منذ طفولة شحاتة هارون الذي ولد في يناير 1920 انفتح على الديانات الثلاث، حتى إنه يقول عن نفسه إن «الديانات الثلاث قد أثرت بشكل أو بآخر في تكوين فكري»، فقد أرسله والده إلى مدرسة «الفرير الكاثوليكية»، ولما وجدوه لا يعرف أصول ديانته اليهودية جيدًا أحضروا له حاخامًا لتعليمه أصول دينه، ثم أحضروا له شيخًا أزهريًا ليعلمه قواعد النحو والصرف، حين لاحظوا ضعفه في اللغة العربية.
درس شحاتة هارون في كلية الحقوق في جامعة فؤاد الأول، وبها توثقت علاقته باليسار المصري، وبعد قيام إسرائيل وتوتر العلاقة بين النظام واليهود في مصر، أسس «هارون» مع رفاقه في اليسار المصري في أبريل 1947 «الرابطة الإسرائيلية للكفاح ضد الصهيونية»، في محاولة لتأكيد مصرية يهود مصر ورفضهم للكيان الإسرائيلي باعتباره «كيانًا عنصريًا خرافيًا، ضد التاريخ وضد قوانين الطبيعة»، على حد قول شحاتة هارون.
كان لدى شحاتة هارون ثلاث بنات، نادية وماجدة وأختهن الكبرى منى، التي ماتت وهي صغيرة، ويقال إن «شحاتة» كان يمزق كل الصور الخاصة بها، لأنه لم يكن يريد أن يتذكر أبدًا ما حدث، فقد أصيبت منى في الخمسينيات بمرض في الدم، وكان علاجها يتطلب السفر إلى باريس، تقدم هارون لطلب التأشيرة إلا أن السلطات المعنية أعلمته أنه إذا قرر السفر فسيأخذ تأشيرة مغادرة نهائية من مصر، ولن يعود إليها أبدًا، وهنا كان القرار الصعب، مصر أو ابنته، إلا أن شحاتة هارون حسم الأمر واختار مصر.
موقف شحاتة هارون الرافض للصهيونية والهجرة للكيان الصهيوني لم تقابله السلطة في مصر بالاحترام والتقدير الذي يستحقه، فتعرض مكتبه لفرض الحراسة من الدولة عام 1956، واعتقل عدة مرات عامي 1967 و1975، بسبب «الشك في ولائه لمصر».
واعتقل أيضًا عام 1977 في انتفاضة الخبز، وفي 1979 بسبب معارضته لمعاهدة السلام المصرية الإسرائيلية، وكان أحد المطلوبين في حملة اعتقالات سبتمبر 1981 وفق قرارات التحفظ على القوى الوطنية في مصر.
وتنوعت الاتهامات التي تم توجيهها إليه، فمن اتهام موسى صبري له بأنه «يهودي يساري ينظم المظاهرات ويقذف بالحجارة»، إلى اتهامه بأنه «مجرد جاسوس يعمل لحساب إسرائيل أصر أن يظل في مصر لإكمال نشاطه المُعادي».
نكسة 67 كانت عند شحاتة هارون «نكستين»، الأولى نكسة احتلال جزء غالٍ من أرضه، والثانية نكسة نظام قابل طلبًا للتطوع للدفاع عن مصر بقرار باعتقال لصاحب الطلب وتخوينه، فبعد النكسة فتحت نقابة المحامين المصرية باب التطوع لمساندة القوات المسلحة، فكتب «هارون» إلى النقيب أحمد الخواجة: «عزيزي أحمد، تحية كفاح أبعثها إليك مع استمارة التطوع.. تاركًا لك اختيار المكان الذي أستطيع فيه أن أؤدي حقي وواجبي في المعركة، إذ أعتبر مجلس النقابة قيادة لي»، إلا أن النظام آنذاك رأى أن مكان شحاتة هارون في المعركة هو السجن.
بعد توقيع مصر لمعاهدة السلام مع إسرائيل، رفضها شحاتة هارون واصفًا إياها بأنها «اتفاقية سلام أمريكية بشروط الصهيونية الحاكمة في إسرائيل»، وأنها «أغفلت المطالب العادلة لمصر وسوريا في زوال الاحتلال من أراضيهما»، وحينما زار ييجال بادين، نائب رئيس الوزراء الإسرائيلي، القاهرة عام 1979 ذهب للصلاة في المعبد اليهودي بالقاهرة، فدخل شحاتة بعد تعرضه لتفتيش دقيق، وقال له رأيه في معاهدة السلام: «إنني كمصري أرى أن المعاهدة مهينة لكرامة شعب مصر»، فما كان من قوات الأمن المصرية والإسرائيلية إلا أن حاصرته وأخرجته من المعبد، وكانت النتيجة اقتحام زوار الفجر لمنزله في فجر 16 أغسطس 1979.
