خرج الرئيس السوري بشار الأسد، عشية عيد الميلاد، يترحم على أرواح الأبرياء، في وقت عف فيه مسيحيو سوريا عن الاحتفال بأي مناسبة دينية، حزنا على ما آل إليه وطنهم بعد عامين من ثورة دامية. فالمدينة الريفية التي تزينها أضواء العيد مظلمة أكثر من أي وقت مضى. الروح معبأة بالعتمة والتيار الكهربائي لا يصل للمدينة. سوريا تجاوزت مرحلة الضوء المقنن إلى مرحلة اللاضوء.
في هذه المدينة كانت «العربة السحرية» المشهورة و«بابا نويل» يزينان شرفة المعلم «جورج»، والجرس الكبير يهتز راقصاً على إيقاع الضوء الملون. أما الصليب البرتقالي فيكسر عتمة الشارع الساكن بعد الـ 12 ليلاًً، فيما يتقاسم البشر الدفء والتهاني. كانت ليلة واحدة استثنائية للقاء الأحبة.. لكن منذ عامين غابت عنها الأضواء لتحل عتمة ودموع على أحباء كانوا يقتسمون الطاولات والضحكات في مثل هذه الليلة.
«نحن بين نارين يا أخي».. بهذه الكلمات وصف «أبو ميشيل» وضعه في إحدى قرى ريف دمشق، ذات الأغلبية المسيحية. ومضى قائلا «بكل الأحوال نحن الخاسرون، منذ اليوم الأول لاندلاع الثورة حاولت كل الأطراف أن تختبر موقفنا. النظام هو الجهة التي ضغطت بقوة لزجنا في الصراع مع أهلنا وجيراننا، وأولى المحاولات كانت توزيع السلاح على بعض (الزعران) الذين أطلقوا عليهم تسمية اللجان الشعبية من أجل حمايتنا. هكذا بدا كأننا شبيحة النظام في وقت لم يهددنا أو يعتدي علينا أحد».
«المصري اليوم» سألت «أبو ميشيل» عما إذا كان يرى أن مسيحيي سوريا تورطوا في هذه اللعبة، فأطرق الرجل برأسه كثيرا، ثم قال فجأة: «نعم في صيدنايا وبعض قرى وادي النصارى قامت اللجان الشعبية بالتشبيح ضد أهل ريف دمشق وحمص. بعضهم عمل مخبراً لدى أجهزة الأمن، وهو ما تسبب في قتل جيرانهم في القرى المجاورة لصيدنايا مثل مدينة التل الثائرة».
وأضاف «أبو ميشيل»: «دفعت هذه الأحداث عائلات مسيحية كثيرة للهجرة الداخلية إلى قرى أكثر أمناً، لكن الهجرة الداخلية جاءت من أهالي القصاع وباب توما الذين أفزعتهم التفجيرات الكبيرة في أكثر مناطق دمشق ازدحاماً وذات أغلبية مسيحية ميسورة. وهؤلاء اتجهوا إلى أوروبا وأمريكا، لهم أقارب يستطيعون استقبالهم، أما الفقراء فليس لديهم سوى خيار البقاء». وكان أبو ميشيل نفسه قد قام بتهريب ابنه إلى دولة أوروبية خوفاً على حياته، قبل شهر وعشرة أيام من الآن.
يحل عيد الميلاد على المسيحيين في سوريا للعام الثاني على التوالي والحال يزداد سوءً. «فليب» ومجموعة من أصدقائه، احتراماً للسوريين الذين فقدوا أحباءهم تحت ضربات النظام وطيرانه، شدوا الرحال إلى لبنان ليحتفلوا مع أصدقائهم هناك.
لم تكن حمص فقط أكثر المدن تضرراً من حملات التدمير التي شنها النظام بسبب موقف أهلها المعادي للنظام، بل كانت معقل الكنائس المدمرة، وعلى رأس ثراثها الضائع: كنيسة السيدة العذراء «مريم أم الزنار»، الواقعة في حي الحميدية، وكنائس «الأربعين» و«القصير» و«السريان» في دير الزور.
مدينة «محردة» أيضا تقع في قلب الصراع الطائفي في سوريا. ومثل الأسبوع الماضي أكثر أيامها فزعاً عندما بدأ النظام في قصف المدن المحيطة بها. أثار ذلك مخاوف أهلها من ردة فعل كبيرة خصوصاً بعد مجزرة (حلفايا) التي ذهب ضحيتها مئات الأشخاص الذين قتلوا بالطائرات أمام الفرن الآلي.
عندها خرجت أصوات تطالب بانتقام أهل محردة بإخراج الجيش من مدينتهم، وهو ما استدعى تدخل «العقلاء» لعدم جر الطائفة المسيحية إلى معركة ليسوا طرفاً فيها، وألا يكونوا طوق نجاة لنظام يقتل شعبه. فالتهديدات جاءت نتيجة ردة فعل غاضبة، قبل أن تعود الأوضاع إلى ما كانت عليه، لكن الخوف يظل قائما من أن تنجح محاولات النظام في مجزرة جديدة إلى جر الجيران إلى اقتتال على أساس طائفي.
لم يكن المسيحيون في سوريا، وإن تورط بعضهم، خارج الثورة أو أقل رغبة في التحرر، فهم من السكان الأصليين لبلاد الشام، وعانوا الاضطهاد طوال العقود الـ 4 الماضية. كما سجنت أغلب كوادرهم المثقفة التي كانت تنتمي في أغلبها إلى اليسار بسبب مواقفها الوطنية، لكن أهم إضاءة قدمها المسيحيون في ثورة الشعب السوري تمثلت في الفنان المخرج الشاب باسل شحادة الذي كانت عدسة كاميرته شاهداً على المذابح التي ارتكبت بحق أبناء مدينة حمص، كما كانت شاهدة على انتفاضتها ومظاهراتها الكبرى.