عانت مدينة «تاورغاء»، الواقعة بين مدينتى سرت، مسقط رأس الرئيس الليبى السابق معمر القذافى، ومصراتة، البالغ عدد سكانها 42 ألف نسمة، من ويلات التهجير القسرى، ومحاصرة ثوار مصراتة لها، عقب اندلاع ثورة 17 فبراير، بعد أن حولتها كتائب مصراتة إلى مدينة للأشباح، جراء قصف الراجمات ومضادات طائرات قوات الناتو وثوار مصراتة.
لم يفرق الثوار فى هجومهم على «تاورغاء»، بين المواطنين الآمنين، والكتائب الموالية لـ«القذافى»، وأرغمت كتائب القذافى رجال تاورغاء على مساندتهم بعد إغرائهم بالسلاح والأموال، وبعد استعادة مصراتة قوتها نهاية إبريل 2011، شنت هجومها على «تاورغاء»، انتقاماً من جيش القذافى، بمشاركة بعض أهل «تاورغاء».
واستندت «مصراتة»، التى تبعد 215 كيلو متراً شرقى طرابلس، فى هجومها على «تاورغاء»، لما تحتفظ به من تسجيلات فيديو لمقاتلين من أنصار القذافى، الذين تم أسرهم وقتلهم من أجل التعرف على «الجناة».
ويظهر فى الفيديوهات رجال «تاورغاء» وهم يقاتلون إلى جانب كتائب القذافى، فضلاً عن اتهامات وجهها رجال من «تاورغاء»، منها اغتصاب نساء «مصراتة» أمام أعين أسرهن، وهو ما نفاه أهل «تاورغاء».
وتضاربت الأنباء عن دور قبائل «تاورغاء» فى ثورة 17 فبراير، خاصة أنهم لم يعلنوا انشقاقهم عن كتائب القذافى، طوال الفترة التى استولت فيها الكتائب على «تاورغاء».
ويرى أصحاب البشرة السمراء، من سكان المدينة، أن وسائل الإعلام روجت أن كل أصحاب البشرة السمراء، أو من كانوا يدينون بالولاء لــ«القذافى» وزمرته هم من أبناء قبيلة «تاورغاء»، وهو ما رفضوه جملة وتفصيلا، ورغم اعتراف أهل المدينة بأن بعضهم كان مناصرا لـ«القذافى»، مع نجاح ثورة 17 فبراير، فإنهم ما لبثوا أن تحسنت صورتهم، بعد مشاركتهم فى الثورة.
أهل «تاورغاء» فى الحقيقة لا تشغلهم السياسة، وليس لديهم مطامع مستقبلية، ويستنكرون الاتهامات الموجهة إليهم، ويتساءلون: «كيف يتحول هؤلاء البشر إلى وحوش، بين يوم وليلة، وهم لا يحلمون سوى بالخبز والأمان؟».
ومع صعود الثوار إلى السلطة، ونجاح كتائب مصراتة، فى القضاء على كتائب القذافى، أعلنت «تاورغاء» مدينة عسكرية، وتم تهجير سكانها قسراً.
«المصرى اليوم» رصدت معاناة النازحين داخل أوطانهم، وكيف يعيشون.. والمستقبل الغامض الذى ينتظرهم، فى ظل واقع وصفه الأهالى بـ«المؤلم».
عند مدخل مخيم «الفلاح»، وسط العاصمة «طرابلس» اصطحبتنا «فاطمة»، سيدة أربعينية، تعمل مدرسة فى إحدى مدارس «تاورغاء»، وتسكن إحدى غرف المخيم، مع 5 من أفراد أسرتها.
وفى الطريق تروى لنا «فاطمة» مقتطفات من ذكريات لم تبرح خيالها: «مساء ليلة 28 يونيو، من العام الماضى، كانت راجمات (حلف الناتو) تمطر سماءنا، وقتل 15 شخصاً من قبيلتنا، فى ليلة واحدة، ولم يمض يوم إلا ونحن نشيع الجنازات. كنا نستيقظ فى الصباح، ونذهب إلى المقابر لدفن (ضحايانا) دون أن نسأل من الذى توفى، 4 جنازات تشيع عند الظهيرة، وعدد مماثل فى العشية».
وإثر القصف المتواصل «توقفت كل وسائل الحياة: انقطعت الكهرباء والماء، واستخدمنا الحطب فى طهى طعامنا، ونستأنس بجمره ليلاً، وفى يوم 12 من رمضان، العام الماضى، استمرت الراجمات من الصباح حتى أذان المغرب، فهربنا إلى الحقول، وعندما توقف القصف، تمكنا من جرح صيامنا بجرعات ماء وحبات تمر، وجاء فجر اليوم التالى، ولم نعد لديارنا».
