كانت عقارب الساعة قد تجاوزت السادسة بدقائق قليلة من صباح يوم الأربعاء 14 أغسطس عندما حاصرت مجموعة من أنصار محافظ أسوان السابق، المنتمي لإحدى العائلات الجعفرية، مبنى محافظة أسوان اعتراضا على التعديل الوزارى ولمنع دخول المحافظ الجديد.
وسرعان ما تطورت الأحداث لتعلن شاشة قناة الجزيرة من داخل خيمة الاعتصام المؤيد للرئيس المعزول محمد مرسي المجاورة لمبنى المحافظة، عن فض اعتصامي «رابعة والنهضة» بالقوة فإذا بالأعداد تتوافد، والأحداث تتصاعد والطوب يشق طريقه لرؤوس رجال الشرطة، غاز كثيف ثم طلقات حية، قتيلان يسقطان في صفوف المعتصمين يلحق بهما ثالث، جرحى يسقطون بجوارهم لا يعلم أحد من أصيب ومن قُتِل، كل هذا وسط مجتمع قبلى ينقسم بين مؤيدين ومعارضين يشك كل منهم أن من سقط ولد عمومة وذو دم، يحاصر بينهم ما يزيد على الأربعين من عساكر الأمن المركزي، صغار وغرباء تنفد ذخيرتهم فى موضع لا يعرفون مداخله ومخارجه، وأمامهم ضباط يعرون ويسحلون. موقعة كبيرة ثم سبايا وغنائم في معرض مفتوح، كابات الشرطة، وملابسهم، وسلاحهم، وبالداخل كانت ساحة التعذيب والتشفي.
كان أحمد محمد، 31 عامًا، ينتظر أن تدق الساعة العاشرة صباحا لينهي ورديته التي امتدت طوال الليلة السابقة بمنشأة مواجهة لمبنى المحافظة.
يقول «أحمد»: «مع بداية فض الاعتصام بالنهضة ورابعة، وفي حوالي الساعة السادسة صباحا، تجمهر حوالي 150 شخصًا أمام باب العاملين بالمحافظة لمنعهم من الدخول، وهتفوا ضد المحافظ الجديد وطالبوا بإعادة المحافظ القديم المنتسب لإحدى العائلات الجعفرية بالمحافظة، وبعدها انضم لهم عدد من المعتصمين الموالين لمرسي بميدان المحطة بأسوان، وبعد انتشار أخبار فض اعتصام انصار مرسي بالقاهرة، زادت حدة الهتافات سبا في الجيش وتكفيرا في تمرد».
بدأت أعداد هائلة تفد من القرى والمراكز المحيطة بأسوان متوجهة إلى مبنى المحافظة وكان من بينهم سيدات «معهن أطفال وبعضهن حامل لجراكن لم ندر ما هى إلا وقت حريق سيارات الأمن المركزى الثمانية التى تفحمت أمام مبنى المحافظة بعد الهجوم على القوة الأمنية».
وفي تمام التاسعة تم اقتحام مبنى المحافظة وصعد أحد الشباب إلى المبنى ليعلق صورة ضخمة للرئيس المعزول محمد مرسي، وصاحت السيدات بالزغاريد، بينما علا صوت الرجال تهليلا وتكبيرا وبدأت الحشود تتوالى على مبنى المحافظة.
يتابع «أحمد» شهادته: أخذ مجندي الأمن المركزي المتواجدون لحماية المبنى منذ يوم 26 يوليو في ضرب القنابل المسيلة للدموع لصد المعتصمين وإبعادهم عن المبنى، ولكن المعتصمين استمروا في قذف قوات الأمن بالطوب وكسر الرخام الذين حصلوا عليه من تكسير الرصيف.
يضيف أحمد محمد أنه في الساعة الحادية عشرة بدأت عملية احتجاز وأسر العساكر والضباط، وضربهم بلا رحمة، «لو حرامي فى سوق الجمعة كان اترحم»، وكان ضمن المحتجزين الحاكمدار ونائبه ورئيس مباحث قسم أول المقدم أمير كامل، الذين قاموا بضربه بماسورة حديد فوق رأسه ثم تجريده من ملابسه وصفعه وركله وضربه بالأحذية على الوجه أثناء سحله إلى الخيمة، بالإضافة إلى حرق 8 سيارات أمن مركزي باستخدام المولوتوف الذي أعده المعتصمون باستخدام جراكن البنزين التي أحضرتها سيدات مؤيدات للرئيس المعزول صباح اليوم نفسه، وتم نهب جميع محتويات مبنى المحافظة من مراوح وتكييفات، حتى الأكشاك المجاورة نُهبت وكسرت، ويواصل أحمد محمد: «حتى أني رأيت أحد البلطجية يخرج سارقا عبوات البيبسى والشيبسى، لم يترك البلطجية الفرصة لينتهزوها إلا ونهبوا كل ما طالته أياديهم من عال أو رخيص».
صار المشهد كما يصفه شاهد العيان: سبعون من أفراد وضباط الأمن يحيط بهم أكثر من 3 آلاف معتصم ينتمي معظمهم للتيارات الإسلامية ويتخللهم مجموعة من البلطجية و«المسجلين خطر» الذين أتوا صباحا من عزبة «حجاج» المجاورة لكوم أمبو، مسقط النائب السابق محمد العمدة المقرب من جماعة الإخوان المسلمين.
