شوارع كابول بلا «بنية أساسية» والنقاب أقل من القاهرة

كتب: محمد السيد صالح السبت 20-11-2010 15:35


«الدنيا أمان فى كابول قياساً بباقى الأقاليم والمدن الأفغانية الأخرى، خاصة منطقة الجنوب الشرقى».


هكذا كانت رؤية الأفغان الذين رافقونا خلال زيارتنا لكابول واستمرت أسبوعاً بتنسيق بين مركز الدراسات المستقبلية والاستراتيجية، ومركز كابول للدراسات الاستراتيجية، ورغم ذلك فإننا رصدنا 5 انفجارات أسفرت عن سقوط ما يزيد على 30 قتيلاً، كان أحدها على بعد مئات الأمتار فقط من مقر المركز الذى استضاف الندوة الختامية لنا فى أفغانستان.


هذا «الأمان» الذى لم نستشعره إلا من وراء جدران فندق ضخم هو أقرب للثكنات العسكرية الأمريكية، قصفته حركة طالبان قبل شهرين، ومن حولنا طاقم حراسة مدجج بالرشاشات الحديثة، جاء نتيجة اتفاق غير مكتوب بين حكومة الرئيس حامد كرزاى، وباكستان التى مازالت ترعى حركة طالبان، كما يؤكد جميع السياسيين الذين التقيناهم.


وأفغانستان، ووفقاً لمحصلة هذا الأسبوع، ليست هى فقط الأخبار العاجلة حول الانفجارات والقتلى وعمليات لـ «الناتو» بهدف قتل الإرهابيين والمقاتلين المتحصنين بالجبال.. إنها حياة معقدة للغاية.. فكابول على سبيل المثال يعيش فيها ما يزيد على 5.5 مليون مواطن بينهم مليون لاجئ نزحوا من مناطق الحرب ليعيشوا حياة بائسة وفقيرة فى أحياء دون أى خدمات، أو اعتلوا الجبال المحيطة بالعاصمة ليشكلوا صورة مبتكرة للعشوائيات، وأناس يعيشون على مرتفعات غير مهذبة ودون أى شوارع.. وسيلتهم الوحيدة هى سلالم منحدرة بقسوة نحو الوديان التى تصلهم بأحياء العاصمة، وفى المقابل، فإن نسبة الأغنياء مستفزة للغاية.. ثروات الغالبية منهم جاءت من تجارة المخدرات أو من التعامل مع القوات الدولية، ووفقاً لإحصائيات دولية فإن أفغانستان تنتج نحو 80% من الأفيون العالمى، وتم تقدير حجم هذه التجارة بنحو 4 مليارات دولار عام 2004، ويأتى 50% من مدخلات الاقتصاد الأفغانى من التعامل مع القوات الدولية، ويخشى القائمون على الاقتصاد الأفغانى من حالة الكساد المتوقع حدوثها بعد خروج القوات الأجنبية المقرر أن يبدأ العام المقبل، وخلال 9 سنوات من الحرب فى أفغانستان أنفقت الولايات المتحدة الأمريكية 347 مليار دولار على العمليات العسكرية، و54 مليار دولار على الأعمال الإنشائية والاقتصادية، لكن على أرض الواقع فإنه لا توجد بنية أساسية فى العاصمة كابول بالمعنى الصحيح، فشبكة الكهرباء بسيطة، وانقطاع التيار عملية روتينية وتقليدية على مدار اليوم حتى فى الفنادق والسفارات، ولا توجد شبكة صرف صحى فى باطن الأرض، بل مجموعة من القنوات الأرضية وهى غالباً مفتوحة برائحتها النفاذة حتى فى الأحياء الراقية والتى تشغلها السفارات والشركات الأجنبية، والمرور فى كابول صعب للغاية، فالشوارع غير الممهدة والترابية مزدحمة بآلاف السيارات الحديثة والقديمة، وأكثر من 90% من هذه المركبات ماركة «تويوتا»، ولا إدارة للمرور هنا بمعنى الكلمة، ولكن اتجاهات المرور يحددها السائقون وفقاً لطبيعة الزحام واتجاه حركة السير، لكن هذه العشوائية تختفى تماماً عند مرور مركبات عسكرية خاصة التابعة للقوات الدولية، والسيارات التى تقل الأجانب معظمها مصفحة، ومع أهمية الشخصيات التى تستقلها، يزداد عمل أجهزة التشويش فى المنطقة، ويختفى هذا الزحام من شوارع كابول مع حلول المساء، ولا تعمل المحال هنا بعد الساعة السابعة مساءً بسبب الإجراءات الأمنية والخوف من حوادث الاختطاف والتفجيرات التى يقع معظمها مساءً.


