجيران لتسليتهم ليلا – وضعوه أسفل إحدى النوافذ على صندوق خشبى متهالك، ليبدأوا بعدها فصلاً جديداً من النقاش الحاد فى وضعهم الحالى وموقف المسؤولين منه.

الخوف من البلطجية واللصوص ممن تمتلئ بهم شوارع المنطقة جعلهم يبحثون عن أماكن بديلة ليلا، لكى تتمكن النساء والفتيات من النوم، ذهب بعضهم للمبيت فى الورش والمقاهى، التى لا تبعد سوى أمتار قليلة عن أنقاض منازلهم، والبعض الآخر يتناوب أصحاب القلوب الرحيمة من الجيران استضافته فى منازلهم، بينما فضل آخرون قضاء ليلتهم لدى أقاربهم بعدما فشلوا فى الحصول على مكان يرحمهم من المهانة والبهدلة.

الثانية بعد منتصف الليل، أصبحت بالنسبة لهم موعداً ثابتاً يخلدون فيه إلى النوم، بعد يوم عاصف دام ساعات طويلة، حيث تتراص الأجساد على «الحصيرة» التى افترشوها منذ ساعات قليلة وسط الشارع بالقرب من «كنبة» عم على وكرسى الحاجة «عيوشة» التى التحفت بدورها «كوفرتاية» خضراء منذ أذان المغرب بعد أن أحست ببرودة الجو، أملا فى الاستيقاظ على أخبار سارة من الحى تنتشلهم من عذاب الشارع.