Skyfall: «جيمس بوند» يَكبُر أخيرًا.. (مقال نَقدي)

كتب: محمد المصري الخميس 20-12-2012 16:34

الشُّعيرات البيضاء في ذقنه كانت واضحة في الكثير من المشاهد، يبدو أكثر هَشاشة من أي لحظة مَرَّت عليه في السلسلة من قبل، حَركته أبطأ، وقدراته أقل، ويبدو وراء خِصمه ببضع خَطوات في موقفٍ غير مُعتاد.


صُنَّاع «جيمس بوند» أدركوا للمرَّةِ الأولى، وبعد خَمسين عاماً من بداية السلسلة سينمائياً، أن عليهم الاعتراف بعُنْصُر «الزَّمَن»، وأن «007» يَجِب أن يَكْبُر كما كَبِرَ العالَم من حَوله.


«عندما تَسْقُط السماء وتَتَفَتَّت.. سَنَقف بشموخ لنواجه ذلك مَعَاً»:


النيَّة كانت واضحة لصُنعِ فيلم مُختلف في تِلك الذكرى، لذلك فقد وضعَ المنتجون أكبر ميزانية في تاريخ السلسلة، ومنحوا حريَّة أكبر كثيراً من ذي قبل في كِتابة قصة غير مُعتمدة على أصل أدبي من روايات «بوند»، والأهم من أي شيء كان جَلب المخرج «سام منديز»، الحاصل على جائزة الأوسكار عام 1999 عن فيلم «الجمال الأمريكي»، ليكون أول مخرج أوسكاري لفيلمِ «بوند»، وبدوره فقد بدا «منديز» واضحاً في رغبته أن يخلق شيئاً يَليق بالذكرى الخمسين وبعميل الاستخبارات الأشهر وبالتطوّر الكبير الذي خلفته أفلام الحركة في السنوات العشر الأخيرة، وبالنظر إلى الصورة التي خرج عليها Skyfall.. فقد نَجَحَ في ذلك إلى حدٍّ بعيد.


أعتقد أن النُّقطة الأهم التي أدت لنجاحِ «منديز» هي اعتماده على تيمة «الزَّمن» و«الوقت» في التعامل مع الجزء الثالث والعشرين من «بوند»: العالم الذي يتغيَّر، والأشخاص الذين يَكبرون، «منديز» يعلم أن العميل فائق الذكاء الذي كان مبهراً في الستينيات.. لم يعد كذلك في الألفية، العلاقات الدولية والسياسية تبدَّلت، وكل الحروب الباردة قد انتهت، الحصول على المعلومات أصبح صراعاً تكنولوجياً وليس جسدياً، العالم أصبح شيئاً مُختلفاً عما عَرِفه «بوند» حين كُتِب، والشريحة التي تستهدفها السلسلة صارت –بعد خمسين عاماً- أكثر خيالاً بكثير من ذي قبل، والسؤال الأصعب: كيف تُخرج فيلماً يَنتمي لروح وهويَّة «بوند» السينمائية وفي نفس الوقت يُراعي كل تلك التغيُّرات؟، إجابة «منديز» كانت في التصريح بكل هذا داخل فيلمه، ومُراعاة هذا«الزمن» في كل تفصيلة أثناء بنائه.


«دَع السَّمَاء تَنْهَر.. ضَع يَدَك في يَدِي وسَنَقف سويَّاً»:


«منديز» يبدأ الفيلم مما هو مُشترك في السلسلة: مَشهد مُطاردة طَويل وجيّد الصُّنع في «إسطنبول»، قبل أن يُنهيه بشكلٍ غير مُعتاد على الإطلاق: إصابة «بوند» برصاصة تُسقطه من أعلى قِطَار، تِلك هي المرة الأولى –على مدى ثلاثة وعشرين فيلماً- التي يُصاب فيها 007 برصاص!


