40 عام على نصر أكتوبر.. «هيكل» يكتب عن السادات ومعركة العبور

كتب: محمد حسنين هيكل الجمعة 04-10-2013 20:24

فى كتابه المهم، «السلاح والسياسة» والذى يعد وثيقة تاريخية لتفاصيل حرب 1973، روى الأستاذ الكبير محمد حسنين هيكل، تفاصيل ساعات الحرب بدقة ووضوح، وجاء فى الفصلين الثانى والثالث من الجزء الثانى من الكتاب، تفاصيل اللحظات التى مرت على الرئيس الراحل «محمد أنور السادات»، وكيفية تفكيره وردود فعله فى أول يومين من الحرب المجيدة، كما شرح «هيكل» قدر الإنجاز الذى حققه «السادات» بإدارته لحرب أكتوبر والذى وضعه بين كبار القادة السياسيين فى العالم ليحمل بعده لقب «الداهية السياسى».

استيقظ الرئيس «السادات» من نومه صباح يوم 6 أكتوبر فى الساعة السابعة والربع، وكأن أول ما فعله أن مد يده إلى سماعة التليفون واتصل بالعقيد «عبدالرؤوف رضا»، مدير مكتبه للشؤون العسكرية فى ذلك الوقت، وكان قد انتقل فعلاً ومعه مجموعة من ضباط أركان الحرب إلى مقر مؤقت يحتل ثلاث غرف فى بدروم قصر الطاهرة، وكان الرئيس «السادات» مشغولاً بنفس السؤال الذى نام به قبل ساعات: هل عرف العدو؟

وجاءه الجواب بأن العدو قد عرف، وهذا ظاهر من رد فعله على الجبهة. وكان هناك تقرير مختصر جاهز، وقد أعد للرئيس حالما يستيقظ. ووصل التقرير فى أقل من دقيقة إلى غرفة نوم الرئيس «السادات».

قرأ الرئيس التقرير، ثم أعاد قراءته، وتناول قلماً ووضع خطاً تحت جملة «وتعتبر القوات الجوية الإسرائيلية حالياً جاهزة ومستعدة لتنفيذ مهام العمليات».

وهكذا عرف الرئيس السادات أن إسرائيل قد «عرفت»- وكان واضحاً بالنسبة له أنه حقق سبقاً على الأرض. ولكن الخطر الأكبر خلال الساعات القادمة، وحتى ساعة الصفر هو أن ينقض من الجو على شكل محاولة ضربة إجهاض يقوم بها سلاح الطيران الإسرائيلى.. وكان هذا الهاجس هماً ثقيلاً على فكره وأعصابه- ولم يكن يعرف أن هذا الاحتمال قد استبعد، وأن هذه الضربة الجوية الوقائية لن تقع، لأن مجرى الحوادث- فى هذه الساعات- كان يتخذ مساراً آخر فى تل أبيب وفى واشنطن.

فيما بين الساعة الثامنة وحتى الساعة العاشرة إلا الربع من صباح يوم السبت 6 أكتوبر- كان الرئيس «السادات» فى قصر الطاهرة وليس فى رأسه إلا سؤال واحد: هل توجه إسرائيل ضربة إجهاض بالطيران ضد الجبهة المصرية قبل الموعد المقرر لبدء الهجوم وبقصد تشتيت وبعثرة صفوفه؟

وفى اليوم نفسه تقريباً، وفى بيت رئيسة وزراء إسرائيل- كانت «جولدا مائير» ومعها مجموعة من أعضاء مجلس الوزراء المصغر- يناقشون نفس السؤال تماماً.

كان «أنور السادات» مهموماً بالسؤال- وكانت «جولدا مائير» مهمومة بالجواب، ومن الغريب أن ردها كان بـ«لا»- متوافقاً بالضبط مع ما كان «أنور السادات» يتمناه، وإن اختلفت الأسباب لدى كل منهما.

