يعتبر تقدير حجم الخسائر الاقتصادية والبشرية فى الدلتا المصرية بسبب ارتفاع منسوب سطح البحر بمقدار لا يتجاوز مترا واحدا، مسألة ذات أهمية قصوى. وهذه المخاطر كما ذكرنا فى الحلقات السابقة - لا تقتصر على خسارة بعض الشواطئ السياحية كما يتصور بعض المسؤولين من صناع القرار، وإنما تتعدى ذلك بكثير لتشمل فى الحد الأقصى 5920 كم2 من الأراضى الزراعية والسكنية والصناعية والطرق والترع والمصارف والمرافق المقامة عليها، علاوة على الحصار البحرى لمئات المدن والقرى والعزب والنجوع التى تبلغ جملة مساحاتها نحو 2113 كم2. وسبق أن أشرنا إلى تقديرات خبراء البنك الدولى للخسائر البشرية التى سوف تنجم عن زيادة منسوب سطح البحر بمقدار متر واحد، والتى تصل إلى تهجير نحو 10% من العدد الإجمالى لسكان مصر، حيث سيضطر السكان إلى مغادرة مواطنهم بسبب خسائر الأرض الزراعية التى يقدرها البنك بنحو 12.5% من جملة المساحة المزروعة فى مصر. هذا مع العلم بأن الدلتا تنتج نحو 50% من سلة المحاصيل التى تنتجها مصر، بالإضافة إلى خسائر النشاط الصناعى والتجارى والسياحى وصيد الأسماك، وتغير كيميائية المياه الجوفية، ومياه البحيرات الساحلية، الأمر الذى يهدد بكارثة ما لم تبدأ الحكومة المصرية فى التعجيل بإجراءات الحماية من تأثير التغيرات المناخية والتكيف مع الظروف المناخية الجديدة .
عقود من المشكلات البيئية المزمنة:
إن ما يساهم فى زيادة حجم الخسائر بالدلتا، المشاكل البيئية التى انتابت الدلتا منذ زمن طويل. وأهم هذه المشاكل هو:
التكدس البشرى فى الدلتا:
لقد اقترب عدد سكان الدلتا من 30 مليون نسمة، أى ما يعادل نحو 40% من إجمالى عدد السكان الحالى، الأمر الذى يصعب معه عمليات الإخلاء حال غزو البحر لشمال الدلتا.
التكدس الصناعى على ساحل الدلتا من بورسعيد شرقا إلى برج العرب غربا:
حيث تضم الإسكندرية وحدها نحو 40% من الصناعات المصرية، بينما تضم باقى المدن الساحلية للدلتا وقناه السويس وخليج السويس نحو 40% أخرى من الصناعات، أى أن جملة المصانع على سواحل مصر تمثل 80% من إجمالى عدد المصانع فى مصر.
التلوث البيئى لجميع البحيرات الشمالية:
وذلك بسبب المخلفات الصناعية من جهة وزيادة اختلاط مياه البحر بالبحيرات من جهة أخرى، مما أدى إلى تغير التركيب الكيمائى لهذه البحيرات، مع فقدان أجزاء ضخمة من مساحات هذه البحيرات بسبب أعمال الصرف الزراعى الناشئة من الأراضى الجديدة وأعمال الإنشاءات السكنية والصناعية، مما أثر بشدة على الثروة السمكية فى هذه البحيرات والتى تمثل نحو 60% من جملة الثروة السمكية فى مصر. فقد اختزلت حدود هذه البحيرات من نحو 3242 كم2 عام 1949 إلى 1537 كم2 حاليا منها 1070 كم2 فقط مغمورة (تحت سطح الماء)، والباقى مساحات جافة أو مجففة. وطبقا لتقريرUNEP حول بيئة البحر الأبيض المتوسط رقم 4 (2006)، فإن مياه الصرف الصناعى التى تصب فى بحيرة مريوط قد لوثت البحيرة تلوثا شديدا أدى إلى اختزال الأكسجين وتحولها إلى بحيرة راكدة (حاليا بضع بحيرات راكدة منفصلة نتيجة عمليات التجريف الواسعة جنوب الإسكندرية) تتجمع فيها رواسب غنية بالعناصر السامة مثل الزئبق والكادميوم والرصاص والزنك. أما خليجا المكس وأبوقير فتبلغ كميات الصرف الصناعى والبشرى التى تضخ فيهما 219500 طن سنويا و91700 طن سنويا بالترتيب، وطبقا أيضا لما جاء فى تقرير المجلس المحلى لمحافظة بورسعيد فى يناير 2009، فإن بحيرة المنزلة قد أصبحت مصدرا رئيسيا للتلوث البيئى والإضرار بالسكان، بعد أن كانت تنتج نحو 30% من إجمالى إنتاج الثروة السمكية فى مصر، فتجريف البحيرة مستمر.
