كان يمشى حولنا قدر جرأته، مَلَكاً يرصدنا ولا نرصده، يفرق بيننا، يوقظنا من أكذب اللحظات وأجملها، يقطع شرايينا، فنلوم الدم السيّال، يستخلص أرواحنا كجرّاح مبتدئ، يقطع مشرطه ما يقطع، فننحنى خاشعين لنضع الجسد الأزرق فى جيوب الأرض الرمادية. كان يحتكر الرضا «قضاء وقدر»، فهو «علينا حق» مكروه. ندعوه فى لحظات يأسنا بأعلى صوت، وقلوبنا تدعو خالقها بابتعاده عنا، يصيبنا الهلع حينما يحضر «طاغياً» تلتف العيون نحوه خائفة كطفل يبحث عن زوجة أبيه لتطعمه، وتمتد أيادينا لتدفع لحظاته الثقيلة، ناسجة خرافات عن «رحمته» بنا، و«حكمته» فى تعديل مسار الحياة التى خلقت معه، وعندما نخلو إلى أنفسنا، يطفو الغضب على وجه نهر مشاعرنا، ويرسو على شاطئ اللعنات.
هكذا كان الموت، وكنا معه، علاقة عشق من طرف واحد، حتمية، قاتلة، ظالمة، لكنها حقيقية بقدر مقابر نشتريها ونحن فى «عز شبابنا»، نجملها، نهندسها، نلونها، نحرسها، وأحياناً نزرعها بالورود انتظاراً لموعد لا نعرفه، واعترافاً بحتمية وصول الحياة إلى لحظة ذروة: قتل، مرض، حادث، انتحار، أو الوصول إلى نهاية السباق. فى عامين، أصبح لفظ «قتيل» أو «ميت» غير كاف، الكل شهداء بلا تمييز، فالقاتل واحد بطرق مختلفة أغلبها ابتكارات قبيحة لا تفرق بين شيخ وطالب وعاطل، لا تفرق بين ذكر وأنثى، لا تفتش فى خانة الديانة، فتوحدت الجنازات تحت ألوان الشهادة، وتحولت إلى احتفالات فى حب الوطن وتحرره واسترجاع كرامته التى أهدرت لأعوام، ومازالت. فى عامين، تغير الموت، بهتت هيبته، ولم تعد حيرة «قابيل» فى العثور على مكان لإخفاء جثة أخيه «هابيل» ذات معنى، الموتى بالمئات، والحزن فى هذه اللحظات رفاهية لا نقدر عليها.
شباب أنزل الموتَ من عرشه، وأجلسه إلى جواره على أرض الشارع والميدان، وتقاسم معه كوب الوطن، فأصبح رفيق نضال، حضوره عادى، وجبروته مهذب، ولغته إنسانية، فوقف فى الصفوف كلها، أمامية ودفاعية وخلفية، ليعتاده الثوار زميلاً يرافقهم فى كل موقعة مفروضة عليهم، كل مواجهة لا يهتمون قبلها كم قتيلاً سيسقط بقدر اهتمامهم كيف ستطوف الجثث الشوارع ملتفة بعلم الوطن ثلاثى الألوان، وكيف سيخبرون أهاليها ليعدوا الأفراح والزينة، والأهم: كيف سيأخذون حقها من قاتلها دون بكاء؟
شهيدات منسيات من دفتر الثورة
«المصرى اليوم» تفتح ملف شهيدات الثورة المنسيات وتروى قصص 4 منهن، أولهن زكية عبدالقاصد، من منشية ناصر، لا تجيد القراءة ولا الكتابة، لكن خبرة الحياة أثقلت مشاعرها، فضلت أن تقضى الدقائق الأخيرة فى حياتها مع حفيدها «عمر»، ذى الـ14 عاما، فى إحدى المظاهرات التى اندلعت فى منشية ناصر يوم 28 يناير 2011. «الشباب دول بيتظاهروا عشان الغلاء وعشان حسنى مبارك مستولى على كل حاجة وعاوز يورث البلد لابنه»، تلك كانت كلماتها لحفيدها الذى مازال يحفظها عن ظهر قلب كما لو كان المشهد حدث بالأمس، وبعدها شاهد مئات المتظاهرين