وتتذكر «فاطمة» كيف رحل أهل مدينتها: «تركنا (تاورغاء)، وقطعنا نحو 74 كيلو متراً، سيراً على الأقدام، بين الوديان والسهول، بينما كانت الراجمات والطائرات الحربية تلاحقنا، وفى الطريق سقط منا عدد كبير من الشهداء، كنا نقفز فوق الجثامين ولا نبالى، إنه الطوفان، وصلنا إلى منطقة (الهيشة) القريبة من «تاورغاء»، وتوجهت بعض العائلات إلى واحة (الكفرة) فى الجنوب، وهناك من انتظر الرحيل إلى طرابلس.
وتروى «فاطمة» رحلة التهجير القسرى: لم يكن أمامنا للانتقال من «الكفرة» سوى شاحنة لجمع القمامة احتشد بداخلها 60 عائلة، واستقر الأطفال والنساء فى قاع الشاحنة، بينما تعلق الرجال والشباب على أطرافها، وخلال الرحلة تعرضنا للإهانة، لا لشىء سوى أننا من «تاورغاء»، إلى أن وصلنا هنا فى مخيم (الفلاح) المكون من عدد من (الهناجر)، المخصص لعمال البناء فى منطقة تستعد لتشييد عدد من الأبراج السكنية والإدارية، يتوسط (الهنجر) ممر طويل، لا يتجاوز عرضه المتر الواحد، وحجرات متراصة ذات اليمين واليسار، مساحتها متران فى مترين ونصف، تسكن كل أسرة داخل حجرة. بينما كنا نستخدم حمامات جماعية، ما كان يشعرنى بالحرج، خجلاً من المواقف السيئة التى تعرضنا لها.
فى الطريق استوقنا طابور مدرسة مخيم الفلاح، لأطفال ذات بشرة سمراء، يرددون نشيد الوطن، وبالجهود الذاتية ومساعدات الأمم المتحدة، أصر النازحون من «تاورغاء» على استكمال دراسة أبنائهم.
وفى أحد الفصول، التقينا «على» الطالب بالصف الرابع الابتدائى، الذى أبدى حزنه على دراجته، التى كان يلعب بها أمام بيته، وتساءل: «هل عندما أعود إلى بيتى سأجد (البسكليتة بتاعتى)، وأجد بيتى كما هو»، وتابع: أخبرنى أبى أن بيتنا احترق، كما احترقت مزرعتنا، لكننى أخفيت دراجتى فى مكان لا يعلمه أحد غيرى».
داخل الهناجر كانت النسوة تطهو الطعام لأولادهن، قبل عودتهم من المدرسة، وتروى «حواء» 25 سنة، ممرضة: «فى ليلة 29 رمضان 2011 استقبلنا حالة ولادة، وقبل أن تضع الأم جنينها اشتدت قاذفات الناتو، وانقطع التيار الكهربائى، واضطررنا لتسليم السيدة إلى ذويها، وطالبناهم بالعودة بها إلى منزلها، وحولنا مستشفى تاورغاء إلى مستشفى ميدانى».
«حواء» خرجت مع النازحين، بعد أن تفرق أفراد عائلتها، والقبض على شقيقها «على»، ووضعه فى سجون مصراتة، بينما اتجه شقيقها الثانى إلى الجنوب، ولا تعلم حواء عنهما شيئاً، بينما نجحت فى الوصول مع والدتها واثنين من أبناء شقيقها إلى مخيم الفلاح.
تخشى «حواء» على ابنى شقيقها على ومحمد موسى، من الاغتيال أو القبض عليهما وتقول: «نعيش فى المخيم وكأنه الحبس الاختيارى، لافتة إلى أن النساء يذهبن إلى طرابلس لشراء حوائجه، ولا يمكن للشباب أو الرجال الخروج من المخيم، خوفاً من القبض عليهم، فبمجرد خروج أصحاب البشرة السمراء، إلى السوق يتعرضون للهجوم من قبل أفراد «درع ليبيا».
وأوضحت أن المخيم تعرض أكثر من مرة للاقتحام وإطلاق النار علينا من قبل «درع ليبيا»، نعيش حالة من الرعب المستمر، إلا أننا لم نفقد الأمل فى العودة إلى ديارنا، من خلال حل عادل لقضيتنا.
لأننا نشعر وكأننا نعيش داخل سجن كبير، وتساءلت: إلى متى تظل «مصراتة» شرطى ليبيا، تعاقب من تشاء بغير حساب وتحكمها شريعة الغاب.
«أم مخزونة»، تسكن إحدى غرف الهنجر، فقدت صغيرها، بين أحضانها، بعد إصابته بقذيفة غاشمة، كما قتل شقيقها براجمات الناتو، بينما زوجها أسير فى سجون مصراتة.
