لا يمنحك الحوار معه بصفته الأمين العام لمنظمة المؤتمر الإسلامى، ثانى أكبر منظمة حكومية دولية بعد الأمم المتحدة بدولها الـ٥٧ «رؤية مختلفة» فحسب، ولكنه يمنحك- بعقلية العالم والمتعمق فى تاريخ العلوم- فرصة للتحدث بموضوعية عن حال الإسلام والمسلمين هذه الأيام.
هو يؤكد لك بلغة عربية سليمة، مدى حاجة المسلمين لتطوير خطابهم الدينى وأسلوب تفكيرهم دون التقيد بأوروبا وما حدث فيها من فصل للدين عن السياسة فى عصور النهضة بها، ويشير إلى أنه ليس من السهل تكرار نموذج العالم الفقيه كالفارابى أو ابن رشد لأنهما نتاج عصرهما، مطالباً بالفصل بين الدين والسياسة وعدم استخدام المؤسسات الدينية فى تحقيق أى أغراض سياسية.
هكذا بدأ الحديث ساخنا بين «المصرى اليوم» والدكتور أكمل الدين إحسان أوغلى، الأمين العام لمنظمة المؤتمر الإسلامى، أول أمين عام للمنظمة يتم اختياره بالتصويت فى العام ٢٠٠٥، التركى الهوية والجذور، المصرى المولد والنشأة والتعليم، والذى جاء ارتباطه بالمنظمة منذ العام ١٩٨٠، حينما أسس مركز الأبحاث للتاريخ والفنون والثقافة الإسلامية «إرسيكا» فى أسطنبول وشغل منصب المدير العام لها. وإلى نص الحوار.
■ يعلم الجميع أنك تركى الجنسية، ولكن لا يعرف الكثيرون الجزء المصرى فى حياتك؟
- جذورى وجنسيتى تركية فأبى وأمى تركيان جاءا لمصر فى العقد الثالث من القرن الماضى، وكان والدى أحد علماء الأزهر،وقد ولدت فى العام ١٩٤٣ ودرست فى مدارسها وتلقيت تعليمى العالى فى كلية العلوم قسم الكيمياء جامعة عين شمس فى عام ١٩٦٦، ثم حصلت على درجة الماجستير فى الكيمياء فى العام ١٩٧٠، أما الدكتوراه فكانت من تركيا، وتحديدا من جامعة أنقرة فى العام ١٩٧٤، ولذا تبقى لمصر مكانة خاصة فى نفسى، ففيها ولدت وتعلمت وعشت سنوات طفولتى وشبابى، ليس هذا فحسب بل أؤمن بمحورية دورها فى العالم الإسلامى، لموقعها الجغرافى والتاريخى ووسطية أهلها فى الإسلام.
■ فى اعتقادك لماذا لم يعد لدينا فى عالمنا الإسلامى العالم الفقيه الذى يتحدث فى الدين وهو على علاقة وثيقة بالعلم، كابن سينا مثلاً؟
- ليس من السهل تكرار العالم الفقيه كابن رشد أو الفارابى أو الغزالى فهؤلاء نتاج عصورهم، ومراحل من التطور الحضارى لم تعد موجودة الآن، ولكن علينا كمسلمين فهم واستيعاب ما يحدث حولنا من متغيرات فى العالم المحيط بنا، وإذا كان لا يوجد لدينا اليوم العالم الفقيه فعلينا الاستعانة بالعلماء المتخصصين فى الطب والكيمياء والبيولوجيا عند دراسة مسائل علمية، بالإضافة لفقهاء لديهم معرفة بهذه الأمور، ويتم تدارس تلك المسائل حتى نصل لرأى فقهى صحيح، ونحن نفعل ذلك فى المجمع الفقهى التابع للمنظمة.
■ يعود تاريخ المجمع الفقهى التابع للمنظمة للعام ١٩٨٠ ورغم ذلك لا توجد هناك وحدة فتوى تلزم جميع الدول الأعضاء بها. ما تفسير ذلك؟
- مشكلة المجمع الفقهى بمنظمة المؤتمر الإسلامى أنه غير ملزم لكل الدول الأعضاء، على الرغم من أن المجمع يضم علماء من كل الدول الإسلامية الذين يعبرون عن مختلف المذاهب والمدارس الفقهية سنة وشيعة، وعند تدارس قضية ما يجتمعون لدراستها وإصدار فتوى فيها،
وقد تعرضنا لدراسة العديد من القضايا مثل قضية نقل الأعضاء والهندسة الجينية، وكثيرا ما تصدر عن المجمع فتاوى تفوق مؤسسات دينية أخرى، حيث لابد من إجماع الـ٥٧ فقيهاً الذين يمثلون كل الدول الأعضاء، ورغم عدم إلزام الدول بما نصدره من فتاوى فإن المجمع لعب دوراً بارزاً فى التقريب بين مذاهب المسلمين المختلفة، وأعلن رفضه لتكفير أتباع أى مذهب منهم،
وأعتقد أن وثيقة مكة التى وقعناها فى العام ٢٠٠٥ وضعت الكثير من الأسس التى أكدت هذا المعنى، وكانت سببا، على سبيل المثال، فى تحقيق المصالحة بين علماء السنة والشيعة فى العراق، حيث نادينا فى قمة مكة بالمساواة بين كل المذاهب وهى الأربعة السنة، واثنتان شيعة والزيدية والجعفرية والأباضية والظاهرية والخوارج، وأصبح ادعاء طرف بأفضلية مذهبه ادعاء باطلاً، وبات لدينا إجماع تاريخى بالمساواة بين الجميع.