كان شحاتة هارون مؤمنًا بمصر وطنًا له وحقًا له وواجبًا عليه، كان يرفض مغادرتها مهما كان الثمن، كان يردد دائمًا «لن أترك مصر حتى لو قطعوا رقبتي، إنها وطني وحقي وواجبي، وأنا رجل محام لا يفرط في حقه ولا يتهرب من واجبه، ثم إنني لم أشعر في أي وقت من الأوقات بأن شعبها قد لفظني، وعندما قبض علي وجدت عشرات من المواطنين معي في السجن، ووجدتهم من مختلف الأديان والمعتقدات، ولم أشعر بأنني عوملت معاملة تختلف عنهم».
وبنفس لغته الرومانسية التي كان يتحدث بها عن مصر، خاطب الشاعر الفلسطيني محمود درويش عندما قرر الخروج من حيفا، مناشدًا إياه العودة إليها والبقاء فيها، فكتب له قائًلا: «تحية من القاهرة، صخرتي التي لن أبيعها باللآلئ، حبيبتي التي لن أهجرها، أنت وأنا الأمل، لو عدت أنت لحيفا، وصمدت أنا في القاهرة».
وكما كانت حياته مثيرة للجدل والشجون كانت وفاته، ففي مارس 2001 وافته المنية، إلا أن شحاتة هارون أبى أن يمر موته دون رسالة كتلك التي ناضل من أجلها طوال حياته، فلم يحضر أحد من السفارة الإسرائيلية جنازته، بل لم تُحضر أسرته حاخامًا إسرائيليًا للصلاة عليه، واضطرت لحفظ جثته لمدة خمسة أيام لحين استقدام حاخام من فرنسا للصلاة عليه، وهكذا رفض شحاتة هارون إسرائيل في مماته كما في حياته.
وعن ذلك تقول ماجدة هارون: «أنا التي فكرت في هذا الأمر، وقلت لا أستطيع أن أُحضر حاخامًا من إسرائيل احتراماً لأفكار والدي. شحاتة كان مصريًا، ولكنْ يهودي، وكان لابد أن تتم الصلاة عليه وفقاً للديانة اليهودية، حالياً من يموت يأتي حاخام من السفارة الإسرائيلية ليصلي عليه، ولكنني لم أستطع أن أفعل ذلك لوالدي، لأن ذلك كان إهانة له، فتحدثت مع ابن عمتي في فرنسا، وطلبت منه في أيام والدي الأخيرة أن يبحث عن حاخام فرنسي يوافق أن يأتي مصر بعد وفاة والدي للصلاة عليه، وقبل وفاة والدتي أتت عمتي في زيارة لمصر، وتوفيت فيها، فاتفق ابن عمتي مع نفس الحاخام الذي صلى عليها».
وكان النعي الذي نشرته أسرته في الصحف، كلمة له ذكرها في كتابه «يهودي في القاهرة: «لكل إنسان أكثر من هوية، وأنا إنسان مصري حين يضطهد المصريون.. أسود حين يضطهد السود.. يهودي حين يضطهد اليهود.. فلسطيني حين يضطهد الفلسطينيون».
وللنعي أيضاً قصة كفاح، كما هو كل شيء في حياة هارون، تحكيها ابنتها ماجدة «ظللت ثلاثة أيام لا أعرف ماذا أكتب في النعي، حتى أخذت جمله من كتابه، إلا أن والدتي أضافت جملة: فلسطيني حين يضطهد الفلسطينيين. ذهبت للأهرام لأسلمهم النعي، و دفعت المطلوب، بعدها علمت أنهم يرفضون نشره، وعندما سألتهم عن سبب الرفض، سألوني عن سبب الجملة المكتوبة في النعي، فقلت لهم لأنني بصراحة لا أعرف ماذا نكتب، المسلمون يكتبون توفي إلى رحمة الله تعالى، والمسيحيون يكتبون انتقل إلى الأمجاد السماوية، أنا لا أعرف ماذا أكتب، فكتبت هذه الجملة التي تلخص حياة شحاتة هارون، بعدها كتب صحفي في جريدة (لوموند) الفرنسية أن النعي تم منعه من النشر، فنشرته الأهرام بعد ذلك».