بلال فضل يتحدث عن صديقه «عم جلال»

كتب: ماهر حسن الإثنين 11-02-2013 21:52

علاقة نوعية ومتميزة وحميمة ربطت بين الكاتب الراحل جلال عامر والكاتب بلال فضل وقد طلبنا من بلال أن يكتب لنا شهادة عن هذه العلاقة وتفاصيلها خاصة أن ذلك سيدفع بلال فضل لرصد تفاصيل كثيرة عن جلال شخصا ونصا لا يعرفها كثيرون غير أن بلال اتصل بنا فى اليوم التالى ليطلعنا على مالاقاه من صعوبة فى الكتابة عن إنسان حميم له وصديق مقرب، وفضل بلال أن يدلى بشهادة حية فإن ذلك يساعده على مزيد من التدفق والتذكر ونزلنا على رغبته؟

فقال بلال فضل: لقد كان جلال عامر فى سنينه الأخيرة ضد تسميته بالكاتب الساخر بل كان «بيستعر» من المصطلح وقال أكثر من مرة: «اشتمنى بأمى ولا تصفنى بالكاتب الساخر»، وكان يرى أن الكتابة الساخرة أصبحت مهنة من لامهنة له، وكان له مقالات يسخر فيها من فكرة ابتذال الكتابة الساخرة وكان يفضل أن يصفوه بالكاتب «السريالى» وأذكر أننى كنت ضيفا أنا وهو وعمر طاهر فى برنامج فى قناة الحياة اسمه الساخرون وتحدثنا عن هذا الأمر، وأن الكتابة الساخرة أصبحت ثقيلة الظل وانتشرت بكثرة عما كنا نراه من كتابات وهى كتابات يصف كتابها أنفسهم بالكتاب الساخرين وهذه الكتابة لا تمت للكتابة الساخرة بصلة، لكنه كان فى البداية لا يجد مانعا من وصفه بالكاتب الساخر.

أما عن موقعه بين الكتاب الساخرين فيقول بلال فضل:

أرى أنه متفرد جدا، فكامل الشناوى ومحمد عفيفى وأحمد رجب ومحمود السعدنى، لكل منهم طريقته، وأرى أن جلال عامر أخذ منهم أجمل مافيهم، فأخذ من أحمد رجب قدرته على التكثيف ومن السعدنى الحس الشعبى الذى يوصله للبسطاء ومن محمد عفيفى ذكاء المفارقة مع وضع الأفكار الفلسفية والأجنبية والعلمية فى مقاربات ذكية تعمق المعنى كما كان يوظف ثقافته على نحو أكثر معاصرة وعمقا وهذه الخلطة السحرية مع تجارب الحياة التى عاشها تجعله مختلفا ومتفردا لكنه فى سنواته الأخيرة كان يفضل أن يصف نفسه بالكاتب السريالى وهذا لم يكن بمعزل عن طبيعة حياته، فحياته كانت سريالية الطابع أيضا ومما يؤكد هذا المعنى مجموعة من الوقائع الطريفة التى واجهها فى حياته، فمثلا بعد سنين من إقامته فى بيته القديم، انتقل إلى بيت جديد، والمفترض أن هذا البيت الجديد يعنى أن تحسنا طرأ على حياته الاجتماعية والمالية وحين سألت جلال عن أخبار البيت الجديد الذى انتقل إليه وكنت أداعبه بمنطق أن «العز خلاص ظهر عليه والحظ ابتسم له».. فقال لى يكفى أن أصف لك البيت والعمارة التى أسكن فيها بأن مصعد هذه العمارة موجود به لافتة تقول «ممنوع التبول داخل المصعد» فحياته مليئة بالمواقف العبثية، وهناك قصة شهيرة أخرى وهى أنه حينما حصل على شقة فى عمارات ضباط القوات المسلحة، كان يعتبرها مكافأة نهاية الخدمة وهذه العمارات كانت فى مصطفى كامل وهو حى راق فى الإسكندرية، فقال إن الدنيا أخيرا تبسمت له، لكنهم اكتشفوا أن العمارة التى توجد بها شقته فى منطقة بها آثار سحبوا منه الشقة ومنحوه أخرى فى صحراء مدينة نصر، فلما سأل عن فرصة بديلة قالوا له إنه لا يوجد سواها فقبلها واكتشف أن قبوله هذه الشقة كان نوعا من العبث، فباعها وبعد أن باعها بشهر أعلن النادى الأهلى عن إنشاء النادى الأهلى بمدينة نصر، فصارت الشقة التى فرط فيها يبلغ ثمنها عشرة أضعاف الثمن الذى باعها به، وأيضا حينما كانت زوجته تضع ابنته قالوا البقية فى حياتك فأصابه الهلع ثم عرف أن الناس يعزونه فى وفاة «الداية».

