جمال القصاص: المظاهرات رددت: «يا حاكمنا في عابدين.. فين الحق وفين الدين؟»

كتب: اخبار الأربعاء 16-01-2013 22:21

الزمان 18 يناير عام 1977، ساعات من الروغان واللف والدوران فى الأزقة والشوارع الجانبية، كان علىّ أن أسلكها على قدمى من حى السيدة زينب حيث أقطن آنذاك إلى حى الزيتون من أجل زيارة ملحة لأحد أقاربى، وتفادياً للاصطدام بمصفحات الجيش وآلياته التى سدت الميادين ومنافذ الشوارع الرئيسة، بعدما أعلنت حالة الطوارئ فى البلاد، ونزل الجيش لمواجهة انتفاضة الغضب العارمة.. انتفاضة الشعب البسيط الفقير التى طالت حرائقها استراحات الرئاسة ومؤسسات الدولة من الإسكندرية إلى أسوان، احتجاجا على تردى الأوضاع الاقتصادية فى زمن الانفتاح، وارتفاع أسعار السلع الأساسية كالخبز والسكر والشاى والأرز والزيت والبنزين.

كان المشهد مروعا والشوارع تغلى بمظاهرات حاشدة تهتف ضد الجوع والفقر وبسقوط الحكومة والنظام، رافعة شعارات مازلت أذكر منها: «يا حاكمنا فى عابدين فين الحق وفين الدين؟» و«سيد مرعى يا سيد بيه كيلو اللحمة بقى بجنيه» و«هو بيلبس آخر موضة واحنا بنسكن عشرة ف أوضة».

لقد شُلت الحياة فى مصر، واهتزت أركان الدولة آنذاك، وأصبح الحكم على قارعة الطريق، ينتظر هبة من تنظيم أو فصيل سياسى يمتلك القدرة على المغامرة والتضحية. لكن مع تواتر الأنباء عن سقوط قتلى وجرحى بالمئات، وتصاعد أعمال العنف والنهب والحرق بدا المشهد وكأننا أمام «ثورة جياع».. حينئذ اختلطت فى داخلى مشاعر الخوف بالغضب، وبدأت أعتصم بصرخة من الشعر كتبتها قبل بضعة أشهر فى إحدى قصائدى، وبإيقاعات متفاوتة انزلقت على شفتى «للموت طعم وحيد وللجوع مليون طعم».

على حجر بحارة جانبية بحى العباسية حاولت أن ألتقط أنفاسى، وأريح قدمى المجهدتين، لكن سرعان ما حاصرتنى أعمدة الدخان المسيل للدموع تطلقها بكثافة قوات الجيش، فانصرفت مسرعا لا أعرف إلى أين أمضى، ومن حارة إلى زقاق ظللت ألف وأدور، لا أدرى كيف وصلت إلى أول شارع مصر والسودان، عبرت النفق من أعلى، عبر شريط المترو من ناحية الدمرداش، كان صبية صغار يقذفون بالحجارة بعض عربات المترو الواقفة بمحطة الدمرداش، اقتربت منهم وتأملت ملامحهم، لم أستطع أن أمعن النظر فى طفولة مغدورة وأحلام مشوشة ومجهدة، ترتسم فى زفراتهم وهم يقذفون الحجارة ويرددون «دى بلادنا يا حرامية يا ولاد الكلب.. عايزين نعيش».

على بعد خطوات من مشهد الصبية الغاضبين، وفى منطقة دير الملاك، كان ثمة مشهد آخر، يحمل فى معناه مفارقة الوجود والعدم معا، مشهد لا يزال محفورا فى ذاكرتى وحياً حتى الآن.. الشارع شبه خال، ثمة تروسيكل يعبر محملاً بكمية من اللحوم، فجأة تنهال عليه الحجارة من كل حدب وصوب.. يتوقف سائق التروسيكل الشاب، وبصعوبة يفر هاربا ناجيا بنفسه تاركا الجمل بما حمل، وفى ثوان امتدت مئات الأيادى، صبية ورجالاً ونساء وبنات وشيوخاً، لا تعرف من أين أتوا، وتحول الشارع إلى قوس من النصر، وارتفعت الحناجر بالهتافات والشعارات ضد الظلم والقهر والجوع، كلٌّ فرحٌ بغنيمته من مصادقة اللحم، الذى ربما لم يذوقوه على مدار أيام أو شهور، وأصبح شيئا نادراً فى زمن لم تعد تشرق فيه الشمس إلا من ورق العملة الردىء.

الآن، ورغم تغير عقارب الساعة مشيرة إلى أن الزمان هو: 18 يناير 2012، وبعد ثورة غضب أسقطت نظاما مستبدا، ثورة لعبت فيها المصادفة الشعبية دورا حاسما، وتحت أقنعة زائفة استولت عليها جماعة دينية وحولتها إلى إقطاعية خاصة، أدخلت بها البلاد فى نفق معتم، تفاقمت فى حلكته الأزمات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية.. أتصور أن مشهد «انتفاضة الخبز» فى زمن السادات مرشح بقوة لأن يعيد نسج نفسه، مع تغير فى الشكل والجوهر، حيث ستحل فى أجندة الثورة «ثورة الجياع»، بدلا من «انتفاضة الخبز».