ورغم هذ القسوة فإن الناس فى كابول- حتى الأجانب منهم- استطاعوا التعايش مع غياب الأمن وذلك عن طريق الاستعانة بشركات الحراسات الخاصة، ويومية الحارس الجيد هناك تتعدى 200 دولار، وبيوت السياسيين وزعماء القبائل وكبار التجار محروسة على مدار الـ24 ساعة، بالإضافة إلى لجوئهم إلى استيراد بوابات كشف المفرقعات، وقد رصدنا نظماً أمنية فى بيوت عدد من السياسيين أقوى من الحراسات الموجودة فى عدد من المقار الرسمية، وعلى سبيل المثال فإن بيت عبدالله عبدالله، زعيم المعارضة، المرشح السابق فى انتخابات الرئاسة، محاط بمجموعة من المتاريس القوية تبدأ بمجموعة من الحواجز الأسمنتية التى يزيد ارتفاعها على مترين، ومتقاطعة مع بعضها لتترك مجالاً ضيقاً للغاية لا تستطيع السيارات المرور منه إلا بصعوبة وبدوران حاد من اليسار إلى اليمين، والعكس عند الخروج، كما أن مدخل البيت رائع الجمال ومفروش بسجاد فاخر وبصالونات من الحرير، هى فى الحقيقة عبارة عن بوابة لكشف المفرقعات والأجسام الصلبة.


عدد محدود من المطاعم له شهرة خاصة عند الأجانب فى كابول وكذلك للأفغان المقتدرين، وأشهرهم مطعم لبنانى دخل صاحبه العربى فى شراكة مع عدد من الأفغان لتأمين موقفه، ورغم هذا فإن للمطعم بوابة فولاذية ضخمة، ولاتوجد له أى لافتات أو إضاءة على الشارع المظلم ليلاً وعليه حراسة خاصة، ولكن بعد عبورك هذه البوابة الموحشة ستجد أجواءً مغايرة تماماً.


زرنا هذا المطعم بصحبة مصريين أحدهما يعمل فى السفارة المصرية، والآخر فى شركة اتصالات خليجية، والمطعم يقصده الدبلوماسيون الأجانب، خاصة الأمريكيين، كما أنه ملتقى الإعلاميين الغربيين والعرب فى العاصمة، وأطباق المطعم لبنانية خالصة، لكن المهم هو أنه على مدى الساعتين اللتين قضيناهما فيه، لم تفارقنا أغانى عبدالحليم حافظ، وعمرو دياب، وشيرين.


والمنتقبات هنا، خاصة فى كابول، نسبتهن محدودة للغاية، فهى وفقاً لعدد من الإعلاميين الأفغان الذين رافقونا فى الرحلة أقل من 5% فى العاصمة، وراقبنا هذا الموضوع جيداً طوال أسبوع، فالغالبية من السيدات وبنات المدارس والجامعات يضعن غطاء أبيض على رؤوسهن وهو مع السير والحركة ينحسر عن الشعر ليكشف معظمه، وهو نفس الرداء الذى ارتدته السيدة الوحيدة التى التقيناها فى رحلتنا وهى الدكتورة سيما سامر، النائب السابق للرئيس الأفغانى، والرئيس الحالى للجنة حقوق الإنسان المستقلة. والنقاب فى كابول لونه أزرق فاتح وتستطيع المرأة التى ترتديه أن ترى الشارع بسهولة من خلاله، وهو وفقاً لعدد من الأفغان الذين شرحوا لنا عدداً من جوانب الحياة الاجتماعية هنا، أقرب إلى الزى المحلى منه إلى «النقاب الشرعى».