كانت «مخزونة» تجلس فى ركن قصى من غرفتها، إلا أنها خرجت من صمتها المعهود لتقول: «اشتعلت النيران فى مزرعتنا، خرجنا لإطفائها، وإذا بالراجمات تقع فوق رؤوسنا، وأصابت صغيرى، جريت نحوه واحتضنته، إلا أنه فاروق الحياة فى الحال، ومع انقطاع الكهرباء، وإرسال التلفاز والإذاعة، لأكثر من 6 أشهر، انقطعت عنا أخبار البلاد، كنا نسمع الأخبار، من أحد أفراد القبيلة، وبعد أن حاصرتنا كتائب القذافى، تم منعنا من الخروج، لم يكن لدينا طعام سوى خبز «التنور»، وحبات البلح، وما نحلبه من «شواهينا»، إلى أن اشتد القتال، وخرجنا من ديارنا.
«سليمة» لا تختلف كثيراً عن الأخريات، تنتظر يوم العودة إلى مسقط رأسها، مع طفليها، بعد أن فقدت زوجها، وتروى: «ليلة قذف الناتو للمدينة تعالت الصيحات وهرولنا مع النازحين، وفى الطريق أصيب زوجى بطلق نارى فى صدره ظللت لجواره لحظات، كان ينازع الموت، وأمسكت بيده لعله ينهض معى، وما إن تأكدت أنه فارق الحياة تركته، لأنجو بطفلى.. «إنه الطوفان، إما أن أترك جثة زوجى، أو أقتل إلى جواره، أنا وأبنائى، ولا أعلم من الذى دفن زوجى، ولا أعلم إن كان وارى جسده التراب، أم نهشته الذئاب»، وتتابع: «كنا نشاهد جثامين لآخرين فى طريقنا، خارج تاورغاء».
رغم جفاء الحياة داخل مخيم «الفلاح»، لأكثر من عام ونصف العام، لم تخل أيام النازحين من الضحكات والأفراح، بل وقصص الحب، التى غزلت خيوطها داخل المخيم، ما أدى إلى عقد عدد من الزيجات بين الشباب والفتيات.
وتقول «مخزونة»: «الأسبوع الماضى تم عقد زواج جماعى لثلاثة من الشباب، وأقمنا طقوس العرس، كما لو كنا فى ديارنا، أقمنا الذبائح والولائم، وشارك جميع سكان المخيم».
ويطالب، عبدالرحمن الشكشاك، رئيس مخيم الفلاح المنتخب من قبل النازحين بحق أبناء «تاورغاء» فى العودة إلى ديارهم، لافتاً إلى أن النازحين من بينهم 13 ألفاً فى مخيم «الحليس» بمدينة بنغازى، و7 آلاف على الحدود الليبية النيجيرية، و4 مخيمات فى طرابلس، فضلا عن وجود عائلات مشردة، لا أحد يعرف لها محل إقامة إلى الآن».
وانتقد «الشكشاك»، إهمال الإدارة الليبية وعدم زيارة أى مسؤول لـ«المخيمات»، لافتاً إلى أن السيناتور جون ماكين، زار مخيم الفلاح، وألقى نظرة على الوضع المأساوى، فى حين لم يزر أحد من أفراد المؤتمر العام الليبى مخيماتنا، مشيراً إلى أن «تاورغاء» فقدت نحو 500 قتيل، بينما هناك نحو 1300 أسير فى سجون ليبيا مدللاً بذلك على مشاركتهم فى ثورة 17 فبراير. وناشد «الشكشاك» السلطات، ضرورة عودة سكان تاورغاء إلى مدينتهم وتنفيذ قرار استقلالها عن مصراتة إداريا.
وترى الدكتورة هدى ماضى، الناشطة السياسية، أن المصالحة بين مصراتة وتاورغاء، باتت مستحيلة، وإن كان الاعتراف بارتكاب الجرائم سيقطع شوطاً طويلاً فى نزع فتيل غضب أهل مصراتة. وشددت على ضرورة التدخل السريع من قبل المؤتمر الوطنى، واتخاذ قرارات بحق عودة أهل تاورغاء إلى مدينتهم، على أن تلقى هذه القرارات دعم الدكتور على زيدان، رئيس الوزراء. وأضافت: «إذا كان الانتظار سيطول، لا يمكن أن يعيش هؤلاء الناس فى مبان عامة، أو خيام أو بطريقة غير إنسانية، خاصة أن المفوضية السامية لشؤون اللاجئين، أعلنت أن نحو 20 ألفاً من سكان تاورغاء مسجلون فى المواقع، التى تديرها الوكالة الليبية للإغاثة الإنسانية، فى طرابلس وبنغازى، وترهونة، وبلدات أخرى أصغر حجماً فى مختلف أنحاء البلاد». وأوضحت أنه تم اكتشاف نحو 7 آلاف آخرين فى الجنوب، بالقرب من مدينة سبها، إضافة إلى عدد من المفقودين، وهم إما يقيمون مع أقارب أو أصدقاء، دون أن يكتشفهم أحد، أو يختبئون فى الصحراء، ويخافون الخروج من مخابئهم. ويأمل أهل «تاورغاء»، فى العودة إلى ديارهم، التى هجروها، وتعهدوا بالعمل على إعادة بناء مدينتهم، حال تحقيق حلمهم