«يحدث أحيانًا أن تختار المجتمعات بأكملها راحة البال.. مضحية في ذلك بضرورة التطور.. يحدث أحيانًا أن تستلم مجتمعات بأكملها لمرض اسمه الرضاء عن النفس.. وفي مثل تلك اللحظات يحتاج كل مجتمع إلى عدد من أعضائه يقومون بمهمة دق جرس الخطر.. جرس الإنذار.. الإنذار ضد خطر الاستسلام للأمر الواقع، والرضا بما هو قائم، والإيمان بأنه ليس في الإمكان أبدع مما كان».
تنطبق هذه السطور المكتوبة في كتاب «متمردون لوجه الله» على مؤلفه الذي يعشق مهنته فيتزوجها حتى الممات، ويخلص لها فتعطيه حب من يقرأ له.. فأسلوبه مميز في الكتابة.. متفرد في سرده.. فهو يغرد بكلماته ويؤمن بمبدأ أن «من يصبح حرًا مرة.. يظل حرًا طوال العمر».
هذا الرجل يبحث عن الحرية يدافع عنها بقلمه الذي «أحبه ودفع ثمنه مبكرًا».. يشتهر بلقب «عندليب الصحافة المصرية».. بل ويصفه أبرز تلاميذه، الإعلامي يسري فودة، بكونه «رجلاً مهمًا في زمن تافه».. إنه محمود عوض.
رجل صاحب قضية
رفع محمود عوض شعار «اعرف عدوك»، حيث أمسك بـ«جرس الإنذار»، فعرف من يقرأ له أن الكيان الصهيوني يزعم بأنه «حمامة سلام» حتى ولو بعد معاهدة «كامب ديفيد».. باختصار ينبهك إلى أصل الصراع الدائر بين مصر وإسرائيل عن فهم وبحث وتدقيق دون «جعجعة» في الهواء وشعارات لا تسمن ولا تغني من جوع.
كثيرون تحدثوا عن الصراع العربي الإسرائيلي.. كثيرون ذهبوا يدافعون عن السلام مع إسرائيل وكأنه هو كل الإبداع الذي لن يكون بعده أفل مما كان.. لكن محمود عوض وقف يشرح لك أصل القضية بأدلة موثقة وبرؤية تحليلية لا تعتمد على شعارات تنم عن جهل لا يفيد.. لدرجة أنه خلال حرب أكتوبر 1973 وقع طبيب مصري أثناء خدمته العسكرية أسيرًا فحكى بعد عودته أن «الإسرائيليين قد وجهوا إلىّ عدة أسئلة خلال الأسر، وكان آخرها سؤالاً يقول: هل يوزعون عليكم كتب محمود عوض من باب التوجيه المعنوى للقوات المسلحة؟».
ولك بعد هذه الحكاية أن تدرك قيمة كاتب بقدر محمود عوض، الذي لفتت سطوره أنظار إسرائيل بينما كان موشى ديان، المسؤول الأول عن جيش الاحتلال، لا يخشى العرب لأنهم «لا يقرأون».
يحكي لك محمود عوض، الذي ولد فى ٢٨ ديسمبر ١٩٤٢، عن إصراره على معرفة عدوه قائلا: «كل القضايا تبدأ بالمعرفة، وإسرائيل في حياتنا هي قضية كبرى هي كذلك لنحو قرن من الزمن»، «وفي المواجهة مع إسرائيل المشروع والفكرة أدى نقص معرفتنا بما يجري إلى الهزيمة أمام الدولة الناشئة، التي لم تعد مشروعًا فقط، ولا دولة فقط، وإنما: دولة.. ووظيفة».
ويصف لك ما حدث في هزيمة 1967 بأنه «الصدمة والزلزال»، ثم يكتب: «لقد أردت، كصحفى وكاتب فى سنواته المبكرة، أن أفهم لنفسي أولاً ماذا جرى.. ولماذا جرى.. أردت المعرفة.. الزلزال جعلني أفقد ثقتي في الإعلام العربي كله، بما فيه الصحافة التي أعمل بها، هكذا قررت أن أذهب مباشرة إلى مصادر المعرفة.. أجنبية بالكامل.. وإسرائيلية إذا تيسر».