ولا توجد أوراق للزواج فى معظم المناطق حتى الآن، فقط يتم الزواج بالطلب والقبول والشهود والإشهار، ونادراً ما تجد أفغانياً متزوجاً من واحدة فقط، فظروف الحرب وقتل ما يزيد على المليون رجل أفغانى خلال فترة «الجهاد» ضد السوفيت، ثم اقتتال «المجاهدين» فيما بينهم خلال الحرب الأهلية وصولاً للعمليات الدائرة حالياً، خلقت زيادة فى عدد النساء عن الرجال، وجعلت قضية تعدد الزوجات عملية طبيعية، كما جعلت زيادة المواليد فى الأسرة الواحدة عملية واقعية ويتم تشجيعها على كل المستويات.


وحكى لنا أحد المثقفين الأفغان الذين رافقونا، كيف أنه تزوج فى سن الـ 20 وأنجب حتى الآن من زوجته الوحيدة 7 أطفال، وكيف أنها تحثه الأن على الزواج من ثانية أسوة بإخوته الذين تزوج الواحد منهم 3 سيدات. لكن الشاب الأفغانى «البشتونى» قال لنا إنه سيتزوج خلال شهور معدودة، لكنه حريص على أن يأتى بها من الريف وليس من كابول التى تغيرت عادات الناس فيها، خاصة البنات اللائى أصبحن أكثر تحرراً ومخالطة للرجال، وعندما سألته عن مظاهر الاختلاط فى مجتمع متدين ومغلق، قال: «فى الجامعة يحدث هذا الاختلاط، لكن على أرض الواقع، فإن كابول مجتمع محافظ للغاية ولا توجد فيه سوى دارين فقط للعرض السينمائى تم افتتاحهما بعد سقوط طالبان نهاية عام 2001، والداران لا تعرضان سوى الأفلام الهندية»، وقال لنا عدد من الأفغان إن الأفلام والمسلسلات والأغانى المصرية لها شعبية كبيرة لديهم، لكنها نادرة حيث لا توجد أى اتفاقيات للتعاون الثقافى حتى الآن.. ولا توجد نواد للسهر، أو مسارح على الإطلاق، لكن البعض يوجه اتهامات مهمة إلى عدد من الفنادق بأنها تتساهل فى عملية الاختلاط، كما أنها تشهد مخالفات أخلاقية.


وعلى العشاء الذى نظمه لنا مركز كابول للدراسات الاستراتيجية مع عدد من رموز الصحافة والإعلام الأفغانى، اقتربنا من رسم صورة عامة لهذا الواقع، فمحطات التليفزيون مازالت فى مهدها رغم وجود نحو 50 فضائية بينها 22 فى كابول وحدها، أما الصحافة فالغلبة فيها للناطقة بالإنجليزية، فهى حديثة طباعة وإخراجاً وموضوعاً، لكن الصحافة المطبوعة بالفارسية، بدائية للغاية وتذكرك بالصحف المصرية فى الخمسينيات، فالصور والموضوعات بسيطة فى مضمونها وإخراجها، ولا يتعدى عدد صفحات الجريدة 8 ورقات، لكن الصورة تطورت كثيراً عما كانت عليه، كما أكد لنا صديق الله توحيدى، وهو مذيع وصحفى بارز بقوله: «فى عهد طالبان كانت تصدر فى أفغانستان مجلة أسبوعية واحدة اسمها (شريعتى) وكذلك محطة راديو واحدة تحمل الاسم نفسه، الآن لدينا 100 محطة إذاعية و50 محطة فضائية و8 صحف يومية.. لدينا هامش حرية جيد، لكن المشكلة أن الحكومة ليس لديها قنوات للتعامل مع (الميديا) أو النقاش معها، وهى إجمالاً تؤمن بشعار (تكلموا كما تريدون ونحن نعمل ما نريد)، وللحكومة صحافتها الخاصة، لكن عيب هذه الصحافة أنها لا تنقل للناس إلا الموضوعات التى تهتم بها الحكومة».


