أصبحت تركيا نموذجاً يتحدث عنه الشرق والغرب، مع النجاحات السياسية والاقتصادية اللافتة لحكومة «العدالة والتنمية» ذات الجذور الإسلامية، بقيادة رئيس الوزراء رجب طيب أردوجان فى رفع سقف الحريات، وتشكيل نظام يطبق علمانية الدولة بمفهوم لا يتصادم مع حقيقة أن تركيا بلد إسلامى.
ظل النموذج التركى ماثلاً فى الأذهان مع انطلاق ثورات الربيع العربى وتوالى صعود الحكومات الإسلامية فى المنطقة، خاصة مصر. واعتقد البعض أن العديد من النماذج المستنسخة أو المنقولة عن التجربة التركية ستنشأ فى المنطقة، لكن التجارب الديمقراطية لا يمكن استنساخها، نظرا لاختلاف طبيعة التركيبة الحاكمة، وتباين خصوصياتها. حول كل هذه الأمور تحدثت «المصرى اليوم» مع السفير المصرى فى أنقرة عبد الرحمن صلاح الدين، وإلى نص الحوار:
■ إلى أى مدى يمكن القول بوجود أوجه تشابه بين النموذجين المصرى والتركى؟
ـ مصر وتركيا تتشابهان فى الكثير من النواحى، من حيث الجغرافيا والموارد والموقع الجيواستراتيجى والمساحة بل وتعداد السكان، وحتى التركيبة السكانية التى تتميز بأن النسبة الأكبر فيها للفئة من 14 - 55 عاماً.
■ماذا عن الوضع الاقتصادى؟
ـ اقتصادياً، كان البلدان يسيران كتفا بكتف حتى منتصف الثمانينيات. كانت الأرقام واحدة والدخل القومى واحد تقريبا، ونصيب الفرد منه، أما الآن فأصبح الدخل القومى لتركيا 3 أو 4 أضعاف الدخل القومى فى مصر. ومتوسط نصيب الفرد من هذا الدخل يصل إلى 3 أصعاف المتوسط فى مصر، كما أصبح الاقتصاد التركى يحتل المرتبة الـ 16 عالميا.
■ برأيك.. إلى ماذا يعود التفوق التركى فى الوقت الحاضر؟
ـ فى تفسيرى الشخصى، هناك 3 عوامل رئيسية، أولها أن تركيا اختارت منذ منتصف الثمانينيات السعى للانضمام إلى عضوية الاتحاد الأوروبى. وبغض النظر عن تحقق النتيجة أو الهدف حتى الآن، فوضعت أمامها معايير كوبنهاجن، وعلقت عينيها بالنموذج الألمانى تحديدا، لتحديث ليس صناعتها وبيئتها الطبيعية ومياه الشرب والخدمات الصحية والمرافق والتعليم، بل ونظامها القضائى ومنظمات المجتمع المدنى. وتمثل التعديلات الدستورية التى جرت على النظام القضائى والمنظمات الحقوقية أحد أهم أسرار نجاح الحكومة، إذ جاءت فى إطار عنوان عريض هو «الحريات».
■ كيف لعب العامل السياسى دوراً فى هذا التفوق؟
ـ تركيا منذ الخمسينيات أصبحت تنتخب حكومتها بإرادة حرة بعد العديد من الانقلابات، والاضطرابات. وأصبح لدى المجتمع التركى قبولاً لمبدأ تداول السلطة على المستوى الديمقراطى، وخلال هذه المرحلة تقريبا، توقفت مصر عن انتخاب حكوماتها. ولا ننسى أنه فى فترة حكم الرئيس التركى الراحل تورجوت أوزال، بدأ التحول بالاقتصاد التركى نحو السوق الحرة، بعد 17 عاماً من هذا التحول فى مصر، لدرجة أنهم فى تركيا كانوا يستعينون بالخبراء الاقتصاديين من مصر.
