يتطلب الامر انتباها كبيرا كي يلاحظ الواقف في ميدان الفلكي وجود سوق باب اللوق القريب. فهذا البناء المشيد من الطوب و المعدن قارب عمره على قرن كامل، حيث جرى افتتاحه للعامة في الأول من مايو من العام 1912.
اكتشف يوسف أصلان قطاوي، وهو سليل إحدي أبرز العائلات اليهودية المصرية، و الذي صار سياسيا بارزا فيما بعد، وجود أسواق حديثة مصممة على الطراز الأوروبي، و ذلك اثناء دراسته للهندسة في ثمانينات القرن التاسع عشر. وصار لدى قطاوي ايمان راسخ بأن كل مدينة كبرى في مصر في حاجة إلى سوق تليق بها.
في عام 1911، تولت الشركة التي يديرها قطاوي اختيار قطعة من الأرض تبلغ مساحتها 6200 مترا مربعا بغرض إقامة سوق كبير في العاصمة لا يضاهيه سوى سوق العتبة الذي أنشئ في تسعينيات القرن التاسع عشر.
افتتح سوق باب اللوق عام 1912. وساعد موقعه وسهولة الوصول إليه من محطة قطارات حلوان على اجتذاب الزبائن الاثرياء، سواء من الأجانب أو المصريين. في تلك الفترة، كانت العناية بالسوق فائقة، حيث كان يتم تنظيفها ثلاث مرات يوميا، كما تم ادخال نظام تهوية ذا تصميم جيد، فيما خصصت خزانات باردة لحماية البضائع من الفساد. وسرعان ما تحولت باب اللوق الى مركز تجاري في قلب المدينة. وبدخول تلك المنطقة، لك أن تتخيل الألوان الزاهية والأصوات المختلطة التي سادت تلك السوق في مرحلة من المراحل.
مر حتى الان مائة عام تقريبا على الافتتاح التاريخي لسوق باب اللوق، إلا أن حالته وأوضاعه الحالية تنذر بالخطر. فقد جرى استبدال نظام التهوية بنوافذ زجاجية عالية. و يبدو أن آخر مرة نظف فيها المكان كانت في ثمانينات القرن الماضي.
إلا أن الصرح الحديدي المغطى بالصفائح، والذي يبلغ طوله 24 مترا لا يزال مبهرا على المستوى الهندسي، فهو يغطي السوق المفعمة بالحياة وما تحويه من محال، وقمامة كذلك.
وفوق ذلك السطح المعدني، ترى اشيائا مثيرة للاهتمام، كشكمانات السيارات القديمة، وصناديق الكرتون الفارغة، وقطط نائمة، وحبل غسيل علق عليه ملابس كي تجف.
بالنزول إلى الأرض، يجد الزبائن الفاكهة، والخضروات، واللحوم، والأسماك، والتوابل، وتشكيلة من منتجات التنظيف. يقول أحمد، 70 سنة، بائع خضروات: "تأتي الخضروات والفاكهة في الثامنة صباح كل يوم محملة على الشاحنات الحمراء، و توزع على جميع المحال في المدينة، وكلها قادمة من سوق العبور الواقع على طريق مصر السويس".
تتكون الأدوار الأول والثاني والثالث من السوق من ممرات دائرية تحيط بالسوق وتطل عليه، ومن أجل الصعود الى تلك الطوابق المظلمة والمهجورة، والتي تحتضن ورشا متلاصقة، يجب ارتقاء درجات أي من السلالم الأربعة الموجودة في الخارج.
ما إن تصل أعلى السوق، حتى يصير المشهد مخيبا. فمن السطح، تتدلى عواكس أعمدة الإنارة، مغطاة بغبار تراكم عليها مع مرور الزمن، بينما تنعكس الأضواء الباهتة للورش المتبقية على الأرضية المتربة.
تعمل تلك الورش في ثلاث أنشطة أساسية: صناعة الاحذية، والحقائب، والخياطة. على الممرات، ترقد أكوام كبيرة من علب الأحذية الفارغة، فيما يظهر الرجال وهم يقطعون الجلود ويستخدمون المعدات الخشبية بمختلف أحجامها. وعلى بعد أمتار قليلة، يقوم شخصين بلصق قطع جلدية في ورشة تصنيع الحقائب.
عمل زكريا أحمد صلاح في ذلك المكان لمدة عشرين عاما، وهو يذكر مرحلة التحول التي مر بها السوق، فيقول أثناء تغطية القطع الجلدية بالصمغ: "كان الترام يمر أمام السوق مباشرة، وحتى القادمين من حلوان كانوا يتسوقون هنا. ولم يعاني السوق من الحرمان إلا بعد إزالة خط الترام". حينما بدأ صلاح العمل في هذا السوق، كان الايجار الشهري يبلغ سبعين جنيها، بينما كانت أرباحه تصل إلى 200-250 جنيها في الأسبوع، وهو المبلغ الذي وصفه بأنه تقريبا نفس ما يحققه الآخرون في السوق. وتبدو الكآبة على وجهه فجأة حين يشير الى افتقار السوق لمحطة كهرباء مركزية. ويفكر صلاح حاليا في نقل ورشته الى مدينة بدر.
ثمة مستقبل مظلم ينتظر سوق باب اللوق، والذي كان في يوم من الأيام مكانا منظما يجتذب الأثرياء الباحثين عن البضائع الجديدة عالية الجودة. اليوم، انخفضت القدرة المالية للزبائن فقل عددهم، فيما خلت معظم المحال كذلك.
يشير رجل مسن إلى محيط السوق، جالسا على كرسي من البلاستيك، و يقول في حزن: "عدد الزبائن والباعة لا يكفي كي تعمل السوق بكفاءة. ثلث المحال فقط هي التي تعمل، ولم يعد أحد يرغب في الاستئجار هنا".
و بالرغم من أن سوق باب اللوق لم يعد مصدرا لربح مناسب للتجار، إلا أنه لا يزال شاهدا على ماضي الحركة التجارية النشطة لمنطقة وسط القاهرة.
التقرير مترجم من الطبعة الانجليزية للمصري اليوم