وقال توحيدى: «نريد أن نتعاون مع مصر فى فهم آليات تعامل إعلامكم مع (الإسلام الحضارى) وكيف واجهتم التطرف والإرهاب إعلامياً، لأن أهم المشاكل التى نعانى منها هنا هى سيطرة الأفكار المتطرفة، وأحد المجالات التى نحتاجها هنا هى التركيز على وسطية الإسلام من خلال الأزهر».


وتحدث مكرم محمد أحمد، نقيب الصحفيين، خلال اللقاء عن الصحافة المصرية وتطورها، وركز على الخريطة الإسلامية فى مصر، ورفض الجميع حالياً أعمال التطرف والإرهاب، وألقى الضوء على دور الصحافة الحيوى فى هزيمة الإرهاب، والمساعدة فى نشر المراجعات التى تبنتها الجماعات الإسلامية قبل عدة سنوات.


توجد فى أفغانستان حوالى 20 مجموعة عرقية، لكل منها لغتها الخاصة بها ونمطها الحضارى المميز، وتتكون المجموعة من قبائل مختلفة تتكلم كل واحدة منها لغتها المحلية الخاصة بها، والولاء للقبيلة أو المجموعة يسبق الولاء للدولة، وجماعة «البشتون» - التى تنتمى إليها طالبان - هى أكبر الجماعات العرقية، فهى، وفقاً لتقديراتهم أنفسهم تشكل نحو 60% من إجمالى السكان الذين يتجاوز عددهم 28 مليون نسمة طبقاً لتقديرات يوليو 2010، لكن إحصائيات دولية محايدة تهبط بعددهم إلى 45%، يليهم فى التركيبة السكانية طائفة «الطاجيك» الذين يشكلون نحو 27%، ثم «الهزارة» وهم من الشيعة 9%، ثم «الأوزبك» 9%، بالإضافة إلى مجموعات أخرى من التركمان، والبالوش، والعرب، والإيماك.


ورغم أن الرئيس حامد كرزاى ينتمى إلى البشتون مثله فى ذلك مثل «طالبان»، إلا أن دور هذه الجماعة العرقية تراجع كثيراً فى الحياة العامة، وفى شغلهم الوظائف الكبرى، حتى فى التمثيل البرلمانى، وحل محلهم الشيعة والطاجيك بشكل مبالغ فيه، حتى إننا رصدنا احتقانا داخلياً بين فئات من المثقفين البشتون وتعاطفهم مع طالبان ليس حباً فى «جهادهم» ولكن لتغييب دور البشتون، فى الحياة العامة.


والملاحظ، أيضاً، أن نسبة الرضا الداخلى والخارجى عن الرئيس كرزاى، تراجعت كثيراً وقد جاءت نتيجة الانتخابات البرلمانية التى أجريت قبل شهر ونصف الشهر ولم يتم اعتماد نتائجها النهائية حتى الآن، لتزيد من المشاكل الداخلية، فالبشتون فقدوا ما يزيد على ثلث مقاعدهم وفقاً لنتائج الولايات وتعاملاتها المختلفة، وفى المقابل كسب الشيعة «الهزارة» أرضاً جديدة ونواباً جددا، دعمتهم فى ذلك قوة النفوذ الإيرانى، ونجاح طهران فى مد جسور علاقاتها مع الجميع، ابتداء بطالبان، وانتهاء بإدارة كرازى نفسه.


واللافت هنا، ومن خلال مقابلاتنا مع عدد من المسؤولين الأفعان، أن نظرتهم تجاه إيران ليست سلبية على الإطلاق، حتى الدور الذى تلعبه طهران حالياً فيما يتعلق بمد جسورها مع الجميع له مبرراته، أما العدو الأول فى كابول فهى باكستان، فهى، وفقاً لمحمود كرزاى، شقيق الرئيس، ونائب رئيس غرفة التجارة والصناعة، تلعب دوراً مزدوجاً فى أفغانستان، حيث تمد طالبان بالسلاح والأموال، وتتحالف مع التحالف الدولى فى الوقت نفسه، وهى لو توقفت عن دعم طالبان من البداية لكانوا قد أكملوا تعليمهم وفهموا الدين بشكل صحيح بعيداً عن التطرف. انتقاد الدور الباكستانى سمعناه من رئيس البرلمان، محمد يونس قانونى، ومن نائب رئيس الجمهورية، محمد كريم خليلى، كما سمعناه من زعيم المعارضة، عبدالله عبدالله، لكن اللافت، وفقاً لقيادات باشتونية تحدثنا إليها، أن جميع المنتقدين للدور الباكستانى ينتمون إلى الشيعة أو إلى قيادات «التحالف الشمالى السابق» وجميعهم كانوا ضمن فصائل المجاهدين ضد السوفيت، لكنهم دخلوا فى حرب ضروس للسيطرة على أفغانستان قبل أن تنجح طالبان فى 1996، والتى خلقتها المخابرات الباكستانية ودعمتها إسلام آباد فى طرد الجميع والاستيلاء على السلطة والإعلان عن تغيير الاسم الرسمى للدولة من جمهورية أفغانستان الإسلامية إلى إمارة أفغانستان.