■ لكن لماذا أنتجت هذه السياسة كوارث فى مصر، بينما صعدت بالاقتصاد التركى إلى مصاف الاقتصادات الكبرى؟
ـ الفارق يكمن فى أن الدولة فى تركيا لم تتخل عن دورها الرئيسى فى تقديم الخدمات الأساسية للشعب من تعليم وصحة ومرافق عامة. ظلت هى المقدم الأول للخدمة والمسيطر عليها والمراقب لها، فمثلا،هناك جامعات أهلية لكن الحكومة هى التى تحدد أعداد الخريجين فى كل تخصص وفقا لفرص التوظيف.
■ لعلكم تابعتم الجدل الحاد حول الدستور والعلمانية فى مصر، ما رؤيتكم لهذا الأمر فى ضوء معايشتكم للواقع التركى؟
ـ سأعود للوراء، فدستور 1923 فى مصر، وضع تقريباً فى الفترة الزمنية التى وضع فيها أول دستور للجمهورية التركية بعد الحقبة العثمانية. وكان هناك فارق أساسى بين الدستورين، ففى تركيا تم إسقاط دور الدين فى الدولة بشكل كامل، وألغيت تماما المواد التى كانت تشير إلى الشريعة الإسلامية، فى حين استمر دور الدين مهماً وبقيت الشريعة الإسلامية هى مصدر التشريع منذ دستور 1923 وحتى الدستور الجديد فى مصر.
■ مع ذلك هناك أصوات فى تركيا تنادى بمراجعة هذا الأمر من باب حقوق الإنسان والحريات؟
ـ نعم، هؤلاء هم من يرون أن الدستور التركى طبق العلمانية الأوروبية بالمفهوم المتشدد. وما يطرحه حزب العدالة والتنمية هى العلمانية التى تقوم على وقوف الدولة على مسافات متساوية من الجميع، وكثيرا ما أوصى السياسيون الذين يزورون تركيا بالاطلاع على الدفوع القانونية التى قدمها حزب العدالة والتنمية إبان نظر المحكمة الدستورية العليا قضية إغلاقه عام 2008، لأنه يقدم فيها مفهومه للعلمانية، والذى يرى أن الدولة لا يمكن أن تكون فى صدام مع الأديان وإنما تقف على مسافة واحدة من جميع أتباعها.
■ ألا تعتقد أن وجود زعامة قوية مثل أردوجان على رأس حزب العدالة والتنمية تلعب دوراً مهماً فى إنتاج هذه التجربة بخصوصياتها؟
ـ لا شك أن هناك دوراً مهماً لكاريزما أردوجان. لكن دوره يأتى فى إطار سياسة موضوعية رسخها الحزب ويعمل عليها باستمرار ويناقشها ويقيمها. وبرزت عبقرية مؤسسى هذا الحزب بعد خروجهم من عباءة حزب «الرفاة» بقيادة نجم الدين أربكان، وبعد الانقلاب العسكرى الصامت على حكومته عام 1997، فى انحيازهم للأهداف الاجتماعية كأولوية.
■ وكيف ترى انفتاح الحزب الحاكم على القوى السياسية الأخرى فى تركيا؟
ـ أحد العوامل الأساسية فى نجاح الحزب هو انفتاحه على القوى السياسية الأخرى، واستعانته بخبرات من مختلف الأحزاب المنافسة، وفى مقدمتها حزب الشعب الجمهورى «العلمانى» وحزب الحركة القومية «اليمينى».
■ بالانتقال إلى مصر.. كيف انعكس تغير النظام بعد الثورة على مسار العلاقات الثنائية؟
ـ ما حدث فى مصر دفع العلاقات مع تركيا للأمام إلى الحد الذى أصبحت فيه علاقات مصر مع تركيا لا تناظرها علاقة لمصر مع دولة أخرى فى العالم. تركيا باتت من أقرب الدول لمصر، إن لم تكن أقربها. هناك تطابق بين البلدين فى أهداف السياسة الخارجية سواء فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية أو السورية أو مسألة منع الانتشار النووى فى الشرق الأوسط.