■ بصفتك عالم كيمياء ترأست لفترة الاتحاد الدولى لتاريخ العلوم، وهى مجالات تعتمد على الإقناع واستخدام الحجة والمنطق، كيف ترى الخطاب الإسلامى وما مدى حاجته للتغيير؟
- الخطاب الدينى يحتاج لتجديد ومواءمة، والقاعدة تقول «خاطبوا الناس على قدر عقولهم»، وحسب شؤون دينهم وحياتهم لا يمكن أن نخاطب الناس إلا بلغة عصرهم، الشباب الآن يعيشون عصر المعلوماتية يتعلمون ويعلمون كل شىء فى لحظة عبر الإنترنت والفضائيات، وهذا تحد كبير لابد أن تفطن له الأمة الإسلامية التى يعانى جزء منها من مشكلة التشدد الدينى منذ السبعينيات، وهى أزمة تجعل من الجماعات التى تمثل التيار المتشدد ذات الصوت الأعلى، بينما اتجاهات الغالبية المعتدلة هادئة، فى نفس الوقت فإن بعض المجتمعات الإسلامية تعيش ظاهرة تدين متشدد عن غيرها نتيجة ظروف اجتماعية وسياسية لا يجد فيها الإنسان الملاذ إلا فى أحضان التزمت الدينى، وهكذا اقترن العنف بالإسلام بعد أن ادعى معتنقيه انتماءهم لهذا الدين المتسامح، وقد حاولنا فى المنظمة دوماً نفى هذه العلاقة، فنحن على قناعة تامة بأن الإسلام فيه أشياء ثابتة هى العقيدة والأركان الخمسة المتعارف عليها، وهذه لا محل للنقاش فيها.
فيما عدا ذلك فإن هناك قاعدة أصولية فقهية تنص على تبدل الأحكام بتبدل الزمان، بخاصة أننا نحيا فى عصر فيه تبدل كبير فى أمور الناس ومستجدات حياتهم، وأكثر ما يميز الفقه الإسلامى هو المرونة على مدار العصور، والقابلية على استيعاب المتغيرات والمستجدات التى لم يحضرها عصر النبوة والخلفاء.
ففى القرن الـ١٦ أفتى شيخ الإسلام أبوالسعود بفتاوى حديثة لم تكن موجودة فى الفقه الإسلامى من قبل، وهكذا فعل الفقيه الحنفى بن عابدين فى القرن الـ١٩، وبشكل أحدث انعاكاسات فى دول العالم الإسلامى وفتح باب التواؤم بين القيم الحديثة والقيم الإسلامية لتبدأ مسيرة الإصلاح حتى فى السياسة ودون تعارض مع الدين.
■ بمناسبة الحديث عن السياسة والدين، هل أنت مع الأصوات المنادية فى العالم الإسلامى بالفصل بينهما وتطبيق العلمانية؟
- دعونا نتفق على أنه لا يمكن بناء دولة حديثة إلا بإحداث التوافق بين الديمقراطية والدين الإسلامى فلا تعارض بينهما. فيكون البرلمان مصدر التشريعات التى لا تتعارض مع الدين. فلا يمكن على سبيل المثال السماح فى دولة مسلمة بعلاقة بين المثليين أو السماح بالزنى هذه أمور ترفضها الشريعة.
ولكن علينا أن نحدد علاقة الدين بالسياسة فنحن لدينا دين وتراث دينى، يختلف باختلاف المذاهب كما أننا لدينا نظم سياسية مختلفة فى الدول الإسلامية، هناك دول تطبق الديمقراطية وتسمح بتداول سلمى للسلطة، ودول أخرى لديها نظم أوتوقراطية، وما أعيه وأؤمن به أنه لا يجب أن نتخذ الدين كذريعة لتحقيق أى أهداف سياسية فهذا ضد الدين ويزج به فى معترك يخرجه عن طبيعته ويجعله خاضعاً لحسابات السياسيين، وأن يترك الدين لمؤسساته وقواعده بعيداً عن السياسة دون أن يُتخذ كمطية لتنفيذ الأغراض السياسية.