عدم قيام الحكومات المصرية منذ إنشاء السد العالى بتلافى الآثار السلبية للسد على الدلتا:
وأهمها انعدام ترسيب الطمى أمام سواحل الدلتا بسبب فقدان النهر لحمولته، مع استمرار انخفاض أطراف الدلتا سنويا، مما زاد من معدلات نحر البحر لشواطئ الدلتا. كذلك عدم وجود خطط بديلة لتعويض الكثبان الساحلية المهاجرة فى اتجاه جنوب شرق أدى إلى تدهور الأحزمة الرملية الفاصلة بين البحر والأراضى الساحلية المنخفضة جنوب خط الشاطئ.
عدم ترشيد استخدام المياه الجوفية فى الدلتا:
على الرغم من أن الخزان الجوفى للدلتا يعد من أكبر خزانات المياه الجوفية فى العالم. فقد أدى السحب المستمر غير المرشد للمياه الجوفية أن تدهورت نوعية المياه الجوفية فى المناطق الشمالية للدلتا، وزيادة ملوحتها على طول الساحل بعمق 63 كيلومتراً إلى الداخل، وتعرضها للتهديد بالاختلاط الكامل بمياه البحر حال ارتفاع منسوب سطح البحر.
استمرار الإنشاءات فى الميناءين الشرقى والغربى للإسكندرية:
لقد ساهمت هذه الإنشاءات فى الانزلاق الكتلى التحت سطحى على قيعان الميناءين. وكلما زاد تدهور التربة التحت سطحية لقيعان هذه الموانئ كلما زاد من احتمال انزلاق الإنشاءات والتراكيب الصناعية الموجودة بغرض الحماية، كذلك تكدس الإنشاءات على الساحل الجنوبى لخليج أبوقير على أراضى منخفضة تحت منسوب سطح البحر يشكل ثقلا على التربة الطينية التحت سطحية، ويهدد بانزلاق غالبية المنشآت المقامة على الساحل فى اتجاه البحر، حال زيادة منسوب سطح البحر بأى مقدار.
الوسائل الدفاعية التقليدية
يجب على الحكومة المصرية أن تخطط فورا لإجراءات الدفاع عن سواحل مصر. وعلى الهيئات التى تضع الاستراتيجيات أن تضع أولويات دفاعها بناء على المعلومات الواردة فى هذه الدراسة، والتقارير الأخرى المحلية والدولية الصادرة فى هذا الشأن.
توصيات عامة قبل إعمال الوسائل:
التوقف تماما عن إقامة منشآت سكنية أو صناعية أو منتجعات سياحية جديدة على طول الحزام الرملى الممتد من مصب رشيد غربا إلى البرج شرقا، والحزام الرملى الشمالى الغربى لبحيرة المنزلة الممتد غرب قرية المناصرة المعروف باسم بر الدحرة، وعلى طول الساحل الجنوبى لخليج أبوقير الممتد بين ضاحية أبوقير غربا والمعدية شرقا، وداخل السهل المثلثى الواقع شرق خليج أبوقير فيما بين إدكو والجدية ومصب رشيد، وعلى الضفة الغربية لقناة السويس فيما بين القابوطى شمالا والكاب جنوبا، وداخل الشريط الساحلى الواقع شرق جمصة مباشرة وشمال الركابية، وحول ميناء دمياط، والشريط الساحلى الواقع جنوب غرب رأس البر مباشرة فيما بين البحر ونهر النيل. كذلك التوقف عن أى إنشاءات جديدة فى السهول الزراعية جنوب ضاحية أبوقير، وجنوب المعمورة وجنوب المنتزة وجنوب سيدى بشر القبلى، وذلك لحين إتمام إجراءات الحماية.
بناء الدفاعات الساحلية:
يجب أن يكون بناء الدفاعات فى إطار خطة قومية شاملة لحماية الساحل الشمالى للدلتا والصحراء الغربية . وفى هذا الصدد قام المؤلف بتعيين أماكن الثغرات الساحلية المطلوب حمايتها، واقتراح خطوط الدفاع عن سواحل الدلتا، وتقسيم خطوط الدفاع إلى خط دفاع أول، وخط دفاع ثان، وخط دفاع ثالث، ووسائل الدفاع فى كل خط دفاع . والدفاع هنا لا يقصد به حماية الشواطئ فحسب من تأثير ارتفاع الأمواج البحرية كما هو جار فى محافظة الإسكندرية. وإنما يقصد به حماية كل السهول الساحلية المنخفضة بما عليها من قرى ومدن وأراض زراعية على طول القوس الشمالى للدلتا، ومن ثم لم يعد الأمر يقتصر على إنشاء بضع مصدات أو حوائط للأمواج، وإنما يتعداه إلى إقامة الجدر الأسمنتية المصفحة الغاطسة القادرة على صد أى اجتياح أو تسرب بحرى داخل الأرض فى المواقع التى تنتشر بها الثغرات الشاطئية المنخفضة، وذلك على طول خطوط الشواطئ فى مواجهة البحر فى المواقع الساحلية التى لا يفصلها عن البحر أحزمة رملية قوية والتى من شأن اجتياحها أو تسرب البحر من خلالها إغراق مساحات شاسعة من الأراضى الواقعة جنوبها، وعلى أن تغطس هذه الجدران تحت منسوب سطح البحر بعمق يتراوح بين 3.0 متر إلى 13.0 متر، وأن ترتفع فوق منسوب سطح البحر بما لا يقل عن مترين، أى بارتفاع إجمالى يتراوح بين 5.0 متر و15.0 متر. وقد تم تحديد مواقع وأطوال وارتفاعات الجدر المصفحة المطلوب إقامتها على طول سواحل الدلتا والإسكندرية، وعلى أن يعد هذا الإجراء بمثابة خط دفاع أول تلحقه خطوط دفاع أخرى.