وعن بداية علاقة بلال فضل بعامر وملابساتها وظروفها واللقاء الشخصى الأول لبلال فضل الذى يصف كتاباته بالهجاء السياسى مع جلال عامر الذى يصف نفسه بالكاتب السريالى، يقول بلال فضل:

كنت أعرفه كقارئ أولاً من خلال مقالاته فى جريدة الأهالى، ثم من خلال تجربة عظيمة كان يقوم بها فى جريدة التجمع بالإسكندرية على صفحة كاملة، وتمت استضافتى فى برنامج يقدمه الصحفى محمد صلاح وكان يكلمنى عن الكتابة الساخرة والنموذج الذى أقدمه فى الصحافة المستقلة، فقلت له إن ما أقدمه ليس كتابة ساخرة وإنما هو هجاء سياسى وقلت له إن الممثل الوحيد فى مصر لفن الكتابة الساخرة هو كاتب اسمه جلال عامر وإننى أتابع باهتمام ما يقدمه فى صحيفتى الأهالى والتجمع، ولا تتخيل حجم السعادة والتقدير التى شعر بها جلال لما قلته، ومنذ تلك اللحظة ارتبطنا بصداقة قوية، وكان اللقاء الأول بيننا على مقهى البورصة فى الإسكندرية على أثر مكالمة هاتفية منى له، ويمكننى أن أصف هذا اللقاء الأول بأنه الغرام من أول لحظة، وأذكر أننى تركته يتداعى فى الكلام ولم أقاطعه «يدوب نكشته» وظل يحكى عن تفاصيل خاصة عن حياته.

وعن السمات والصفات الإنسانية التى يتمتع بها جلال عامر، حيث عرفه عن قرب يقول بلال فضل:

على عكس ما يتوقع البعض فإن جلال عامر رجل خجول جدا، وقد تظنه إن لم تلتقه وتخالطه نفورا من الناس، ولا يحب صحبتهم، ولا أعرف كيف أفسر هذا هل هو مزيج من الطبيعة العسكرية والعالم الذى أغلقه على نفسه، فلقد كان أصدقاؤه هم أفراد أسرته وعلى رأسهم زوجته كما كان رجلا حنونا هادئ الطباع رغم كونه لاذعا وقاسيا فى كتاباته، وكان من الناس الذين يدفعونك طوال الوقت لكى تقول له «إنت مش عارف قيمة نفسك» وفى ملامحه الإنسانية الجميلة أذكر له أننى حينما أنجبت ابنتى «عشق» كتب عمودا عنها بعنوان «عشق بلال فصل» فى جريدة التجمع، وأنا أذكر حينما انقطعت عن الكتابة فى صحيفة المصرى اليوم وكنت أكتب فيها معه أذكر أنه كتب يقول «سأنتظرك» لقد كان هذا الرجل يفبض حنانا وطوال الوقت كان يبخس حق نفسه وقيمته ككاتب كبير.

وهو أيضا ابن اليسار المصرى وابن المؤسسة العسكرية المصرية التى تمثل أمننا الوطنى والقومى وصاحبة التاريخ العسكرى المشرف التى خاضت حرب أكتوبر، وفوق هذا فهو ابن الحارة المصرية وابن الإسكندرية الكوزموبوليتانية. «المتعددة الثقافات والحضارات» فضلا عن ثقافته الرفيعة ودراسته القانون والفلسفة.

لكن هل لقى جلال عامر ما يليق به من تقدير ككاتب كبير؟ يقول فى هذا بلال فضل:

«لأ طبعاً، وهل تصدق أننى فى فترة من الفترات اتفقت معه على أن أكون مستشاره المالى أو أقول له كيف يتعاقد مع الصحف، لأنه تعرض لحالات (استكراد) من بعض الصحف وفوجئت بالتقدير المتواضع الذى يضعه لنفسه فقد وضعها قياساً على ما كان عليه من جرائد الأهالى والقاهرة والتجمع فقلت له (اطلب من هذه الصحيفة كذا ومن هذه كذا) فكنت أفاجأ برده حين يسألنى: (وح يوافقوا.. ح يرضوا يدونى المبلغ ده؟)».

