كانت القاعة أنيقة فسيحة، وكانت كاميرات التليفزيون كثيرة، فقادها نظرها إلى حيث بقعة الضوء.. لمحتها من بعيد والجمع يتحلقها.. انتبهت من دهشة المفاجأة وتسرب منها تساؤلها فقالت: هل تكون هى؟!
وهى تسير باتجاهها تداعت إلى مخيلتها ذكريات سنوات طويلة مضت، كانت باشة، لكن مع خطواتها كانت قسماتها تتغير تعبيراتها كلما طوت خطوات من القاعة واقتربت منها، فاضطربت لما لمحت ما تركه الزمن من آثاره على وجهها المزدحم بمساحيقه التى حاولت بها محو نتوءاته وأخاديده، فأخفقت ودلت على نفسها فقط! وفى تلك اللحظة ركبها شك أن تكون قد أخطأت فلا تكون هى!
بالقرب منها توقفت، ولما رأتها وجدت أنها بإزاء سيدة نالت من الزمن خبراته بقدر ما أخذ من شبابها، الذى تحاول استنساخ مظاهره، فقالت لنفسها متشككة: قد تكون هى!
نظرت إليها بكل تركيزها والإضاءة تنير نتوءات وجهها فرصدت علامات الزمن الذى حاول الهروب من أدلته، وتعجبت من الوجه الذى كان يسابق نسيم الصباح بإقباله وانطلاقه.. فتذكرت طابور الصباح والساندويتشات التى كانتا تتقاسمانها، وتداعت فى الوقت نفسه «كليبات» عديدة للأستاذ «رمضان» مدرس اللغة العربية وكيف رأيتاه نسخة باهتة للأستاذ «حمام» فى فيلم «غزل البنات» الذى مثله «نجيب الريحانى»، لكنها ابتسمت وزادت بهجتها لما تذكرت ذلك الفتى الوسيم الذى كان يرصدهما فى ذهابهما ورواحهما، فصار طقسه جزءاً من تفاصيل يومهما البسيط، فاتفقتا على تشجيعه حتى تتعرفا عليه، وتعرفان منه من هى المقصودة منهما؟ لكنه اختفى من المدينة كلها قبل أن تتعرفا على اسمه، ولا إلى أى مكان غادر!
تذكرت مس سهير، التى درست لهما المواد الاجتماعية ولما انتقلا إلى المرحلة الإعدادية، وجدتاها قد سبقتهما لتدرس لهما اللغة الإنجليزية بلسان يغاير لكنات كل المتحدثين بها، لكنها ارتبكت لبرهة وشعرت بالخجل القديم لما تذكرت مدرس الفلسفة وكيف تآمرتا عليه حتى أوقعتاه فى حبائلهما فاستجاب لهما، ولم يكن يدرى أنه وقع ضحية لفتاتين تتفجر على جسديهما الغض كل مظاهر الأنوثة، وأنهما تحكيان لبعضهما ما يصدر منه تجاه احداهما، فلم تدريان هل هو الذى طلب النقل من المدرسة، أم أن الإدارة التعليمية هى التى تولت الأمر لما لاكت سيرته المدرسة كلها؟!
عندما انطفأت الكاميرات انطفأ معها نور الوجه وذهبت لمعة الشعر الأشقر الذى لم تره عليها من قبل، فبدا وجهها شاحباً مرهقاً وهو الذى كان يشع نوراً منذ لحظات، فتمنت لو أتيح لها أن تنظر فى مرآة وقتها لترصد وجهها وتعقد مقارنة بينه وبين ذلك الوجه، فمضت تتقدم مرتبكة باتجاهها.
كانت لاتزال تقف فى مكانها وإن أطرقت برأسها وذهبت فى تفكير مرتبك، تقدمت منها أكثر حتى صار وجهها فى وجهها ونادتها باسمها فانتبهت لها!
لما رفعت رأسها لمحت فيها مثل الذى لمحته هى فيها من قبل، لكنها ضحكت ملء فمها وتهللت أساريرها وهى تحتضنها ثم تعود تدفعها وتعود تحضنها وتقبلها ثم أفاقت على شخص يقف بجانبها له ملامح ذلك الفتى الذى كان ينتظرهما، كان رجلاً وسيما فى كامل أناقته، تعجبت كيف لم تره قبل تلك اللحظة، قالت له: نجوى صديقتى، ثم التفتت لها وهى تقول: طارق زوجى!، مد يده فلامست يدها فسافرت معه إلى ذلك الزمن البعيد، حيث كان ينتظرهما، تمنت لو أطال احتضان يده ليدها، لكنه سحبها فأفاقت!
كانت لاتزال تجلس وبجوارها صديقتها فى الفصل ذاته، بينما الأستاذ رمضان بهيئته السينمائية العتيقة واقفاً بإزاء السبورة وقد أوشك على إتمام كتابة عناصر درس اللغة العربية!!!!!!