فى الساعة الواحدة من بعد ظهر يوم السبت 6 أكتوبر وصل الرئيس «أنور السادات» إلى المركز رقم «10»- مقر القيادة الرئيسى للعمليات. وقد توجه فور وصوله ومعه الفريق أول «أحمد إسماعيل على» إلى مكتب القائد العام- وهناك قضى بضع دقائق ألقى فيها نظرة على خرائط التخطيط، واهتم بالسؤال عن مواقع القطع البحرية التى تحركت قبلها بأيام فى البحر الأحمر وفى البحر الأبيض، ثم سأل عن أعداد قوات الصاعقة التى تسللت إلى سيناء بالأمس لإبطال عمل مواسير اللهب السائل الذى كان معروفاً أنه بند رئيسى فى الخطة الإسرائيلية لعرقلة أى عبور. وكان هذا البند فى الخطة الإسرائيلية من أهم وأخطر العقبات المضادة التى رتبت لها إسرائيل، فلو أن هذه المواسير ظلت سليمة وتدفق ما فيها من لهب سائل، واشتعل حريق فوق مياه القناة، لكانت تلك ضربة مزعجة لموجات العبور المصرى الأول، خصوصاً أنها تستعمل قوارب مطاطية لحمل مقاتليها من ضفة إلى ضفة أخرى عبر هذا المانع المائى الكبير.

ولم تكن الإجابة التى تلقاها الرئيس «أنور السادات» قاطعة. فالثابت لدى القائد العام أن قوات الصاعقة «دخلت» لمهامها، ولكن نجاحها فى تحقيق مهمتها لن يتأكد خبره إلا عندما تبدأ عملية العبور فعلاً، ذلك أن هذه الوحدات من الصاعقة مأمورة بالتزام صمت لاسلكى كامل.

ودخل الرئيس «السادات» إلى قاعة العمليات فى الساعة الواحدة والنصف وكانت القاعة شحنة من الأعصاب امتزج فيها الأمل والقلق والعلم والإيمان. فقد أحس كل من فيها من القادة والضباط- وعددهم يزيد على المائة- بأنهم يعيشون لحظة فاصلة فى تاريخ وطنهم، وأن أقداراً كثيرة سوف تكون معلقة بما يجرى فى هذه القاعة صادراً عنها إلى ميادين القتال أو وارداً إليها من هناك.

كانت القاعة ضخمة وقد أحاطت بجدرانها لوحات زجاجية كبيرة مضيئة، وعلى كل لوحة منها كانت هناك على الزجاج خرائط شفافة رسمت عليها معالم قطاعات الجبهة المختلفة، والتحركات المنتظرة عليها تطبيقاً للخطة، وكانت الخطط المعلقة على هذه اللوحات الشفافة كثيرة، ففضلاً عن قطاعات الجبهة- كانت هناك لوحات تحدد مواقع القوات البحرية وخطط التحركات المنوطة بها. وكان الحال هو نفس الشىء بالنسبة للقوات الجوية، فقد ظهرت على اللواحات مواضع تمركز أسراب قاذفات الضربة الأولى، إلى جانب مواقع تمركز طائرات القتال والإمداد والحماية وكذلك كان الحال نفس الشىء بالنسبة للدفاع الجوى، حيث رسمت على اللوحات الخاصة به قواعد الصواريخ الثابتة والمتحركة سواء على خط القتال أو فى العمق، حيث يحتمل أن يوجه العدو هجماته المضادة الفورية.

وكانت هناك مائدة رئيسية للقيادة العليا- كما أنه بجوار اللوحات الخاصة بخطط الأسلحة المختلفة، كانت هناك مجموعات من ضباط أركان الحرب وضباط الاتصال الجاهزين لإصدار الأوامر وتلقى المعلومات.

وكانت أضواء الغرفة ساطعة فى حين كانت ألوانها هادئة مليئة ببقع ملونة من الخرائط والرسوم والخطوط، ثم إن معدات الاتصال المتوافرة فيها أعطتها جوا شبه سينمائى، ومع ذلك فقد كان هذا الجو حياة حقيقية، وإنسانية دافئة إلى درجة السخونة رغم أن أجهزة التكييف كانت تدفع إليها بهواء بارد ونقى.