فأقول له: ولم لا؟ «إنت مقامك كبير قوى وإن لم يرضوا ارفض».. وبعد تلقيه التقدير اللائق من «المصرى اليوم» لم يتخل عن صحف التزم معها باتفاق رغم أنها تعطيه أقل مما يستحق بكثير.

وأرى أنه تعرض لظلم وتهميش واضطهاد وقلت فى حياته إن اليسار المصرى يتحمل مسؤولية عدم تقديره، كما أن رفعت السعيد لم يحتف به ولم يكرمه، وكان جلال قد كتب حين مرة تجربة جميلة جدا عن الحيوانات فى البديل وأعاد نشرها فى «المصرى اليوم»، وهى عن الحيوانات لكن بشكل سياسى وقد التقط الأستاذ طارق الشناوى عضو مجلس إدارة «المصرى اليوم» هذا الخيط وعرض عليه كتابة عمل تليفزيونى منطلقاً من هذه التجربة وكانت تجمعهما صداقة جميلة.

وقال بلال: «إن فترة البزوغ القوى لجلال عامر والتقدير الحقيقى لقيمته ونجوميته الواسعة قد حظى بها فى (المصرى اليوم) ولكنها جاءت متأخرة».

إذن فلقد كانت هناك تجارب ومشاريع كتابة للدراما لم يكن قارئ جلال عامر يعرفها وهذا ما يقول عنه بلال فضل:

«نعم كان هناك مشروع أعمال درامية وإذاعية وقمنا بأكثر من محاولة ثم انشغلت عنها بسبب مشاغل كثيرة، وكنا بصدد إنجاز شخصيات (باتعة والضانى) وكان هناك مشروع مشترك بالتعاون مع الأستاذ طارق الشناوى، عضو مجلس إدارة (المصرى اليوم) ثم بدأنا مع أسامة الشيخ وهو مشروع تم إنجاز عدد كبير من الحلقات فيه تقريبا عشرين حلقة كتبها جلال بنفسه».

وعن آخر لقاء جمع بين جلال عامر وبلال فضل فقد جاء فى ظروف استثنائية وحرجة من تاريخ مصر، وعن هذا اللقاء الأخير بل وعن آخر رسالة هاتفية وصلته من جلال عامر يقول بلال:

«كان هذا اللقاء من المواقف التى لن أنساها حينما حضرنا معا أول لقاء أعضاء المجلس العسكرى مع كتاب الأعمدة، وكان هذا بعد أسبوعين من تنحى مبارك وكنت قد توقفت عن الكتابة المنتظمة وتصورت أن مصر صارت جنة بعد التنحى، وكان جلال يسخر منى فى هذا التصور وكنت أقول له أنت متشائم فكان يرد على قائلا: (بكرة تشوف) وحين ذهبنا سوياً لهذا اللقاء وجدنا فيه كل رموز عهد مبارك، ووقعت خناقة بين الأستاذ فهمى هويدى وبعض أعضاء المجلس حين استفزه حضور رموز عهد مبارك، وفى ذلك اليوم غضب جلال عامر وصفق الباب وانصرف لأن الذى كان يلقى الكلمة ويدير اللقاء تقريباً هو الدكتور طه عبدالعليم ولأنه رفض منح الفرصة للآخرين وجد جلال أن الحوار شكلى وغير مثمر فانصرف لكن الحوار استمر بعد انصرافه لنحو 3 ساعات، وكانت هناك أشياء إيجابية وأشياء سلبية، ولأنه خرج منفعلا أردت الاطمئنان عليه وكان قد وصل إلى الإسكندرية وقلت له إننى متفائل وأنهم سيستجيبون لإرادة الشعب وسيحاكمون مبارك، لكنه خالفنى الرأى وأذكر أن آخر رسالة هاتفيه وصلتنى منه كانت عبارة عن ثلاث كلمات فقط هى (مش قلت لك)، كان جلال عامر يتمتع بنزعة استشرافية وتقريبا ما توقعه وما كتب عنه قد حدث باستثناء توقع واحد لم يتحقق وهو أن عمرو موسى سيأتى رئيساً».