فقراء العالم.. شهادات متعددة وفقر واحد

كتب: أحمد الفخراني السبت 13-04-2013 17:20

فى أى خانة تصنف نفسك: غنى أم فقير؟

سؤال طاف به الروائى الأمريكى وليام ت. فولمان على فقراء قارات العالم لمدة 20 عاما، قبل أن يسجل ملاحظاته، وحكاياته فى كتابه «فقراء العالم».

ما سبب انتشار الفقر؟

يقول فولمان: إنه رأى فى مرات عديدة أشخاصاً يرتدون الثياب البالية، ويعطون أناسا أكثر فقراً منهم ما فى وسعهم، ويكمل: لا أحد يعرف كيف يمكن القضاء على الفقر، ما لم يتم الاتفاق على تعريف له. الفقراء أنفسهم لا يبدون بتلك الثقة إزاء تعريف أنفسهم كفقراء، ليست لديهم تفسيرات عن أسباب فقرهم، يعزونها «للقدر، أو أن المال لا يعرف طريقهم» أو أن الله وزع نعمه، وكل شخص حصل على نصيبه، وأن الفقر ما هو إلا ابتلاء على المرء أن يحتمله كما أجابت جليسة أطفال جزائرية شابة ترملت قبيل زواجها، بينما تظن عاملة تنظيف مكسيكية تعمل فى أمريكا أن «افتقارها إلى الوثائق» هو سبب فقرها، فقد كانت فى المكسيك معلمة تنتمى للطبقة الوسطى، لا تملك إثباتا لهذا فى أمريكا.

يعتقد فولمان أن الفقير، هو شخص يستحق حصة ما لدى الشخص غير الفقير، هو استحقاق لا منحة دون أن يمنح ذلك وصاية من القادر على خيارات الفقير، لا يقول فولمان ذلك مباشرة، إنما يوحى به عبر قصصه غير المكتملة، التى يترك إدراك مغزاها للقارئ يضرب مثلاً بطفلة أنقذها من العمل بالبغاء عبر تسديد قسطها المدرسى، لكنها اختارت أن تتعلم الخياطة بدلا من القراءة، يسأل فولمان إن كان عليه أن يصر على أن يفعل غير ذلك، يجيب عن نفسه إن آخر ما سمعه عنها من أخبار أنها صارت متزوجة وتعول طفلا، ورغم أنها ظلت أمية إلا أنها ظلت غير تعيسة أيضا، يربط فولمان ذلك بما سماه «الوعى الماركسى» للإحسان، الذى يضع خطة لما يجب أن يكون عليه الفقراء، دون أن يضع فى اعتباره احترام الخيارات الذاتية للفقير.

من منطلق كهذا صدق فولمان صائد سمك التونة فى اليمن، الذى رغم فقره البادى وفقاً لدخله، إلا أن اجابته كانت أنه لا يعتبر نفسه غنيا أو فقيرا، فهو يصرف فائض دخله على محرك مركبه، لكنه لا يحتاج أكثر مما يكسب.

وهى واحدة من تيمات فولمان فى تعريف الفقر، فهو يفرق بين القادر على التكيف مع ظروفه وفقاً لاحتياجاته، وغير القادر، فبينما صائد السمك الذى يكسب ما يوازى 18 دولاراً يوميا، كان يستطيع أن يلبى احتياجاته، كان فولمان يحتاج إلى مائة دولار فى اليوم ليستطيع أن يعيش فى اليمن.

من هذا الطريق انطلق فولمان: من منطقة لا تصنف الفقراء كأخيار دائماً أو أشرار دائما، يعلم أنه ينظر إليهم فى النهاية من الخارج «فهو ليس فقيراً مثلهم، ولا يتمنى، دون أفكار مقولبة أو جاهزة عن أسباب الفقر: ففى بعض الحالات يكون الأغنياء هم الملامين على انتشار الفقر، وفى أوقات أخرى قد يعتقد المرء أنه فقير لكنه ليس كذلك إذا ما تمت مقارنته بحالات أشد فقراً»، وفى أوقات أخرى، دون أن يتورط فى كتابة عاطفية، كما لا يتورط عبر الحكايات فى الوقوع فى الفخ الشائع عند الكتابة عن الفقر بمحاولات اكتشاف الجمال فى التقشف والفقر.

