كلنا عيال

الأربعاء 22-12-2010 17:06


صراخها يهدِّد كل كِيان الصمت فى العتمة، يجبر نقيق ضفادع الخفاء على التنازل عن عرش الصخب، فبات صراخها حياة، ونقيق غيرها لرتابته سكونًا، وتَقَهْقَرَ الضوء المستدير أمام التحام أثواب السماء، فتساقطت حبّات من ثلج آلت مياهًا رأفةً بقطعة من لحم أحمر تشكّلت بين ذراعيها مسخًا من بشر، فكانت ليلة صاخبةً ساكنة تسيل من سقفها الدموع.


ما زالت تصرخ وتحت قدميها قطعة لحم أكبر حجمًا تتحرك على أربع حتى حين...


سجنت عيونى وراء قضبان نافذة صغيرة مُحكَمة الغلق فى غرفتى، أختطف النظرات، أخشى أن تدركها عيون أخرى، أُنْهِى ليلتى باتخاذى قرارًا بالنوم مستضيفًا ثلاثتهم فى سباتى، فاجأتنى بازدياد صراخها صخبًا فأعاقت مسار هروبى، أدركت أنها رفضت الاستضافة.


أمى تمنعنى أن أتوقف عندها، أو حتى أن أنظر إليها، تتّهمها أنها تخلّت عن عفّتها حتى تَخَلّى عنها عقلها، دائما تردد:


«حرام اللحم اللى رامياه فى الطل ده، ذنبهم إيه؟!».


لم أفهم كثيرًا من أقوال أمى، لكننى أستوعب أنها تحتقر تلك التى بِلا بيت أسفل بيتنا.


عدت أتلصص بالنظرات على الصغيرين، كانا عاريين فى برد ليل الشتاء، ارتعشت أطرافى حين أبصرتهم يستترون وراء جدران الهواء، أردت أن أقذف إليهم من نافذتى بكل أغطيتى، بكل سريرى، بكل حجرتى...


كنت أخشى عقاب أمى التى تنبهت إلى أن صراخها يحجب عن أذنى صراخ الصخب، يأمرنى أن أبتعد عن النافذة وأحتضن فراشى.


ثانيةً لا أقوى على استضافة أىٍّ من ثلاثتهم فى منامى، حاربتُ فراشى ولجأت إلى مخبئى حين تشتدّ بى غارات الخوف.


أسرعت لأرتمى بين ذراعىّ جَدّتى، أحضانها كانت ترجمتى الشخصية لكلمة جنّة، كان انغماسى فى مملكتها باعتيادية تكفى لدفعها ألا تنتبه لمقدمى، أرغب أن أقصّ عليها قصّة خوفى وأغطيتى والعُراة، لكنى آثرت أن أسألها سؤالاً حاصرنى لحظتها وإن كان معناه يسكن داخلى منذ كثير:


«تيته، هوّه إحنا ليه اتولدنا؟».


انتبهت جَدّتى لتوّها أنى أحتلّ حِجْرها، بدأت إجابتها بضحكة أحبُّها، فأردت أن أقبّلها، لكنى فضّلت الحصول على الردّ أولاً، أجابتنى هامسةً بطريقة لا تستخدمها مع الكبار:


«يا حبيب تيته، إحنا كنا كلنا ملايكة عند ربنا، وقبل ما نتولد ربنا خيّرنا نبقى ملايكة فى السما ولاّ بنى آدمين على الأرض، فاخترنا نبقى بنى آدمين، فاتولدنا».


واختتمت حديثها بضحكتها الملائكية النقيّة.


وجدتنى لا أشعر برغبة فى تقبيلها، اصطنعت من عناق ساقَيها سريرًا وأعدت صياغة قرار النوم، متضمنًا استضافة شخص جديد بديل عن ثلاثتهم، أستضيف تخيُّلى لنفسى على هيئتى الملائكية، رأيتنى جميلاً فأيقنت خطأ اختيارى بأن أُولَد.


لحظات وانهار سريرى بانتفاض جَدّتى ناحية الشرفة فتبعتها. أمى كانت هناك ترقب صراخ المرأة بالخارج، صراخها تحوَّل إلى ضحكات أكثر صخبًا من الصراخ.


جَمْع من الناس يلتفّون حولها يحاولون إفلات الرضيع من بين يديها، بينما آخرون يحملون الآخر وقد استسلم لحصار الفناء.


أخفيت عيونى داخل حجرتى، فبكيت حين أبصرت أغطيتى، تنبهت أنى لم أبكِ قبل الآن لأجل غيرى.


نظرت فى عين أمى، لم تبكِ، فكرهت عينيها، وتوجهت ناحية جَدّتى صارخًا فيها:


«يا تيته، أنا عيل، وعايز أرجع فى كلامى».