منذ الثالث من أغسطس، لا أعرف ما إذا كنت أعيش حلماً، أم أنها كانت حقيقة! على شاشة التليفزيون المصرى يمثل رئيس مصر السابق (محمد حسنى مبارك) ونجلاه علاء وجمال، ووزير داخليته ومساعدوه فى القفص الحديدى، فى إحدى قاعات أكاديمية الشرطة التى كانت تحمل اسم مبارك تيمناً به وتكريماً له!! وهو المكان نفسه الذى اجتمعوا فيه منذ أشهر ليحتفلوا بعيد الشرطة، وهى آخر احتفالية رسمية كبيرة يحضرها مبارك قبل خلعه من منصبه أو تنحيه أو تركه المنصب بأى طريقة كانت. الآن يمكننا فعلاً أن نقول إن مصر تفتح صفحة جديدة بيضاء ومشرقة تقوم على العدالة وليس سواها، ولنا أن نفخر بأننا أول شعب عربى يحاكم رئيسه على ما ارتكبه بحق الشعب والوطن، ولأن الأمر برمته الآن بيد القضاء فسيكون من الإجحاف الخوض فى الحديث عن التهم الموجهة للرجل والحكم عليها من قبلنا، فنحن بذلك نصادر حق القاضى فى الحكم وحق المتهم فى تبرئة نفسه!!
لكن دعنا نتحدث عن قضاء عادل ونزيه ينظر فى القضايا بعد سنوات طويلة، كان يتم فيها الضغط على القضاة وإهانتهم، بل وتجاوز الأمر إلى تطويع القوانين، كى تخدم مصالح حفنة من المستفيدين بالسلطة، دعنا ننظر إلى عدالة وفرتها الثورة لهم، وهم الآن فى أشد الحاجة إليها، وتناسوا أنهم غيبوها- أى تلك العدالة- لسنوات طويلة مضت، بعضهم الآن ينشد الرحمة.. والشعب ينشد العدالة، ويحسبهم أنهم الآن أمام محاكم مدنية وليست عسكرية أو ثورية خاصة، وأنهم يحاكمون وهم متمتعون بجميع حقوقهم، دون أى شماتة أو رغبة فى الانتقام غير العادل منهم، وهذه المحاكمات لن تزيد فقط من رصيد مصر فى تحقيق الديمقراطية والعدالة والارتقاء بحقوق الإنسان والمحافظة عليها، بل سيكون لها دور كبير فى استعادة الأموال المهربة فى الخارج، ودور أكبر فى كتب التاريخ التى ستروى حكاية ثورة الشعب المصرى التى أسقطت النظام القمعى الفاسد والبوليسى بسلميتها، وألهمت العالم أجمع.
اللهم لا شماتة.. ونحن نرى الرئيس الذى ظل ثلاثين عاماً فى سدة حكم البلاد يقف الآن داخل قفص حديدى، اللهم لا شماتة.. ونحن نراه على سريره راقداً تبدو عليه علامات المرض والوهن وتقدم العمر، وفى انتظار محاكمته، حاولت كثيراً أن ألتمس له عذراً فوجدت أن الدماء التى خضبت الطرقات فى أحداث الثورة تمنعنى.. حاولت أن استشعر الرحمة له فوجدت أمامى سنوات طويلة من عمر الوطن سرقها هو وعائلته وحاشيته دون أدنى مسؤولية أو اعتبار لشعبه الكادح.. أليست ثلاثون عاماً كانت كافية لنقل مصر نقلة نوعية تجعلها فى ركب الدول المتقدمة، أو على الأقل أفضل حالاً مما عليه الآن؟! لكن حتى إن ارتضينا له الرحمة.. فليست الرحمة سوى نصف العدالة!