كذلك إقامة جسور أرضية أسمنتية جنوب خط الشاطئ لا يقل ارتفاعها عن 2.0 متر فوق منسوب سطح البحر ذات أسطح مستوية وجوانب مائلة شمالا وجنوبا تمتد بمحاذاة الساحل، أو استغلال طرق قائمة بالفعل بعد رفع منسوبها إلى 2.0 متر فوق منسوب سطح البحر لتقوم مقام هذه الجسور، وذلك كخط دفاع ثان فى المواقع التى تم تحديدها فى الدراسة التفصيلية. وقد تم تعيين مسارات هذه الجسور وتضاريس كل جسر خلال المسار المقترح، والارتفاعات الفعلية لهذه الجسور فوق سطح الأرض على طول المسار.
هذا بالإضافة إلى خط الدفاع الثالث وهو يشمل تدعيم ورفع منسوب جسور أرضية قائمة بالفعل بحيث لا يقل ارتفاعها عن 2.0 متر فوق منسوب سطح البحر، مثل الجسور الجنوبية والغربية لبحيرة البرلس، والجسور الشرقية والجنوبية والغربية لبحيرة المنزلة لحماية السهول المحيطة بهذه البحيرات من تأثير فيضان البحيرات حال اجتباحها من البحر أو ارتفاع منسوبها نتيجة التسرب البحرى خلال التربة تحت السطحية. كذلك رفع منسوب الجسر الشمالى لترعة المحمودية عند مواقع الثغرات المنخفضة التى تتخلل الترعة فيما بين بركة غطاس شرقا والإسكندرية غربا، والجسر الشرقى للفرع الغربى من النهر (فرع رشيد) عند مواقع الثغرات التى تتخلله فيما بين عزبة أبوخشبة شمالا وفوة جنوبا، والجسور الغربية للجزء الشمالى لقناة السويس فيما بين القابوطى شمالا والبلاح جنوبا، والجسور الشرقية للفرع الشرقى من نهر النيل (فرع دمياط) فيما بين عزبة أبو طبل جنوبا وعزبة البرج شمالا. وقد تم تحديد مواقع الثغرات وأقطارها وأطوال المسارات المطلوب تعلية الجسور عندها، وتضاريس كل مسار، والارتفاعات الفعلية المطلوب تعليتها فوق سطح الأرض لتيسيير عمل المهندسين والمقاولين.
كذلك رفع منسوب شواطئ الإسكندرية الشمالية من أبوقير شرقا إلى العجمى غربا، وشواطئ مصيف بلطيم ومصيف جمصة، وشواطئ بورسعيد الشمالية، وشواطئ القرى السياحية بالساحل الشمالى إلى ارتفاع 1.5 - 2.0 متر فوق منسوب سطح البحر. وتدعيم كل الشواطئ الصناعية التى تم تجفيفها على طول الساحل الشمالى للصحراء الغربية من خلال رفع منسوبها إلى نفس الحد فوق منسوب سطح البحر، مع اتخاذ الإجراءات اللازمة لحماية جميع المنشآت السياحية والسكنية المهددة جنوب خط الشاطئ فى المواقع السياحية التى تم تحديدها فى الدراسة التفصيلية على طول الساحل الشمالى للصحراء الغربية الممتد فيما بين أبوتلات شرقا والسلوم غربا، كذلك الساحل الغربى للبحيرات المرة وبحيرة التمساح، مع رفع منسوب الشواطئ الصناعية بمدينة العريش الجديدة (الغربية) لنفس الارتفاع.
ولا تغنى كل هذه الدفاعات الساحلية عن خطط تفريغ المياه وصرفها بعيدا عن البحر، فزيادة منسوب سطح البحر سوف يزيد من إرتفاع الامواج فى فصل الشتاء وقدرتها على تخطى بعض الحواجز الطبيعية أو الصناعية الممتدة على طول خط الشاطئ. لذا يجب التخطيط لإنشاء شبكة من الأنابيب أو القنوات لتفريغ مياه البحر التى سوف تخترق الدفاعات الساحلية على طول الساحل وصرفها فى مناطق صحراوية منخفضة بعيدة عن شاطئ البحر، فالبحر لا يصلح كمصرف لمياه البحر، وبالتالى فلا مناص عن البحث عن سياسات غير تقليدية لحماية الأراضى المصرية من مخاطر ارتفاع سطح البحر، وتحويل التهديد إلى فرصة لتعظيم الاستفادة من هذه المياه فى توليد الطاقة
دراسة بقلم - د. خالد عودة.