جلال عامر.. الساخر الحق

كتب: إسلام حامد الإثنين 11-02-2013 21:47

فى يوم شتوى من عام 2011، كنت فى طريقى إلى عملى فى جريدة «المصرى اليوم»، سرت على رصيف شارع المبتديان، وعندما وصلت عند المدرسة التى تقع قبل مقر الجريدة بمبنيين، فوجئت بشخص يرتدى بدلة كاملة، دون رابطة عنق، منحنيا وبيده جريدة مطوية يسندها على حرف سور المدرسة، لم أتبين الشخص لأنه كان يعطينى ظهره، لكننى كنت حريصاً على معرفة شخصيته وما يفعله، وعندما اقتربت منه، وقفت وأنا مذهول، فقد كان «عم جلال عامر» يكتب مقالة على الحرف الأبيض من الجريدة، كان القلم لا يقف، بل يتحرك كأنه ينفذ أوامر بلا تفكير، قلم يتضح من انسيابه أن صاحبه يهضم بلداً كاملاً، يعرف حواريه، وفقراءه، وأرامله، ونخبته، وأمنه وانفلاته. قلت له: «إنت بتكتب فى الشارع يا عم جلال، تعالى فوق اكتب براحتك»، فرد: «لا أنا قربت أخلص»، فسألته: «إنت بتكتب مقالاتك كده على طول يا عم جلال؟»، فرد دون أن يرفع عينه عن الجريدة أو حتى يقف قلمه عن الكتابة: «يا ابنى أنا ما بكتبش حاجه، كل حاجه مكتوبة جوايا».

فتح «جلال عامر» فى قلوبنا طريقا للحياة، أزاح تراكمات القهر، والظلم، والخوف، ووضعها على جانبى سكة الروح، ليمهد لنا «ممشى» وطنياً نتنزه فيه، كأننا لا ينقصنا شىء، نجلس على رصيفيه نأكل ونحكى ونضحك وندمع فى المسافة بين بداية جملة ونهايتها، فى العلاقة بين عينية وصورة الوطن، فى نسيج يغزله بخيوط «بطل حرب» وصحفى وشاعر ورجل قانون وفيلسوف، فيخرج «أبيض ما فيه سوء».

نفخ جلال عامر فى العمود الصحفى من روحه، فأنزله من «برج الأكابر» إلى عشة المطحونين، لتصبح كلماته «الحديثة» أقوالا «مأثورة» و«أمثلة» لا تختلف عن التراث، فجعل الشوارع والميادين والحوارى والقصور والحكام والمحكومين فى مرمى بصر الناس، ومرمى غضب الثوار، ومرمى أوجاع مصر.

عام يمر على رحيل «الساخر الحق» الذى وصف نفسه بأنه «عابر سبيل»، وهو لم يعلم أنه عبر بنا إلى قلب مصر، وعدَّ دقاته وأنفاسه، واختزلها فى كلمات تطبطب على قلوبنا كل يوم وتطمئننا على مستقبلنا.

عام يمر على رحيل الرجل الذى رفع علم مصر على أرض سيناء، وصاحب الموت فى حرب أكتوبر، وتوقف قلبه عندما سمع أن «المصريين بيموتوا بعض»، فسلام عليه.