الذاكرة القوية ليست نعمة مطلقة.. بل هى أحيانا تصبح مبعثاً للألم، وزاداً لا ينتهى من الندم! أتذكر عندما كنت أشاهد مسلسل «ناصر»، الذى تم بثه على أكثر من قناة فضائية، وأستمع إلى المقدمة الغنائية وهى تقول: «مكانك فى القلوب يا جمال ولا كل من ركب الحصان خيال!! «من سوء حظى أننى أحفظ هذه الفترة كما أحفظ فاتحة الكتاب! أعرف مقدماتها، ونتائجها، وزواياها، ومنحنياتها، وعيوبها، ومزاياها، ونجاحاتها، وإخفاقاتها! كل ذلك أعرفه وأحفظه، ولا أستطيع نسيانه، فهو ماض يطاردنى فى كل حين».. لقد كان الصباح، كل صباح فى خمسينيات القرن الماضى يحمل نجاحاً أو انتصاراً أو تغييراً أو توفيقا.. كنت أقفز فى الهواء فرحاً بقوانين الإصلاح الزراعى، والتمصير، والجلاء، وتأميم القناة.. وعشت كما عاش المواطنون جميعا أحداث العدوان الثلاثى على مصر عام 1956، والذى شنته دول إنجلترا وفرنسا وإسرائيل..
إلا أن هناك سؤالاً يلح علىّ وينغص حياتى، وهو: لماذا ضاعت الفترة من مارس 1957، وهى نهاية انسحاب القوات الغازية، وحتى يونيو 1967؟! وكم كانت هذه الفترة ذهبية نادرة.. فمصر خرجت من العدوان الثلاثى دولة كبيرة منتصرة يحترمها العالم كله، وتتجه إليها الأنظار من كل حدب وصوب!.. ومازلت أذكر تلك الصورة المعلقة بالمصالح الحكومية خلال الستينيات، حيث يظهر الزعيم عبدالناصر بهامته العظيمة وهو يصافح السفير البريطانى، الذى ينحنى أمامه كما لو كان يركع، وكأن الإمبراطورية البريطانية تركع أمام مصر!!
أعود إلى السؤال: ماذا لو أن عبدالناصر أغلق على مصر، وتفرغ لها، ووضع أمامه هدفاً واحداً، وهو أن يجعل من مصر دولة قوية زراعياً وصناعياً، ويسعى إلى امتلاك السلاح النووى؟! هل كان عبدالناصر بزعامته التاريخية أقل من نهرو أو ماوتسى تونج أو حتى مهاتير محمد؟! لقد كانت الظروف مهيأة تماماً، حيث مصر دولة مستقلة، والمصريون يسيرون جميعاً خلف زعيم مصرى مخلص جذاب.. إننى أحيانا أبكى ندما على تلك الفترة الذهبية، التى ضاعت فى خلافات وانقسامات ووحدة وانفصال وحروب، لا ناقة لنا فيها ولا جمل!! عشر سنوات ذهبية أتحسر عليها ولن أنساها أبداً.. وفى خلال هذه السنوات العشر، استطاعت إسرائيل أن تبنى جيشاً قوياً وطيراناً قادراً وقوة نووية رادعة.. فكانت النكسة!!
مدير عام سابق - الإسكندرية