قلم يصفع إسرائيل
هكذا يضرب لك مثلاً عمليًا عن صحفي مجتهد غير كسول، يسعى لخدمة القارئ بمعلومة تفيده، فلا يقدم رسالة تخدع من يتابعه.. فهدفه الأول والأخير نشر المعرفة عن حقيقة العدو الإسرائيلي.. ومن هنا ظهرت مجموعة من كتبه بلغة سلسة تلخص حال الصراع العربي الإسرائيلي مثل كتب «ممنوع من التداول»، و«أفكار إسرائيلية»، و«الحرب الرابعة.. سري جدًا»، و«وعليكم السلام».
يلخص لك الصراع مع إسرائيل قائلاً: «دولة أصبحت فجأة على حدودنا، ومن هناك قفزت مرة ومرتين وعشرين مرة، لكي تحتل أرضنا وتحصد أرواح شهداءنا، القضية هي دولة تمتلك أهدافًا مناقضة لأهدافنا، وهي لا تملكها فقط كنوايا وشعارات وبرامج، وإنما كأسلحة تغزو وتبيد وتقتل».
محمود عوض واجه عدوه بالقلم.. كما قدم برنامجًا يوميًا بعنوان «من قلب إسرائيل»مدته خمس دقائق، و«كانت تقارير المتابعة بالإذاعة تسجل أنه أصبح أكثر البرامج السياسية شعبية، وهو شىء نادر بحد ذاته».
لكن البرنامج توقف بعد ذلك بسبب رواية ترددت تشير إلى أن رئيس وزراء إسرائيل الأسبق، مناحم بيجين، طلب من الرئيس الراحل السادات مد خط من مياه النيل إلى إسرائيل فى إطار مفاوضات السلام، وهو الأمر الذي أغضب محمود عوض، ودفعه إلى مهاجمة «بيجين» عبر برنامجه بقوله: «دى وقاحة يا سيد بيجين»، وهو الهجوم الذى تسبب في وقف البرنامج كما تردد في حينها.
تخرج محمود عوض في كلية الحقوق، وعمل في بلاط صاحبة الجلالة داخل بيته الذي عشقه «أخبار اليوم»، ورفض العمل بالنيابة العامة مفضلاً الاشتغال بالصحافة، فمرت 8 أعوام عقب تخرجه من الجامعة حتى أصبح نائبًا لرئيس تحرير الأخبار، وهو لم يكمل عامه الثلاثين، لكنه فيما بعد مُنع من الكتابة في بلاده لمواقفه الرافضة للتطبيع.. فبدلاً من أن تستفيد منه مصر.. يُقصيه من لا يهتم بتقديم كاتب موسوعي المعرفة للقراء.. وإقصاء «عوض» يأتي على يد تحارب «التغيير» وتهاجم بضراوة من يقف في وجه استبداد السلطة ولو بقلم.
حاولت إسرائيل أن تكسب وده بعد اتفاقية السلام بأن يكتب لها عملاً سينمائيًا عن أهمية التطبيع مقابل المال الذي تعطيه إياه كما يحدده.. لكن «عندليب الصحافة المصرية» ثابت على مبدأه لا يغيره.. إسرائيل لا تعرف في رأيه إلا سلام القوة الذي يحقق مصلحتها وحدها.. ورفضه لعرضها المغري لضعاف النفوس كان صفعة لا ترد.
نهاية المتمرد لوجه الله والوطن
غابت دقات قلب محمود عوض في 28 أغسطس 2009، سقط وحيدًا في شقته التي تجاور العدو اللدود السفارة الإسرائيلية، فهو لم يصاحب بإرادته سوى القراءة والكتابة، لم يعرف سوى مبدأ «التمرد» الساعي لضرب الركود في مجتمعه حتى يتغير للأفضل.. مجتمع يراه مُفكرًا لا يتلقى كل ما يقال له على أنه حقيقة مسلمة لا تغيير فيها.
مبدأه في صفحات حياته يسير مع أبيات شاعرنا أمل دنقل الذي يقول: «يا إخوتي الذين يعبرون في الميدان مطرقين.. معلق أنا على مشانق الصباح وجبهتي بالموت محنية.. لأنني لم أكن أحنها حية».
ودع حياتنا التي عاشها متمردًا لوجه الله والوطن في خدمته بفكره.. لكنه قبل الرحيل اختتمها بالكتابة عن حرب الاستنزاف وهي «الحرب المستحيلة» كما وصفها في كتابه الأخير «اليوم السابع»، الذي خرج لنا بعد غياب جسده بثمانية أشهر، وكأنه يريد أن يقول لنا: «باق معكم في الحياة والممات».