«الاستعمار يأتى من الشمال والتحرير يأتى من الجنوب».. مقولة أفغانية يكررها البشتون، واستمعنا إليها من إعلامى أفغانى بارز وهو يصحبنا بسيارته إلى لقاء «الملا ضعيف» القيادى البارز فى طالبان، الذى وافق على الحوار مع «المصرى اليوم»، وشرح لنا الإعلامى مقصده من هذه الحملة بقوله: «طالبان كلهم بشتون إضافة إلى وجود بعد (الطاجيك) فى الحركة، والبشتون يرون أنهم أصحاب البلاد الأصليون، وكلمة أفغانستان تعنى بالفارسية (بلد الباتان) أو (بلاد البشتون)، وتاريخياً فإن الاحتلال يأتى فعلياً من الشمال على مدار تاريخ أفغانستان القديم وانتهاء بالاحتلال السوفيتى منتصف السبعينيات، ونجح البشتون فى قيادة المجاهدين وصولاً للتحرير، لكنهم الآن مظلومون بإبعادهم عن المناصب الحكومية الرفيعة، رغم أن الرئيس بشتونى ومن قندهار، ووفقاً لما قاله الرجل فإن البشتون لا يكرهون كرزاى فحسب بل يحتقرونه».


ولايات البشتون فى الجنوب الشرقى معظمها مناطق جبلية دون مرافق، هكذا قال لنا الإعلامى، وأضاف: «أنت ترى هنا عمليات إعادة إعمار وإنشاء بنية أساسية حديثة، لكنك لو ذهبت إلى الجنوب الشرقى فلن تجد شيئاً».


تجولنا مع الرجل فى عدد من المناطق والشوارع القديمة التى شهدت فصول الحرب الأهلية التى وقعت بين «المجاهدين» عقب خروج السوفيت حتى استيلاء طالبان على السلطة، مررنا على «تشكين ستريت» وتسمية الشارع الذى زرته مرتين طوال رحلتنا، ترجع إلى أنه كان ميداناً لصراع الديوك فى أفغانستان على مدار عقود طويلة، وهذا النوع من أنواع المراهنة رائج فى شرق آسيا، وفى مناطق أخرى فى أفغانستان كانت توجد أيضاً مناطق لصراع الكلاب وغيرها من مصارعة الحيوانات، لكن مع تولى طالبان السلطة منتصف التسعينيات ألغت هذه المراهنات وحرمتها ومن بينها «صراع الدجاج»، وهناك قصة شائعة سمعتها من عدد من «البشتون» وهى أن بعض الشيعة «الهزارة» عندما آلت إليهم الأمور لفترة ليست بالطويلة خلال الحرب الأهلية كانوا يبحثون عن الشباب البشتون «السنة» ويضعونهم أحياء فى قدور ضخمة مملوءة بالمياه الساخنة وأنهم كانوا يستمتعون بسلقهم، لكن الشارع الآن عبارة عن ممر تجارى كبير أشبه بشارع الموسكى فى القاهرة، لكن المرور فيه وكذلك شبكة الصرف الصحى سيئان للغاية.