■ البعض يرى أن أوروبا لم تتقدم إلا بوضع حد فاصل بين الدين والسياسة ويطالبون بتطبيق ذلك فى عالمنا الإسلامى. كيف ترى ذلك؟
- العلمانية ظهرت فى مجتمع مسيحى كاثوليكى خرج من عباءة سلطة الكنيسة والملوك، فظهرت طبقة متوسطة واسعة امتلكت ثروات نتيجة ممارسة التجارة وامتلاك الأراضى، وكان هذا يعنى وجود طبقة جديدة ترفض سيطرة الكنيسة ثم جاءت الثورة الفرنسية لتكون بمثابة نقطة تحول فى المجتمع الأوروبى ليتم الحديث عن فصل الكنيسة عن الدولة ونحن لا يوجد لدينا هذا.
ولذا يجب أن نراعى الفرق بين طبيعة العالم الإسلامى وبين أوروبا، فهناك فى أوروبا كانت دولة الكنيسة، البابا يملك ويحكم ويسيطر على الملوك الذين يأخذون مشورتهم من البابا، والكنيسة تتدخل فى كل شىء حتى علاقة الانسان بربه،بينما لا يوجد كهنوت فى الإسلام ولا رهبنة ولا أى سلطة تتحكم فى علاقة الفرد بخالقه، ليس هذا فحسب بل إن الإسلام تواصل مع حضارات الأمم التى سبقته وأخذ منها ما يناسبه بل وأقام عليها حضارة إسلامية أبهرت العالم وكانت قاعدة للحضارة الحديثة ولذا يجب ألا نتقوقع على أنفسنا ونقارن أنفسنا بأوروبا، علينا أن نطور أنفسنا وفق مفاهيمنا الخاصة ووفق حاجة شعوبنا.
لأن جزءاً من الإحباط الذى يشعر به مثقفونا أننا دائما ما نضع أنفسنا فى محاذاة الغرب دون أن نفهم النمو الصحيح للحضارة الإسلامية ونضع ما يواجهنا من مشكلات فى إطارها الصحيح.
■ أنشئت المنظمة فى سبتمبر من العام ١٩٦٩ فى أعقاب حريق المسجد الأقصى لتكون حصناً للدفاع عن القضايا الإسلامية ولكن الكثيرين لا يشعرون بتأثيرها. ما ردك على ذلك؟
- أتفق إلى حد ما مع هذه المقولة فالمنظمة غابت عن المشكلات الحقيقية للعالم الإسلامى على مدار سنوات كثيرة ولكن هذا الوضع تغير منذ العام ٢٠٠٥ وتحديداً منذ قمة مكة التى غيرت الكثير من الأمور وباتت المنظمة أكثر صلةً بقضايا المسلمين، كما حدث على سبيل المثال عند نشوب حرب لبنان وإسرائيل فى العام ٢٠٠٦ حين كانت المنظمة هى الجهة الوحيدة التى تدخلت بعد قمة كوالامبور وضغطت على المجتمع الدولى لإصدار قرار وقف إطلاق النار.
■ المنظمة الآن بصدد وضع معايير تحدد مفهوم «الأغذية الحلال» لإزالة الغموض عن هذه القضية. كيف يتم ذلك؟
- تعمل منظمة المؤتمر الإسلامى على إصدار معايير معتمدة لمفهوم الأغذية الحلال على مستوى الدول الأعضاء فيها على صعيد العالم الإسلامى بالتعاون مع مجمع الفقه الإسلامى فى جدة.
وفى كلمتى أمام القمة الاقتصادية للجنة الدائمة للتعاون الاقتصادى والتجارى «كوميسك» التابعة للمنظمة فى شهر نوفمبر الماضى، ذكرت أن إعداد معايير الأغذية الحلال، والدور المتزايد للقطاع الخاص، يمثل تدابير سوف تساهم فى توسيع نطاق التجارة، وتساعد على معالجة هذه الأزمات المالية والغذائية المدمرة التى زادت من غوص بلداننا فى وحل الانكماش الاقتصادى.
وانعقد فى هذا السياق الاجتماع العاشر لمجموعة الخبراء المعنية بوضع المعايير الخاصة بتطوير معايير الأغذية الحلال بالمنظمة، والإجراءات الخاصة بها فى أنقرة فى أبريل ٢٠٠٩.
ويهدف المشروع إلى وضع قاعدة شاملة لشهادة الأكل الحلال تطبق فى الدول الإسلامية. ولا تشمل شهادة الأغذية الحلال فقط المنتج الغذائى نفسه، بل عمليات التعبئة والنقل والتصنيف وإجراءات تموين الأغذية، ومن بين القضايا محل النقاش فى هذه المسألة،مواضيع «تدويخ الحيوان قبل ذبحه»، الذبح الآلى، الحيوانات البحرية، أدوات الذبح، والأوعية وغيرها من الأمور.