استقبل الفلسطينيون الرئيس محمود عباس كرئيس دولة، وهو عائد بنجاحه في الحصول على صفة «دولة مراقب» لفلسطين فى الأمم المتحدة، مثلما استقبلت غزة خالد مشعل، رئيس المكتب السياسي لحركة «حماس»، استقبال الفاتحين بعد نفي من موطنه لأكثر من خمسة وأربعين عاما، لكن مع اختلاف الموقفين.
محمود عباس لأنه أصبح رئيس دولة، فإن المسؤولية عليه تضاعفت، وبات في انتظاره ليس فقط جمهور من المحتفلين بحصول فلسطين على صفة دولة مراقب، وإنما أيضًا ملفات ساخنة لمرحلة ما بعد الحصول على هذه المكانة القانونية والسياسية والدولية.
أبرز الملفات التي ستحتل أولوية في المرحلة المقبلة هي ملف المصالحة الوطنية، إذ سيشهد ملف المصالحة حراكا في الأيام القليلة القادمة، لكن ستكون جولات الحوار صعبة، بسبب المطالب الجديدة المتوقعة لحركة حماس بعد الحرب الأخيرة على قطاع غزة، ومنها تبني برنامج سياسي مقاوم.
ومن الملفات العاجلة أيضًا ملف المفاوضات مع إسرائيل الذي تطالب الإدارة الأمريكية بالعودة إليه، غير أن الرئيس عباس جدد تأكيده أنه لن يتفاوض مع إسرائيل من دون وقف الاستيطان، وهو الأمر المستبعد خصوصًا في هذه المرحلة التي تشهد فيها إسرائيل حملة انتخابية شرسة، استعدادًا للانتخابات العامة الشهر المقبل.
كذلك ينتظر الرئيس عباس الملف المالي خصوصا بعد تجميد المساعدات الأمريكية التي تصل إلى نصف بليون دولار سنويا، واحتمالات قيام إسرائيل بتجميد المستحقات الجمركية للسلطة التي تبلغ أكثر من مليون دولار شهريا.
وهناك ملفات قد تكون مؤجلة بالنسبة لأبو مازن الذي بدا واضحا أنه لا يستعجلها، مثل الذهاب إلى مواجهة مع إسرائيل في شأن الانضمام إلى المحكمة الجنائية الدولية، فقد أكد عباس لمقربين أنه لن يقاضي إسرائيل في الوقت الحالي إلا إذا مارست اعتداءات جديدة على الفلسطينيين.
غير أن الاعتراف بفلسطين كدولة مراقب يغير الكثير من المعطيات، ويؤسس لحقائق جديدة. فمثلا يدرس الرئيس عباس توصيات وضعها فريق من الخبراء تضم قائمة بأسماء المؤسسات الدولية التى يمكن لدولة فلسطين الانضمام إليها بما فيها المحكمة الجنائية الدولية، والتى يثير انضمام الفلسطينيين إليها كثيرًا من القلق فى إسرائيل، خشية مقاضاة عدد من كبار مسؤوليها بتهمة ارتكاب جرائم حرب. وتتضمن التوصيات أيضا تحويل جميع الممثليات الدبلوماسية إلى سفارات وتغيير ترويسة المعاملات الحكومية من «السلطة» إلى «دولة فلسطين»، وعدم السماح للجيش الإسرائيلي بالدخول إلى المدن، وتوفير حماية لحقول الزيتون والقرى من اعتداءات المستوطنين، وتغيير جوازات السفر الصادرة باسم السلطة إلى اسم الدولة الفلسطينية، لكن تظل هذه القرارات من المبكر البت فيها، غير أن اللجوء إليها سيكون ضروريا فى مرحلة لاحقة.
ويظل ملف المصالحة على رأس أولويات جدول أعمال الرئاسة فى رام الله فى المرحلة المقبلة، وهو الأمر الذى أكده عباس فى خطابه أمام الجماهير التى استقبلته وهو عائد من الأمم المتحدة، مثلما سيمثل خطاب خالد مشعل في غزة فى الذكرى الـ 25 لانطلاقة حماس السيناريو الذى تراه الحركة مناسبًا للمصالحة الوطنية.
وكان لافتًا أن «حماس» التي كانت تعارض ذهاب محمود عباس إلى الأمم المتحدة في البداية عادت ورحبت بالخطوة الفلسطينية. وبدت التحركات نحو المصالحة حثيثة، فهناك اجتماع للأمناء العامين للفصائل الفلسطينية سيعقد فى القاهرة خلال الأيام المقبلة برعاية القيادة المصرية لتنفيذ ما تم الاتفاق عليه سابقا خلال جلسات بحث أفق المصالحة، خاصة اتفاقي القاهرة والدوحة، وليس البدء فى جلسات حوار جديدة.
ويبدو الأمر أكثر مرونة الآن في ضوء انفراج ملف المعتقلين السياسيين الذى كان فى الماضى حجر عثرة فى طريق المصالحة، وهناك جهود تُبذل حاليا لترتيب لقاء بين أبو مازن ومشعل بشكل عاجل فى القاهرة، ربما يتأخر قليلا نظرًا للظروف الصعبة التي تمر بها مصر حاليًا.
لكن تبقى الأجواء الإيجابية التى تمهد لمزيد من الخطوات التصالحية هى الأبرز. فقد شهدت العلاقات بين حركتي فتح وحماس مؤخرا تحسنا لافتا عقب الحرب الأخيرة على غزة، إذ توقفت الاعتقالات المتبادلة وجرى إطلاق عدد من المعتقلين، وسمحت حكومة غزة المقالة بعودة سبعة عشر ناشطا ينتمون لحركة فتح فورًا من قطاع غزة فى أعقاب تفجر المواجهات بين الحركتين في يونيو عام 2007.
جهود المصالحة بين فتح وحماس تعثرت كثيرا على الرغم من عشرات المبادرات العربية والمحلية، علمًا بأن الانقسام الداخلى بدأ منتصف عام 2007، إثر سيطرة حماس على قطاع غزة بالقوة، لكن المشهد السياسي الآن آخذ في التغير بفعل عوامل داخلية وإقليمية عديدة. ومن هنا فإن ملف المصالحة يأتي على رأس الأولويات الفلسطينية، ذلك لوجود المناخ المواتي والأرضية المهيأة نسبيًا، كما أن الاتفاقات أيضًا جاهزة لكنها تحتاج إلى التنفيذ فقط. ومن ثم تأتي مرحلة إجراء الانتخابات الرئاسية والتشريعية إذا سارت الأحداث في سياقها المرسوم ولم يعكر صفوها طارئ ما.