بعد تجربته التراجيدية الأخيرة «بنتين من مصر»، يعود محمد أمين إلى نوع السينما المفضل له، وهي الكوميديا الكرتونية التي تنطلق من عبثية الواقع وكابوسيته في نفس الوقت، حيث نستطيع أن نجزم بأن «أمين» تمكن بمشروعه الذي يضم «فيلم ثقافي»، و«ليلة سقوط بغداد» وأخيرًا «فبراير الأسود»، من استكمال ما بدأه المخرج الطليعي رأفت الميهي قبل عشرين عامًا بثلاثيته الشهيرة «السادة الرجال»، «آنساتي سادتي»، و«سمك لبن».
نستطيع أن نلمح بسهولة تأثير العناصر البنائية والسردية من تجارب «أمين» السابقة، وعلى رأسها بالطبع «ليلة سقوط بغداد»، حيث رب الأسرة الذي يتنبه نتيجة حادثة معينة إلى التهديدات التي تحيط به وبأسرته الصغيرة والكبيرة على حد سواء، ومن هنا يبدأ في اتخاذ الإجراءات الإحترازية، أو الحلول التي يراها مناسبة للخروج من الأزمة، أو بمعنى أقرب لسينما «أمين» البحث عن «سلاح ردع»، وهو ما فعله الناظر حسن حسني في «ليلة سقوط بغداد»، بعد أن تنبه للخطر الأمريكي على المنطقة عقب حرب العراق «الخطر الخارجي»، وهو نفسه ما قرر أن يفعله خالد صالح، دكتور علم الاجتماع في الفيلم، ونلاحظ التشابه الواضح بين المهنتين فكلاهما ينتميان للمنظومة التعليمية والتربوية، ولكن هذه المرة في مواجهة «خطر داخلي»، وهو الانقسام الطبقي والسياسي الكبير الذي كانت تعيشه مصر ما قبل ثورة 25 يناير.
يشير العنوان إلى تاريخ الحادثة التي وقعت لأسرة دكتور الجامعة والتي دفعته إلى أن يعقد اجتماعا عائليا موسعا من أجل شرح تقسيمة المجتمع الجديدة لأصحاب نفوذ لهم سلطة أو أصحاب رؤوس أموال لهم علاقة بالسلطة، والوسائل التي يجب أن تتخذ من أجل مغادرة الوطن أو تأمين «رادع» ضد تعرض أي من أفراد العائلة للخطر، من خلال علاقة نسب أو عمل.
يستخدم «أمين» نفس الأسلوب البنائي الذي استخدمه من قبل في «ليلة سقوط بغداد»، حيث يفرد مشاهد طويلة لشرح فكرته على لسان الشخصيات، من خلال الاجتماعات الأسرية، خاصة اجتماعات «ترابيزة السفرة»، وهي مكان مصري أصيل، لكنه أصبح مستهلكًا بالنسبة له، وإن كان «فبراير» يمثل خطوة انتقال فكري وسياسي كبيرة في توجهاته السينمائية، فبينما كان الخوف على الوطن عاملا محفزا للناظر في «ليلة سقوط بغداد»، أصبح هنا كراهية الوطن هو العامل المحفز لدكتور الجامعة، وكما تعامل الناظر مع اللحظات المجيدة في حياة الوطن على أنها مجرد أهداف كرة قدم، وهو تكثيف كوميدي رائع يدل على تفاهة ما وصلنا إليه، يتعامل دكتور الجامعة مع الوطن على أنه مجرد علم يتطاير فوق سارية بفعل هواء مروحة، كاسرًا إيهام الرفرفة الكلاسيكية، ومجموعة الألحان المصرية الراقصة التي تجسد في تجريدية طريفة مفردات الانتماء التي من الصعب التعبير عنها بالكلمات أو وصفها في جمل.
من هنا تعتبر مشاهد الرقص على أنغام الموسيقى المصرية في محاولة لإخراج الوطن أو إعادة إدخاله إلى الذات، من المشاهد المعبرة جدًا عن طبيعة الانتماء الأثيرية التي يتم التعبير عنها بشعارات مثل «فيها حاجة حلوة».