وفى الساعة الثانية بعد الظهر كانت الأنظار فى القاعة كلها متجهة إلى الجزء الخاص بالقوات الجوية. وكانت الإشارات قد وصلت بأن قوات الضربة الجوية الأولى، وقوامها مائتا طائرة، قد عبرت على ارتفاع منخفض فوق قناة السويس قاصدة إلى تنفيذ المهمة الأولى فى العملية. ثم بدأت الإشارات تترى بأن طائرات هذه القوة بلغت أهدافها وبدأت تنفيذ مهامها بنجاح فاق ما كان منتظراً، فقد تم ضرب مراكز قيادة ومواقع رادار ومناطق حشد وعقد مواصلات وقواعد جوية.

وفى الساعة الثانية وعشر دقائق كانت الأنظار فى القاعة متجهة إلى الجزء الخاص بالمدفعية. وفى نفس اللحظة كانت فوهات ألفى مدفع من مختلف العيارات والطرز تضرب بكل قوتها بعيداً وراء خطوط العدو لقطع عمقه عن جبهته، وتدمير ما يمكن من منشآته المتقدمة، وتشتيت ما هو متجمع من حشوده. وتلا ذلك قصف ستمائة مدفع ركزت على مدى قصير بضرب منشآت وتحصينات خط بارليف.

وفى الساعة 2.25 بدأت قوارب المطاط تنزل فى القناة بجنودها تحت وابل من نيران العدو الذى بدأ يفيق من المفاجأة. ومع ذلك فإنه فى ظرف عدة دقائق كان على صفحة القناة ما يقرب من ستمائة قارب مطاطى فى كل واحد منها ثمانية مقاتلين، وقد راحت تشق طريقها إلى الضفة الأخرى وسط عاصفة من النار.

وفى هذه اللحظة تأكد أن مجموعات الصاعقة التى دخلت بالأمس قد نجحت فى تعطيل عمل مواسير اللهب. وكان نجاحها فائقاً إلى درجة أنه لم يظهر لأى واحدة منها أثر على الإطلاق فوق مياه القناة.

وفى الساعة 2.25 أيضاً كان هناك لواء دبابات برمائى يعبر على القطاع الجنوبى من مياه القناة بالدبابات الضخمة من طراز «تى 76»، ووراءه المدرعات السابحة من طراز الـ«توباز» الشهير.

وفى نفس اللحظة عبرت فوق القناة مجموعة من الطائرات تحمل مجموعات من قوات المظلات الذين قفزوا بقرب منطقة المضايق تمهيداً وانتظاراً وإعداداً لمرحلة ثانية من الخطة.

وفى الساعة الثالثة كان مجموع القوات المصرية التى تمكنت من العبور إلى الضفة الشرقية قد وصل إلى 800 ضابط و13500 جندى.

وفى الساعة الثالثة والنصف كانت قوات المهندسين تعبر فى وحدات بحرية خاصة جهزت بالخراطيم وكانت المهمة الموكولة إليها هى فتح الثغرات فى الساتر الترابى على الضفة الشرقية من القناة.

وفى الساعة الرابعة والنصف كان حجم القوات المصرية على الضفة الشرقية قد وصل إلى 1500 ضابط و22000 جندى.

(وفى هذه اللحظة قام الرئيس «السادات»، ومعه الفريق أول «أحمد إسماعيل» قاصدين إلى مكتب القائد العام، وطلب السفير السوفيتى).

وفى الساعة الخامسة والنصف كان هذا الحجم قد وصل إلى 2000 ضابط و30000 جندى.

(قام الرئيس «السادات» مرة أخرى قاصداً إلى مكتب القائد العام ليتلقى مكالمة تليفونية له من «بريجنيف»- لكن الاتصال لم يتم لسبب غير واضح، وقد انتهز الرئيس فرصة وجوده فى مكتب القائد العام فاتصل ببيته بالجيزة وبـ«محمد حسنين هيكل» فى مكتبه بالأهرام).