وتنتشر فى الشارع محال بيع الأحجار الكريمة والأنتيكات اليدوية والمقتنيات القديمة، خاصة المسدسات والبنادق، كما عادت إليه تماثيل بوذا بعد أن كانت طالبان قد حرمتها وأقامت الحد على من يقتنيها، أما أجمل ما فى الشارع فهو تجارة السجاد الحرير والصوف الفاخر، وأسعاره مناسبة للغاية ولكن بشرط واحد هو «الفصال» مع التجار، وتلقينا نصائح من أفغان رافقونا فى رحلتنا للشارع ومن مصريين يعملون فى السفارة بضرورة الفصال والإلحاح قبل الشراء.


وإذا كان هذا الشارع قد استعاد أهميته، فإن بعض المناطق التى دمرتها الحرب الأهلية مازالت دون تطوير، حيث مررنا فى رحلتنا إلى «الملا ضعيف» بمنطقة تسمى «كوتة سانغى» شهدت أعنف المعارك أيام الاقتتال الداخلى بين المجاهدين حيث سقط الآلاف فى الصراع على النفوذ بين أحمد شاه مسعود و«الهزارة» و«سياف»، كما مررنا بمنطقة أخرى اسمها «خوشهال مينة» أو «مسكن خوشهال» وهو كان شاعراً باشتونياً عظيماً واسمه بالعربية «سعيد» ومنطقته هذه شهدت حرباً ضروساً بين جماعة سياف من جهة والشيعة الهزارة من جهة ثانية.


وجميع «المجاهدين» الذين شاركوا فى «الحرب الأهلية» خرجوا منها دون أى محاسبة، وتناسى الجميع فظائعهم باستثناء قلب الدين حكميتار، زعيم الحزب الإسلامى، الذى يعيش حالياً فى منطقة غير معروفة هروباً من ملاحقته حيث إنه المطلوب رقم 3 على اللائحة الدولية بعد أسامة بن لادن، وأيمن الظواهرى، وهذا الرجل كما يقول أعداؤه مسؤول عن معظم عمليات القتل التى شهدتها أفغانستان قبل وصول طالبان للسلطة، لكن مؤيديه يقولون إن معظم الوقائع المتهم فيها ملفقة، وإن المتهمين الحقيقيين مثل أحمد شاه مسعود، وعبدالرب سياف خرجوا دون أى ملاحقات، بل إن مسعود أصبح رمزاً شعبياً تنشر صوره فى كل مكان، بل معلقة إلى جوار الرئيس كرزاى فى مطار كابول، بالإضافة إلى وجودها فى معظم ميادين العاصمة، وبيوت زعماء التحالف الشمالى.


وصلنا إلى بيت «الملا ضعيف» الذى يشبه إلى حد كبير البيوت العربية البسيطة.. بوابة محصنة فى الأسفل وسلم داخلى ينقلك إلى أدوار ضيقة .. ولفت نظرى داخل البيت عدد من الوجوه البشتونية الحادة بلحاهم الكثيفة، وتخيلتهم وهم على الجبال وفى أيديهم الأسلحة.. ألقيت عليهم السلام .. ودخلت إلى صالون بسيط أنتظر الرجل الذى كان نافذة طالبان الوحيدة على العالم حيث كان يدلى بتصريحات وبيانات «الحركة» من إسلام آباد.. حاورت الرجل لما يزيد على الساعة ونصف الساعة وحين جاء وقت أذان المغرب قمت للصلاة خلفه مع نحو 10 من رفقائه.. وكنت الوحيد الذى علا صوته بكلمة «آمين» عندما أنهى بصوته الجميل قراءة الفاتحة فى الركعة الأولى، وبعد الصلاة وحين مددت يدى لأصافحه.. قال بلجهة لم أفهمها جيداً: «أريدك وحدك» وفهمها صديقى الأفغانى الذى تولى مهمة التصوير طوال الحوار، وقال: «سأنتظرك فى الأسفل»، وخلال ربع ساعة ودون تسجيل حكى لى الرجل قوى البنيان كثيف اللحية مهيب الطلعة عن رأيه بصراحه فى أسامة بن لادن، والحكام العرب وزيارته للسعودية، وموقف مصر من حركته، كل هذا دون تسجيل، أما حواره المسجل معنا فتضمن معلومات مهمة جداً.