لا يلجأ «أمين» هنا إلى استخدام الأحلام والهلاوس مثلما كانت عنصرا رئيسيا في «ليلة سقوط بغداد»، لكنه يتعامل مع الواقع على أنه أكثر كابوسية من أي حلم، وباستثناء حلم واحد لدكتور الجامعة، هو أقرب للتذكر منه للحلم، «مشهد تكريم الرئيس السابق لفريق كرة القدم»، يستغني «أمين» عن الأحلام تمامًا لصالح عبثية الواقع ولامنطقيته في زمن سياسي أصبح فيه لاعب الكرة أهم من العالم، ويصبح مبرره الأساسي في الدفع بابنه لكي يلعب كرة قدم بدلًا من المذاكرة، متخذًا من هذا الخط مساحة من الكوميديا السوداء النابعة من الواقع والمتآسية على عبثيته حين تصبح المذاكرة خطأ ولعب الكرة هو الصواب نتيجة انقلاب المعايير.
ولكن أزمة «أمين» الأساسية هي إصراره على تلقين المشاهد عبر سينما مدرسية، إن جاز التعبير، جرعات الأفكار التي يريد بثها في فيلمه حتى لو كانت المشاهد والأحداث كفيلة بتقديم ما هو أكثر من مجرد التلقين المباشر.
إننا نجد أنفسنا بعد كل حدث وقبل كل حدث مواجهين باجتماع عائلي يشرح فيه الأب خطته والهدف من ورائها، رغم أنه أعلن من قبل عن هذا الهدف في الاجتماع الكبير بعد حادثة «فبراير الأسود»، ثم يعيد الكرة مرة أخرى عقب كل فشل للخطط التي يضعها، سواء لتزويج ابنته من أحد رجال السلطة «قضاء أو أمن دولة»، أو تصعيد ابنه كلاعب كرة شهير، أو طلب اللجوء السياسي أو الجنسي لدولة أخرى في أحد أكثر المشاهد سخرية وسوداوية داخل الفيلم.
إذا كنت قد استطعت أن تبلور لنا من خلال مأساة هذه العائلة ملهاة تعبر عن واقع عبثي يصبح فيه العلم مذموما، والضمير مفسدة لصاحبه، مثل القاضي العادل والضابط الشريف، ولعب الكرة أبدى من المذاكرة، بل وصل الأمر إلى أن يصبح الشذوذ وخروج المواطن من جنسه الأصلي وسيلة لتأمين الذات والحياة الكريمة إن لم يكن من الأجدى أن تتركنا نستوعب كل هذا ونضحك على ما عريته أمامنا من عورات سياسية واجتماعية دون أن تتخذ موقف الناظر أو دكتور الجامعة في إصرارك على المحاضرات الحوارية الثقيلة الوطأة سواء على إيقاع الأحداث أو زمن المشاهد وتدفقها ورونقها البصري.
ثم نأتي لكون «أمين» كاتبا جيدا ولكنه مخرج متواضع جدًا، ويكفي أن ندلل على ذلك بمشهد واحد عندما يحاول دكتور الجامعة وأخوه عالم الطاقة أن ينجبا طفلا فوق إحدى الدول المتقدمة فيضطرا إلى العلاج بالطاقة الشمسية من أجل استعادة استقامة حيوانتهما المنوية، وهي أحد الرموز المهمة في الفيلم، فحتى المستقبل المتمثل في النسل الجديد بذرته عوجاء، وبدلًا من أن نرى خالد صالح وطارق عبد العزيز في لقطات متوسطة، ونتصور أن مؤخراتهما عارية في مواجهة الشمس، والمرايا متسلطة عليهما من قبل زوجاتهما للعلاج كي يكتمل الإفيه بصريًا، نجد «أمين» يتعامل بشكل عادي مع المشهد ويصور لنا الممثلين وهم يرتدون البوكسرات في الشمس بدلًا من إخفاء نصفهم الأسفل ليصبح الإفيه أنهم عرايا المؤخرات من أجل الحصول على طفل يستحضر لهم كرامة المواطنة المفقودة، ألم يكن هذا قمة السخرية والكوميديا السوداء التي يهدف لها الكاتب ولكن المخرج الذي بداخله لم يساعده على بلورتها للأسف.