وفى الساعة السادسة والنصف كانت عملية فتح الثغرات فى الساتر الترابى قد حققت جزءاً جزءاً كبيراً من مهامها، وبدأ تركيب كبارى العبور، وراحت الدبابات تتقدم على أول كوبرى جرى تركيبه.

وفى الساعة العاشرة مساء كانت قوات المهندسين قد تمكنت من فتح 60 ثغرة فى الساتر الترابى، وأزاحت بالتجريف ما حجمه 90000 متر مربع من الرمال، ووصل عدد الكبارى الثقيلة التى أمكن تركيبها إلى ثمانية، بالإضافة إلى أربعة كبارى خفيفة، و31 معدية كانت تتحرك بسرعة وقوة من ضفة إلى ضفة حاملة معها المزيد من القوات والمعدات.

وعندما حل منتصف الليل تماماً كانت هناك خمس فرق كاملة من المشاة والمدرعات على الضفة الشرقية لقناة السويس، وكانت معظم مواقع خط بارليف الحصينة قد حوصرت، ونصفها تم اقتحامه.

(وكانت الجبهة السورية تعيش مشهداً مماثلاً، ففى هذا الوقت كان الطيران السورى قد قام بضربة أولى، ثم جرى تمهيد بالمدفعية. وفى الساعة الرابعة كانت المدرعات السورية قد تخطت خنادق التحصينات الإسرائيلية فى الجولان- وقبل أن ينزل الظلام كانت تتقدم فى اتجاه مدينة القنيطرة عاصمة الجولان).

كان الرئيس «السادات» فى الساعة السابعة تماماً، ومعه كل الذين أتاحت ظروفهم أن يتواجدوا فى هذه القاعة المجيدة- فى حالة من النشوة لا تكاد تصدق. وقد تأكدوا جميعاً أن أخطر عملية فى الحرب كانوا يتحسبون لخسائرها قد تمت بنجاح فاق خيالهم. وكانت أروع لحظة فى حياتهم هى التى تلقوا فيها أول تقدير مبدئى عن حجم الخسائر المصرية فى العملية حتى الآن.

وكانت الخسائر فى عملية العبور هى استشهاد 64 رجلاً إلى جانب 420 جريحاً وقد أصيبت 17 دبابة، وتعطلت 26 عربة مدرعة وكان ذلك لا يصدق فقد كانت كل التقديرات العلمية عن الخسائر المحتملة فى عملية العبور تصل بها إلى عشرات الألوف من الشهداء والجرحى. وكان الرئيس «السادات» ومن حوله القادة يتبادلون النظرات وهم لا يكادون يتصورون واقع ما جرى أمام عيونهم. كان بكل المعايير ضرباً من المعجزات. وأبدى الفريق أول «أحمد إسماعيل» ملاحظة واحدة قال فيها إن «الأولاد يتقدمون على الكبارى كما لو أنهم يقومون بعملية تدريب. وكأن كل هذه النيران من حولهم مجرد مناورة بالذخيرة الحية».

وفى الساعة السابعة مساء، كان الرئيس «السادات» قد اطمأن بأكثر مما راوده فى أوسع أحلامه جموحاً- إلى أن هناك شيئاً عظيماً تم تحقيقه. وقد خطر بباله أنه يستطيع أن ينتقل الآن من مقر قيادته العسكرية، ويعود إلى قصر الطاهرة ليتابع من هناك آثار الساعات التى عاشها فى المركز رقم «10»- على مصر وعلى العالم العربى، وفى الدنيا الواسعة.

(وقبل أن يغادر الرئيس «السادات» مقر القيادة العليا، اتصل بـ«محمد حسنين هيكل»، وطلب إليه أن يلقاه الساعة الثامنة فى قصر الطاهرة. وفى حين كانت نبرة صوته فى مكالمة سابقة- قبل قرابة ساعتين- نبرة هادئة، فإن النبرة الآن كانت مجلجلة كأنها زغاريد فرحة. وقد راح يكرر فى نفس واحد أكثر من ثلاث مرات: «الولاد ركبوا خط بارليف خلاص...»).

