«العسكر يحمي الدستور.. والدستور يحمي العسكر».. صيغة يمكنها أن تعبر عن العلاقة الأبوية بين الجيش، الذى عين نفسه حامياً للإرث العلمانى لمؤسس تركيا المعاصرة مصطفي كمال أتاتورك، ودستور البلاد على مدى تاريخ الجمهورية التركية، ولكن يبدو أن هذه الصيغة ستنتهى قريبا، إذ يسعى مشروع الدستور الجديد إلى الحد من الدور السياسي للمؤسسة العسكرية للبلاد التي طالما احتلت حيزاً مهماً، عبر إخضاعها للرقابة المدنية المباشرة.
وظلت العلاقات بين الجيش العلمانى وحكومة حزب «العدالة والتنمية» يشوبها التوتر منذ وصول الأخيرة للسلطة عام 2002، وذلك بسبب الجذور الإسلامية للحزب، إذ عمد رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوجان، إلى إنهاء الدور السياسي للمؤسسة العسكرية، من خلال سلسلة من الإصلاحات التي تهدف إلى تعزيز فرص تركيا للانضمام إلى الاتحاد الأوروبى، وتحقيق مشروع جمهورية ثانية يغيب فيها الجيش عن المشهد السياسي كلاعب رئيسى.
وبدأ بالفعل النفوذ السياسي للجنرالات في التراجع منذ عام 2003 حينما بدأ أردوجان طرح إصلاحاته الدستورية التي طالت صلاحيات الجيش واختصاصاته، وتواصل هذا التراجع عام 2007 بعد خسارة العسكر معركة رئاسة الجمهورية إثر فوز مرشح «حزب العدالة والتنمية»، عبدالله جول.
وزاد تراجع الدور السياسي للجيش التركي عام 2010 بعد الكشف عن مؤامرتي «أرجنكون» و«المطرقة»، اللتين كانتا تخططان للإطاحة بحكومة أردوجان، والتي تم على إثرهما اعتقال مئات القادة العسكريين، ثم جاءت التعديلات الدستورية التي تم الاستفتاء عليها في سبتمبر من العام نفسه، والتي كانت بمثابة نهايـة لنظام الوصاية العسكرية في تركيا، حيث شلّت قدرته على التدخل في الحياة السياسية، وجرّدته من الحصانة القضائية.
وفي خطوة اعتبرها محللون بمثابة فرصة كبيرة كان ينتظرها أردوجان لصياغة دستور مدني، تقدم قادة الجيش التركي باستقالات جماعية في 2010، وهي الخطوة الأولى من نوعها منذ تأسيس الجمهورية التركية عام 1923، احتجاجاً على استمرار ملاحقة السلطات لعدد من ضباط وقيادات الجيش، وللضغط على رئيس الوزراء، إلا أنه فاجأهم بقبول الاستقالة.
ويتفق العديد من المحللين على أن أزمة استقالات الجنرالات كانت بمثابة «المسمار الأخير» في نعش الدور السياسي للمؤسسة العسكرية، وأكد مركز «ستراتفور» الأمريكي، في دراسة، أن أردوجان أحكم قبضته على الجيش، معتبراً أن الأخير لم يعد يشكل خطراً على الحكومات المدنية، وبات عاجزاً عن التصدى لعجلـة العمليـة الديمقراطية التي تمضى بكل سـرعـة وقوة، وتدهـس في طريقها كل من يحاول إيقافها.
ومن ثم اتفقت الإرادة السياسية والمجتمعية، على حد سواء، خلال العامين الأخيرين على وجوب سنّ دستور جديد للبلاد بإرادة مدنية حرة بعيدة عن وصاية حكم العسكر، وكلف البرلمان التركي «لجنة الوفاق الدستوري» بوضع مسودة لدستور البلاد الجديد.
وتعتزم اللجنة إجراء عدة تعديلات على الوضعية الدستورية والقانونية للمؤسسة العسكرية التي تمنحها حق التدخل في العملية السياسية، ومن هذه التعديلات: إلغاء المحاكم العسكرية الإدارية العليا، واقتصار مهام القضاء العسكرى على النظر في قضايا الإخلال بالنظام العسكرى فقط، وإغلاق المدارس الثانوية العسكرية تماما، وإخضاع ميزانية القوات المسلحة وجميع نفقاتها خضوعا تاما لإشراف الجهاز المركزى للمحاسبات.
إلا أن هناك العديد من القضايا التي تشكل عائقاً أمام توافق اللجنة، ومنها التي تتعلق بتشكيل رئاسة ذات صلاحيات تنفيذية تنتقص من سلطات البرلمان، في الوقت الذى لم يخف فيه أردوجان، عزمه الترشح لانتخابات الرئاسة المقبلة، وحرصه على أن يكسب منصب الرئيس المزيد من النفوذ.
وفي حال فشل اللجنة في التوصل إلى مشروع قانون بحلول إبريل المقبل، وهو أمر مرجح، لأنها اتفقت على ثلث المواد فقط من بين نحو 85 مادة مطروحة للنقاش حتى الآن، سيعمد حزب أردوجان إلى تمرير التعديلات التي اقترحها والتي تتضمن إقامة نظام رئاسى على البرلمان مباشرة، إذ يتطلب إقرار التعديلات موافقة ثلثى نوابه البالغ عددهم 550 نائباً، أى 367 صوتاً، علماً بأن «العدالة والتنمية» بحوزته 326 مقعداً وقد لا يتمكن من تحقيق الأغلبية المطلوبة، ولكنه لا يحتاج إلا إلى أغلبية 60% لإقرار قانون طرح التعديلات في استفتاء عام، أى 330 صوتاً.
وتخشى المعارضة التركية أن تمنح التعديلات التي يريد أردوجان أن يطبقها، بما يمنحه المزيد من الصلاحيات، بينما يرى آخرون أنه يريد تعديل الدستور لإقامة نظام رئاسى يحظى فيه بسلطات تنفيذية بحيث تكون تلك التعديلات قائمة قبل الانتخابات. ويرى أحد المراقبين للشأن التركي أن كل المعطيات لا تدفع إلى القول بأن عهد تدخل الجيـش في السـياسـة قد ولَّى، ولكن ما يمكن الجزم بـه فقط، هو أن عهد الانقلابات العسـكريـة بات في ذمـة التاريخ، أما حق تدخل الجيـش في الحياة السـياسـية فلايزال مكفولاً في دسـتور 1982 الحالى، وما لم ينجح «العدالـة والتنميـة» في تمرير الدسـتور الجديد، فإن الديمقراطيـة التركية ومكتسباتها ستظل في خطر.