يهرولون خوفا من مطاردة عربتى أمن مركزى، حاول أن يحذر جدته إلا أنها لم تلتفت له، فترك يدها وتراجع إلى الوراء ليشاهد عربة الأمن تدهسها، وقف مذهولا، ولمح بعض جيرانه يحملون جثتها الملقاة على الأرض فانطلق إلى أسرته ليخبرهم بالحادثة. أمام قبرها فى مدينة نصر، ظل شريف عبد المنعم، الابن الأوسط للشهيدة، يروى تفاصيل يوم جمعة الغضب حيث جلست أمه الراحلة تتابع المظاهرات مع أبنائها عبر شاشة التليفزيون وخرجت مدعية أنها ذاهبة لشراء الخبز ولم يعرفوا بمشاركتها فى الأحداث إلا بعد أن أخبرهم «عمر» باستشهادها، متأثرة بنزيف فى المخ وكسر فى الجمجمة فى مستشفى الزهراء، وتوجه بعدها «شريف» إلى قسم شرطة الوايلى وحرر محضراً بمقتل والدته، واتهم اللواء حبيب العادلى، وزير الداخلية الأسبق، واللواء أحمد رمزى، مساعد وزير الداخلية لقطاع الأمن المركزى السابق، بقتلها. مريم مكرم نظير زكية عبدالقاصد هبة حسين محمد أمين رحمة محسن أحمد خضير ليزا محمد حسن أميرة محمد إسماعيل حبيبة محمد رشدى شيماء فؤاد حسين شيماء الباشا هدير عادل سليمان السيد منة الله محمد عيد عبدالرحمن – الإسماعيلية سامية محمود حسن نجلاء ياسين محسن نسمة كمال أحمد عطية خلود عبد العليم أمل حمدى جمال –الإسكندرية أميرة سمير السيد شحاتة – الإسكندرية أسماء إسماعيل – المنصورة مهير خليل زكى خليل – الجيزة، طلق نارى هدى محمد السيد الطهطاوى – الإسكندرية مبروكة عبدالعال محمد – القاهرة زوجة السيد بسيونى – القاهرة، قتلت برصاص ضابط أمن مركزى وهى فى شرفة منزلها كريستين سيلا مرام محمد – خرطوش انفجر فى البطن رشا أحمد جنيدى سامية محمود حسن خلود عبدالعليم – البحيرة فاطمة الهوارىوالدة أول الشهداء لـ«مرسى»:أنتظر القصاص
«الثورة ضاعت، وضاع معها دماء الشهداء الذين ضحوا بأرواحهم أملاً فى مستقبل أفضل، ولابد من تصحيح مسارها لكى ينتزع الشعب حقوقه وحقوق شهدائه»، كلمات قالتها بمرارة كوثر زكى، والدة مصطفى رجب، أول شهداء ثورة 25 يناير. فى غرفة الغسيل الكلوى بمستشفى التأمين الصحى، بمنطقة حوض الدرس بحى الأربعين، فى محافظة السويس كانت تبدوا شاردة الذهن، تسترجع ذكرياتها مع ابنها الراحل «مصطفى» الذى لم تغب صورته أبداً عن قلبها وعقلها، تتذكر شهامته وخوفه الشديد على شقيقاته الأربع بعدما توفى والدهم منذ 8 سنوات، وأصبح هو رجل البيت والعائل الوحيد لهن، واستطاع تحمل المسؤولية. تتذكره عندما كان ينتظرها بعد انتهائها من جلسات الغسيل الكلوى ويأخذ بيدها إلى السيارة حتى تصل إلى البيت، وكلما رآها تتألم من الإعياء والتعب يعيد إلحاحه عليها للسماح له بالتبرع لها بإحدى كليتيه لتعويضها عن معاناتها الشديدة مع جلسات الغسيل الكلوى الشاقة التى أنهكت صحتها، بينما هى تبتسم بحنو وتربت على كتفه قائلة «ربنا يحميك لشبابك يا ابنى ويديم عليك الصحة والعافية وطول العمر، أنا راضية باللى يجيبه ربنا». «أم