وكان آخر ما قاله للفريق أول «أحمد إسماعيل» والفريق «سعد الدين الشاذلى» وهو يغادر المركز رقم «10»: «إنه لا يريد إزعاجهما بطلب معلومات تفصيلية كل دقيقة عن مسار العمليات»، ثم طلب تعزيز الاتصال بين مكتبه للشؤون العسكرية فى قصر الطاهرة وبين مكتب القائد العام، لكى يجرى ضخ المعلومات أولاً بأول دون إزعاج مباشر منه لهم.

فى قصر الطاهرة كانت هناك مكالمات تليفونية عديدة من كثيرين فى العالم العربى وصل إلى أسماعهم ما حدث، وأرادوا أن يتصلوا به تهنئة وتبريكا، وقد أخذ الرئيس «السادات» بنفسه بعضها.

وفى الساعة الثامنة مساء كان «محمد حسنين هيكل» فى قصر الطاهرة لموعده مع الرئيس «أنور السادات» وقد لاحظ عند دخوله إلى الصالون الذى كان يجلس فيه الرئيس «أنور السادات» ويتلقى منه ما يختار من الاتصالات التليفونية- أن هناك مجموعة من رجال التليفزيون والإذاعة بميكروفوناتهم وعدساتهم. وعندما دخل «هيكل» على الرئيس «السادات» كان بادياً أن موجة من الفرح تتراقص بصالون القصر كله. وفى حين راح «هيكل» يسأل عن المزيد من التفصيلات- فإن الرئيس «السادات» كان له مطلب عاجل، هو إعداد «كلمة قصيرة» ولو من عشرة سطور تقول للناس ما معناه «أن حرب الساعات الست قد تحققت».

وبدا الطلب لسامعه غير متوقع، وحاول الرئيس «السادات» تقديمه باعتباره ضرورة للرد على كل ما قيل عما جرى فى حرب الأيام الستة (يقصد سنة 1967). وأضاف الرئيس «السادات» أنه طلب بالفعل طاقماً من التليفزيون والإذاعة لتسجيل الحديث، وهو يريده على الهواء قبل الساعة التاسعة لكى «يفرح به الناس قبل أن يناموا» قالها وفى نبرات صوته سعادة كان له كل الحق فيها، لكن الوقت كان مازال مبكراً. وقد حاول «هيكل» أن يشرح له «إننا أمام معركة مازالت فى بدايتها، والحوار مع العدو بدأ بالكاد، وقد كانت لنا فيه الكلمة العليا هذا صحيح لكن حوار النار مستمر، ومن المستحسن تأجيل الحديث للناس الآن، وتركهم يفرحون بما يسمعونه من إذاعات العالم فهذا أفضل وأفعل فى التأثير عليهم مما لو تحدث هو فى هذه اللحظة، بمعنى أنه قد يكون من الأصوب الآن أن يترك هو فرصة للعالم يتحدث عن انتصاره، ويصل صدى هذا الحديث إلى شعبه- من أن يتحدث هو مهما كانت أهمية ما يمكن أن يقوله فى هذا الوقت». ودارت مناقشة طويلة قطعها وصول السفير السوفيتى إلى قصر الطاهرة.

وفى حين اجتمع الرئيس «السادات» مع السفير السوفيتى، ذهب «محمد حسنين هيكل» إلى مكتب العقيد «عبدالرؤوف رضا»، مدير الشؤون العسكرية- للاطلاع على آخر التقارير والاتصالات.