التفصيلة تَبني مِنوال الفيلم بعد ذلك، «بوند» في Skyfall هو الطَّرف الأضعف من خِصمه في أغلب المراحل، يَبدو مُرهقاً ومُنهَكَاً بعد عودته من الإصابة، عَيناه المِحْمرّتان ويَده المُرتَعِشَة وجَسده الأقل تحمُّلاً من ذي قَبل، هي تفاصيل جعلته أكثر بشرية بكثير من صورة البطل الخارق التي صدَّرتها أغلب أفلام السلسلة، وبالتالي فقد كان أكثر قرباً من المشاهدين أنفسهم، شيئاً لامسه المخرج «مارتن كامبال» قبل ست سنوات في فيلم Casino Royal، ولكن «منديز» رَسَّخه تماماً هُنا.. «بوند» البشري بمعالِم نَقصه ونِقاط ضَعفه.


لاحقاً.. يَكتشف «بوند» صعوبة «العالم الجديد»، استخدام الكمبيوتر والاختراقات الإلكترونية هي المُرجحة لكفةِ الطَّرف الفائز، والخِصم نَفسه –كما تقول M في أحد أفضل مشاهد العَمَل- ليس أمَّة أو دولة واضحة، لقد صار الخِصم في الظل ومن الصعب مُواجهته، هواجس «منديز» وأفكاره يتم التصريح بها، وحين يتحرَّك نَحو نهاية يَنتصر فيها بَطله –ومن الحَتمي أن ينتصر في النهاية!- فإنه يَستدرج خصومه لقصرِه القديم في الريف الإسكتلندي، حيث «نَستطيع أن نتفوّق عليهم في زمننا» كما يقول لـ M.


في كل هذا يبدو «منديز» متأثراً كثيراً بـ«كريستوفر نولان» والثورة التي أحدثها بأفلامِ الحركة والأبطال الخارقين قبل أربع سنوات مع فيلم Dark Knight، خِصم «بوند» هنا هو صورة مُختلفة للـ«جوكر» يَجعل من البطل المُعتاد هو الطرف الأضعف، والفيلم يُحاول التأصيل لجنونه ورغباته الانتقامية، وهنا تحديداً تَكون المشكلة..   تبدو العلاقة المُعقّدة بين «سيلفا» و «M» نُقطة لم يتم التعامل معها بنُضجٍ كافٍ رغم أن الحَبكة كاملة مُعتمدة عليها، لا توجد تناقضات أخلاقية يَفرضها الموقف المُعقد للأطرافِ الثلاثة، لا توجَد مَلْحَميَّة حقيقية رغم تَوَفُّر كل مُقَوّمات ذلك، حتى مُحاولات الممثل الكبير «خافيير بارديم» خلق صورة مُرعبة وجُنونيَّة لـ«شرير بوند» لَم تَكُن كافية بسبب سَطحية بناء الشخصية من الأساس.


«سنبدأ من سقوطِ السَّماء.. حينما تَصْطَدِم بالأرض ويَنتهي العالم كما نَعرفه»*:


في مُقابل ذلك فإن هناك بناءً ذكياً فعلاً لـ«بوند» نفسه، في المرة الأولى التي نعرف فيها شيئاً عن ماضيه الذي حَوَّله للشخص الذي نراه منذ عقود، فيُصبح لـ«الزَّمن» و«الماضي» معنى، و«دانيال كريج» -في ثالث مشاركة له بالسلسلة- يؤكد قناعتي منذ شاهدته في Casino Royal أنه «أفضل بوند ظهر على الشاشة»، الأفضل حتى من «شون كونري».


مُجملاً، فإنَّ مغامرة «بوند» الأخيرة بدت أكثر عُمقاً من أي مما قدّمه سابقاً، وفيلم «أنيق» بفضل مخرج مُميّز كـ«سام منديز» ومُصوّر عَظيم كـ«روجر ديكنز» مَنَح الفيلم صبغة بصريّة مختلفة، تحديداً في مَشهد المواجهة في «شنغهاي» أو التتابع بروح «الويسترن» في النهاية، وحتى في تِلكَ اللحظة «العادية» جداً التي يَقَع فيها «بوند» مُتعباً أثناء التمارين: اللَّقطة تكون واسِعَة، هو فيها أشبَه بالظِل، يَسند ظَهره على الحائِط، ويَتْنِي قَدَمه قليلاً، فنَشْعُر بثِقل الزَّمَن على كَتفِه.



«أديل» للفيلم