الشهيد» تقول، وهى تحاول التغلب على ألم المرض والفراق وانتظار القصاص: «أسكن فى حى الجناين بطريق الإسماعيلية على بعد 5 كيلومترات من مدينة السويس، وأستقل سيارة أجرة من أمام مسكنى إلى حى الأربعين، ثم أخرى حتى أصل إلى مستشفى التأمين الصحى بعد إصابتى بالفشل الكلوى منذ 4 سنوات، وأنتظم فى جلسات (الغسيل) 3 مرات أسبوعياً مدة كل منها 4 ساعات متواصلة.. الحزن يسيطر على حياتى والدموع لا تفارق عينى منذ رحيل (مصطفى) فقد كان البسمة الوحيدة فى حياتى، وكنوز الدنيا لن تعوض غيابه، لذلك لم أفرح بالتعويضات التى صرفتها الدولة، حتى الشقة التى منحتها المحافظة لى رفضت الحصول عليها، نحن والحمد لله عايشين عيشة مستورة ومعاش زوجى يكفى احتياجاتنا، وكان نجلى الراحل يترك راتبه معى، ومازلت أحتفظ بآخر راتب تقاضاه من الشركة وهو 1100 جنيه، وكل ما يشغلنى هو القصاص العادل من قتلة ابنى وكل شهداء الثورة، ولن يشفى غليلى سوى الحكم بالإعدام على اللواء حبيب العادلى، وزير الداخلية الأسبق، لأنه الذى أمر الشرطة بإطلاق النار على المتظاهرين، وأشعر بالحزن الشديد بعد قرار محكمة النقض بإعادة محاكمة مبارك، الرئيس السابق و«العادلى» ومساعديه فى قضية قتل الثوار خلال أحداث الثورة، وأخشى أن تبرأهم المحكمة وتضيع دماء الشهداء هدراً وأقول للرئيس محمد مرسى (لو مجبتلناش حقنا من مبارك والعادلى وأعوانه هناخد حقنا بأيدينا)». تضيف: «أشعر باليأس بعد فشل الثورة حتى الآن فى تحقيق شىء.. مازال الظلم والاستبداد والفقر وغياب العدالة الاجتماعية تجثم على قلب الوطن، ولم يستفد من الثورة سوى (مرسى) وجماعة الإخوان المسلمين الذين تربعوا على كرسى الحكم وبسطوا نفوذهم على مؤسسات الدولة، بينما الشباب الذين قاموا بالثورة مازالوا يغرقون فى البطالة وخارج حسابات الحكومة.أسر الشهداء: وحياة دمك يا شهيد ثورة تانى من جديد
ويشير مصطفى محمد مرسى، 62 سنة، ضابط سابق بالقوات المسلحة، والد «محمد»، 22 سنة الطالب بالفرقة الثالثة بأكاديمية المستقبل ـ الذى استشهد يوم الغضب بطلق نارى فى الرأس على يد أفراد الشرطة أمام قسم شرطة المرج ـ إلى أن الثورة جاءت بالأسوأ. ويقول جمال الوردانى، والد الشهيد «مصطفى» الذى استشهد يوم جمعة الغضب برصاصة فى الرأس بمحافظة السويس: «الأدلة الموثقة بالصوت والصورة من خلال السيديهات وشهود العيان تدين كل من أطلق رصاصة تجاه صدور ورؤوس الشهداء فى السويس ولا نتوقع البراءة للقتلة مثلما حدث فى المحافظات الأخرى»، لافتا إلى أن أكبر خطأ حدث بعد الثورة كان عدم تشكيل محكمة ثورية لمحاكمة قتلة الثوار، ولن يأخذ عزاء «مصطفى» قبل القصاص من قتلته ودون القصاص العادل سوف يكون رد فعل أهالى الشهداء قاسيا، لأن دماء أبنائهم غالية ولن يسمحوا بأن تذهب هدرا، وعلى «مرسى» أن يتذكر أنه أتى لكرسى الحكم بدماء الشهداء والقصاص لهم أمانة فى رقبته إلى يوم الدين.