قدم السفير السوفيتى تهنئة القيادة السوفيتية وتهنئته. وسلم رسالة مكتوبة بلغة إنشائية وحماسية من الزعيم السوفيتى» «ليونيد بريجينيف» وقد عاد الرئيس «السادات» فكرر مرة أخرى ما سبق أن قاله لـ«بريجينيف» على التليفون تعبيراً عن عرفانه بدور الاتحاد السوفيتى فى تحقيق «كل هذا النصر العظيم الذى حققناه اليوم». وسأله السفير السوفيتى عن تصوراته فيما يتعلق بالجانب السياسى فى المعركة، فالأمريكان قد اتصلوا بالسوفيت يتشاورون معهم فيما يمكن أن يفعله مجلس الأمن إزاء نشوب الحرب فى الشرق الأوسط، فهناك مشاورات واسعة بين الأربعة الكبار فى مجلس الأمن، ومعهم السكرتير العام للأمم المتحدة «كورت فالدهايم» وهناك أفكار غير محددة بعد عن مشروع قرار يقدم إلى مجلس الأمن فى شأن الأزمة، وهم يريدون أن يكونوا على علم مسبق بتصورات الرئيس حتى ينسقوا جهودهم مع مطالبه، وأضاف «فينوجرادوف» أن السفير السوفيتى فى دمشق «محيى الدينوف» سبق له أن ناقش هذا الموضوع مع الرئيس «حافظ الأسد» عندما أخطره الرئيس السورى عن احتمالات المعركة. وذكر فى حديثه أن الرئيس «الأسد» كان قد ألمح فى حديثه مع «محيى الدينوف» إلى إمكانية بحث، وقف إطلاق النار وفقاً لما تكون عليه الأحوال وقتها. ولم يكن الرئيس «السادات» مستعداً لهذا النوع من الحديث. وقد قال لـ«فينوجرادوف» إن «هذا موضوع لا يستطيع فى هذه اللحظة أن يبحثه وفى وسق رأى السفير السوفيتى أن يناقش هذا الموضوع مع الدكتور «محمود فوزى»، فهو (أى الرئيس «السادات») يتصرف الآن بوصفه القائد الأعلى للقوات المسلحة (وأشار إلى حلته العسكرية الأنيقة قائلاً لـ«فينوجرادوف»: «ألا ترى؟»)»- ثم أضاف بلهجة جد قصدها متبسطاً أن تبدو تمثيلية: «فى هذه اللحظة أنا القائد الأعلى للقوات المصرية فقط، وأى حديث فى الموضوعات الدبلوماسية ليس فى دائرة اهتمامى الآن».

وأراد «فينوجرادوف» أن يتثبت فقال: «تعنى يا سيادة الرئيس أننى أستطيع مناقشة احتمالات العمل الدبلوماسى مع الدكتور محمود فوزى؟» ورد الرئيس «السادات» بسرعة: «نعم.. نعم.. ابحث معه كما تشاء».

وخرج السفير السوفيتى. وأشار الرئيس «السادات» باستدعاء «محمد حسنين هيكل»، الذى عاد إليه وقد جاء معه العقيد «عبدالرؤوف رضا» يحمل تقريره عن أول يوم من أيام القتال. وفى حين جلس «هيكل» بجانبه، وقف العقيد «عبدالرؤوف رضا» ينتظر أن يلقى الرئيس «السادات» نظرة على الملف الذى قدمه إليه.

كان الملف يحوى التقرير، وقد أرفقت به نسخة من منشور جرى توزيعه على القوات ساعة بدء العبور. كان التقرير مكتوباً باللغة الواقعية للبيانات العسكرية.

بعد أن فرغ العقيد «عبدالرؤوف رضا» من عرض ما لديه، غادر الصالون. وعاد الرئيس «السادات» إلى فكرة إعداد بيان يلقيه. وعاد «محمد حسنين هيكل» يحاول شرح وجهة نظره فى أفضلية الانتظار، كما أنه أبدى ملاحظة على المنشور الذى وزع على الجنود مؤداها:

- إن صيحة «الله أكبر» التى انطلقت بها حناجر الجنود على جسور العبور كانت تكفينا صلاة ودعاء يشارك فيها كل المؤمنين، وهى فى كل الأحوال تغنينا عن كل الأحلام بما فيها «أحلام الصالحين».