مزارع مكسيكى يعتقد أن الأغنياء أغنياء لأنهم يعملون بدأب، أما هو فما يمتلكه من مال يصرفه، فهو فقير، لأنه دائما فى حالة سكر.

فيما تعتقد سونى، من تايلاند أن «الأغنياء يستغلون الفقراء»، وأنه على الكاتب أن يتوجه إليهم بالسؤال: ما سبب انتشار الفقر؟

فولمان نفسه ليس فقيرا بل «برجوازى صغير وأملك بناية سكنية» كما يصف نفسه.

هذا المبنى هو كناية عن مطعم قديم يقع فى زاوية مرأب للسيارات، تماماً تحت الجسر الخاص بالسكك الحديدية، حيث يلجأ المشردون. عدد كبير من الأشخاص ينام فى المرأب، والأشخاص أردد لهم دائماً أنه يمكنهم أن يبقوا فى المرأب قدر ما يشاؤون. وأحياناً، حين أتعرف إليهم وألقى عليهم السلام أقدم لهم دون أن يطلبوا ذلك بعض الأشياء الصغيرة: قنينة مشروب أو القليل من المال، مثلاً. وأحياناً حين تزورنى ابنتى الصغيرة أقودها إلى هناك لتلقى عليهم التحية، لأننى لا أريدها أن تكبر مع شعور بالاحتقار تجاه الناس الفقراء أو أن تخاف منهم، وأنا لا أخاف الناس، الذين أتعرف إليهم عن كثب. ودون شك أنهم يتحدثون بأمور سيئة عنى حين أبتعد عنهم، وهذا ما أفعله لو كنت مكانهم.

الرحلة التى تتقافز عبر الشهادات الحية فى كتابة عشوائية، تخرج من الحكاية إلى التأمل، إلى المعلومة، دون رابط، ربما كحياة أبطاله.

فولمان الذى استعمل أسلوباً روائياً لكتابة عمل غير روائى عن الفقر ظل يجمع حكايات، ويسجل شهادات «الفقراء» لسنوات طويلة من مختلف أنحاء العالم اليمن والعراق وتايلاند واليابان وكولومبيا والمكسيك وحتى الولايات المتحدة الأمريكية، لا يحاول عبرها الوصول إلى نتيجة مسبقة، تاركاً لقارئه الحكم فى الإجابة عن السؤال الرئيسى للكتاب.

و عبر الشهادات والحكايات التى جمعها حاول وصف سمات الفقر منها أن الأعمال التى لا تستطيع تطوير نفسها بحكم طبيعتها، والتى يضطر الفقراء لامتهانها، تصل بهم عبر المحاولات اليائسة للكدح إلى ما يشبه «تخدير الوعى» والخبرات، التى تتراكم بشكل لا يسمح بترجمتها إلى مال.

إحدى السمات التى يراها فولمان هى أن الفقراء فى النهاية، ربما يدركون أنهم مستغلون من جانب الأغنياء، أو أن ثمة علاقة بين تراكم الأموال فى يد أشخاص وبين عدم معرفة المال طريقه إليهم، ورغم ذلك توجه طاقة الفقراء العدائية تجاه بعضهم البعض، ومن خلال إقصاء بعضهم البعض.

يقول فولمان: يتم التعبير عن الاقصاء بين الفقراء أنفسهم بطريقتين: إما من خلال الخوف من العدوى (متخذاً مثالاً من تقرير برلمانى عن المجاعة الأيرلندية فى القرن التاسع عشر، عندما طردت امرأة فقيرة من مسكنها بواسطة جيرانها، خوفاً من انتقال مرضها إليهم)، أما الطريقة الثانية فهى التنافس على الموارد الشحيحة.

ويشير الكاتب إلى اضطرار الفقراء لاستهلاك السلعة الوحيدة المتاحة فى ظل عدم حصولهم على تعليم جيد، وأساسيات التغذية تمكنهم من الترقى: أجسادهم، ليس فقط عبر البغاء، ولكن عبر الأعمال الخطرة التى يضطرون إلى العمل بها.

ينتهى الكتاب بعدد من صور الأبيض والأسود للفقراء من مختلف أنحاء العالم، صور حزينة تجعلك تفكر كما أوحى فولمان عبر قصصه دون أن يتورط فى حكم إلى من يوجه اللوم على الفقر: الحكومات، الأغنياء، الشركات متعددة الجنسيات، نفسك.