على مستوى التمثيل تأتي رانيا شاهين وطارق عبد العزيز في مقدمة المستفيدين من التجربة نتيجة عملية تغيير الجلد التي قام بها كلاهما، مستغلين الإطار الكرتوني العبثي لشخصيات العلماء الذين تحولوا إلى صناع «للطرشي البلدي»، أداء هزلي بلا ابتذال يدرك أبعاد النوع والشخصيات، تليهما في ذلك ميار الغيطي التي قدمت مشاهد جيدة في إطار استغلالها للبحث عن زوج يؤمن للأسرة الردع ضد مجتمع فاسد، لكنها، وفي هذا يلام المخرج، لم تتمكن من ضبط أدائها فيما يخص المشاهد الخاصة بعملية الاتفاق على مؤامرات الإيقاع بالعرسان، كما أنها بالغت في ارتداء الملابس القصيرة في غير مشاهد إغواء القاضي والضابط لاجتذابهم، وبالتالي أفقدتا هي والمخرج إحدى الدلالات المهمة لفكرة المتاجرة بالجسد من أجل الحصول على نصيب من الأمان في مجتمع لا يعترف سوى بالسلطة والنفوذ، لقد تحول الأب إلى شبه قواد لابنته من أجل أن يضمن لأسرته زيجة من رجال السلطة، وكان على المخرج أن يدرك أن هذا التحول يستوجب تحول البنت من فتاة محافظة في ملبسها إلى متحررة من أجل أن يتم تكثيف المغزى وبلورته بعيدًا عن الخطب والمحاضرات.
خالد صالح لم يتمكن من الخروج من أسر النمط المعتاد له حيث نبرة صوت هادئة مشحونة بالانفعال المكتوم، وتنهيدات متحسرة على ما وصل إليه هو وأسرته، أما ألفت إمام فإن محمد أمين قادر دومًا على إدهاشنا بما يمكن أن تقدمه لنا تلك الممثلة الزائرة للسينما، حيث نراها هنا بوجهها الممصوص وعصبيتها الزائدة نموذجا جيدا للمنافسين من نفس الأسرة الذين تنبهوا إلى أهمية وجود سلاح رادع ضد الخطر الداخلي للوطن الفاسد، وكلنا نذكر مشاهدها القصيرة في «فيلم ثقافي»، عندما قدمت دور العروس المصابة بانهيار عصبي، بعد أن تزوجت عقب سنوات من العنوسة.
الغريب أن «أمين» يختم فيلمه بنهاية رمزية مفتوحة بدلًا من نهاية تكرس من عبثية المستقبل ابن الواقع الكابوسي، في «بنتين من مصر» قدم لنا حالة الانتظار اللانهائية لأوضاع قد لا تتغير أبدًا في مشهد لقاء الفتاتين مع عريس منتظر في المطار، رمز الرغبة في المغادرة والانتظار لقادم قد لا يأتي، هنا نجد ابنة الدكتور الجامعي التي تتوقف مراسم فرحها ليلة اندلاع الثورة لتصبح معادلًا واضحًا لمصر التي تنتظر العريس المناسب، أي الاتجاه السياسي والاجتماعي الذي يمكن أن يحميها بالفعل ويصون مستقبلها، هذا الانتقال للرمزية في أكثر أشكالها كلاسيكية لم يأت متفقًا مع الإطار العبثي والكرتوني النابع من الواقع المصور داخل الفيلم، كما أنه يقصر الرمز على العروس بعد أن كان منسحبًا على الأسرة كلها كنموذج مصغر للمجتمع ولشرائح وطبقات اجتماعية كثيرة تعاني من انقلاب الهرم الاجتماعي والفساد السياسي، بالإضافة إلى أن الرمز هنا ليس مطابقًا للطرح الفكري الذي قدمه الفيلم طوال الأحداث، فالحياة الكريمة بالفعل للأسرة والعروس تحتاج إلى العرسان الثلاثة، القاضي العادل والضابط الشريف والشاب المتعلم الذين نراهم على كنبة الانتظار في مشهد النهاية، واختيار أي منهم فقط كرمز للمستقبل مع الاستغناء عن الاثنين الآخرين هو اختيار غير سليم سياسيًا أو فكريًا، خاصة أن الكاتب تعامل مع اثنين منهم على أنهم على قدم المساواة فيما يتعلق بكونهم رجال سلطة.
الخلاصة أن مشهد النهاية مشوش جدًا وأصاب الذروة بالكثير من الغموض والتخبط، وربما كان على الكاتب أن يصل بفيلمه لذروة تماثل عبثية الحالة الاجتماعية والسياسية التي شرحها خلال الفيلم، لا أن يستسهل النهاية الرمزية المفتوحة بلا جذور درامية متأصلة داخل التجربة التي قدمها.