وعند منتصف الليل كانت الأنباء مازالت تترى على قصر الطاهرة، وكانت كلها أنباء سعيدة. وكان القصر مازال يعيش على ذرى أمواج نشوانه بالفرح الغامر والسعادة الفائقة.

من الصعب على أحد مهما بلغت درجة قربه من الحوادث أن ينفذ بتحليل دقيق أو قريب من الدقة للمشاعر والأفكار التى تحركت وتدافعت فى عقل وفكر الرئيس «السادات» فى تلك الليلة الحاسمة من تاريخه وتاريخ مصر، ومع أن التاريخ أيام متصلة يترتب اللاحق فيها على السابق دون فجوة أو فراغ- فإنه من المحقق أن هناك تجارب خاصة فى حياة الناس يمكن أن يكونوا بعدها مختلفين عما كانوا قبلها، والتاريخ حافل بنماذج كثيرة لهذه اللحظات الفاصلة والفارقة فى حياة البشر، سواء كانوا على القمة فى بلادهم، أو من السفح والقاع.

وفى ليلة 6-7 أكتوبر، كان «أنور السادات» فى لحظة فاصلة وفارقة من حياته شكلت- على وجه القطع- مفترق طرق.

■ قبلها كان واحداً من زعماء العالم العربى مثل غيره كثيرين وبعدها أًبح نجماً يلمع فى آفق عالٍ وشاهق.

■ وقبلها فإن رجلاً مثل «هنرى كيسنجر»- كان يتهرب منه ويصفه بأنه «بهلوان سياسى»- وبعدها فإن لم يعد فى مقدور أحد- بمن فيهم «هنرى كيسنجر»- إلا أن يعترف له بأنه «داهية سياسى».

■ وقبلها كان حاكماً بشرعية مستعارة من سلفه «جمال عبدالناصر»- وبعدها فإنه أصبح يمتلك شرعية مستقلة يبدأ بها عصراً جديداً من حكمه.

■ وقبلها لم يكن فى تاريخ العرب الحديث انتصار عسكرى واضح- وبعدها فإنه سجل فى تاريخ العرب نصراً عسكرياً على مستوى لم يكن ينتظره أحد.

■ وقبلها كان رجلاً تكررت وعوده واعتبرت كلها جوفاء وفارغة- وبعدها فإنه استطاع أن يحقق ما وعد به، وزاد عليه.

■ وقبلها كان يتصرف وفى إحساسه أن «جمال عبدالناصر» كان رجلاً أكبر منه- والآن فقد داخله الإحساس بأنه أصبح أكبر من «جمال عبدالناصر». فهذا الذى تحقق على يديه اليوم لم يحدث ولا لـ«جمال عبدالناصر».

وقبلها وقبلها كثير، وبعدها وبعدها كثير أيضاً، وما قبل مختلف دواماً عما بعد!

وكان ذلك كله ماثلاً فى ذهنه تلك الليلة، وقد عبر عنه بالنشوة، وربما استطاع تحليل بعضه، وأحس بأثر البعض الآخر دون تحليل- لكنه فى نهاية يوم طويل ومرهق، يدخل إلى فراشه ليلاً وقد أصبح على قمة العالم- وقد كان مغربه ومشرقه مأخوذاً بما حدث.

كان هو الآخر مأخوذاً بما حدث، وكان ما راه وعاشه طول اليوم بالفعل أشبه ما يكون بانفجار قنبلة ذرية، وقد كان قراره هو الذى فجرها، وهذه حقيقة لا يملك أحد أن يجادل فيها. ولقد كان يمكن رد هذا الانفجار الذرى إلى أسباب عقلانية- لكن ذلك لم يكن شاغله تلك الليلة.

وإنما كان شاغله ما يراه أمام عينيه: فلقد تم العبور العظيم- وهو الآخر عبر من مكان إلى مكان، ومن ضفة إلى ضفة، ومن حال إلى حال.

ولقد اختلط العبوران معاً، فأصبح عبور القوات عبوره.. وعبوره عبور القوات. وفى واقع الطبيعة البشرية فإن ذلك كان محتملاً.. وربما كان مفهوماً.