وقال شهود عيان آخرون إن هؤلاء المسجلين يتعاونون مع النائب «قيد الاحتجاز حاليا» خلال وقت الانتخابات، بينما يرى «عبد الله»، 30 عامًا، بكالوريوس خدمة اجتماعية وأحد المعتدين على قسم الشرطة، وطلب ذكر اسمه الأول فقط، أن «ما حدث كان رد فعل على فعل الشرطة، لقد كنت موجودا من البداية رغم أني ضد مرسي ومع ثورة 30 يونيو إلا أني ذهبت لأن أحد أصدقائي المنتمين لجماعة الإخوان المسلمين اتصل بي صباح ذلك اليوم وطلب منى الحضور فذهبت وكان صديقي يريد تعليق صورة مرسي فوق مبنى المحافظة فصعدت معه خوفا عليه من الغاز الكثيف، وأغلقوا علينا بالسلاسل وبعد تعليق الصورة نزلنا. وكنت أظن أن الشرطة كانت ستضرب الغاز ثم الخرطوش ثم الحي كتدرج طبيعي ولكني فوجئت بالطلقات الحية ووقوع أكثر من 50 مصابا و3 قتلى، فأخذ كل من فى الاعتصام بالهجوم على رجال الشرطة، وإللى يلحق ضابط يأسره وإللى يلحق عسكري يسحله.. الناس كانت غضبانة».
ويقول «م. ع»، 25 عامًا، أحد أعضاء حركة تمرد بأسوان: «كنت مع مجموعة من حركة تمرد وبعض شباب الثورة بأسوان قررنا دخول الخيمة المقامة لاعتصام الإسلاميين بعدما علمنا بما حدث للضباط والعساكر، خاصة أن لنا أصدقاء من الإخوان وأقارب أدخلونا إلى الاعتصام، رأينا اللواء طارق زيدان مضروب فى رأسه بحجر وبينزف وخلعوا ملابسه وسرقوا سلاحه وربطوا يديه بالحبال ثم جروه إلى الخيمة، وكان من ضمن من يشرفون على ضربه بالخيمة الشيخ أحمد حازم نائب الشيخ خالد القوصى أمير الجماعة الإسلامية بأسوان».
تشير كل أصابع «الاتهام الشعبي»، وحسب مجموعة كبيرة من شهود العيان استمعت «المصري اليوم» لشهاداتهم، إلى أمير الجماعة الإسلامية بأسوان وأمين حزب البناء والتنمية بالمحافظة بأنه المتهم الأول والرأس المدبر لهذه العملية، ويقول «م. ع»: لم نر الشيخ خالد القوصي في الخيمة في بداية الأحداث، ولكن عندما دخلنا الخيمة سمعنا من بها يقول لن نخرج أحد من العساكر إلا بأمر من الأمير خالد، فرددت عليهم بثقة الأمير قال «طلعوا العساكر» وما إن هربنا اثنين أو ثلاثة من العساكر حتى وجدت الأمير خالد داخلا من الجهة المقابلة من الخيمة ليصرخ فيهم: «من قال لكم تخرجوا دول؟ دول اللي هيحموكم، دول الأمان لحد ماتخرجوا من هنا ماحدش يخرج حد، فخرجت أنا وزملائي لنختبئ بالخارج بسرعة».
سارع المعتصمون لمد حبل بجوار الخيمة، علقوا عليه أسلاب وغنائم المعركة من ملابس الضباط والعساكر وخوذاتهم وعصيهم، والتقط المعتصمون الصور التذكارية مع (كتافات) اللواءات والضباط، أما السلاح الميري للضباط والذى لم يعد حتى الآن لا يزال مجهول المصير.
ويدور حديث مشترك بين كل من حضر الواقعة من شهود عيان أو مصابين عن دكتور يدعى «موسى» يعمل بمستشفى أسوان العام، لم تكن وظيفة الطبيب المنتمي لأحد الأحزاب الإسلامية الكبرى هي علاج المصابين من أفراد الشرطة، بل كانت مهمته تتلخص في الإمساك بيد المتعرض للتعذيب وإخبار الإخوة إن كان نبضه يسمح باستكمال التعذيب أم نقله إلى الإسعاف قبل الوفاة.
يقول أحمد محمد: «كان الدكتور موسى يمسك بيد من يشك الرجال أنه قد يموت من شدة الضرب فيقول لهم، لسه فيه الروح ليكملوا. وكان اللواء طارق زيدان يخبرهم أن عنده القلب وأنه سوف يموت فأتى الدكتور موسى وأمسك بيده ليرى النبض ثم ضربه على قلبه بقدمه وقال له موت يا كلب».
وصلت الساعة الثالثة والنصف عصراً وكان معظم العساكر تم تهريبهم ولم يعد بالخيمة إلا بعض الضباط منهم «الأمير كامل» والعقيد محمد ممدوح «رئيس مكتب تنفيذ الأحكام»، والنقيب أحمد العرابى من مباحث أسوان والملازم أول محمد عبد الشافى أمن مركزى. لم يكن المعتصمون يريدون التخلى عنهم، خاصة أن حالتهم الصحية لم تكن حرجة، ولكن مجموعة من شباب الثورة بأسوان تدخلوا محتمين بأحد أعضاء الجبهة الشعبية بأسوان وهو مصطفى السيد الذى دخل إلى الخيمه بسلاح وشد أجزاءه وقال «إللى هيضرب هاصفيه حالا» وأمر الشباب بحمل الضباط إلى الإسعاف وخرجوا بهم.
«تحول قسم الشرطة إلى مستشفى ميدانى، وتبرع ممرض بإسعاف الحالات داخل القسم فور علمه بوجود مصابين به، وكانت الإسعاف داخلة - خارجة، أكثر من 40 عسكريا و18 ضابطا كانوا مصابين»، هكذا وصف الرائد مصطفى محمد وهبى - معاون ضبط بمركز شرطة أسوان- والذى قام بأخذ أقوال الضباط وأفراد الأمن المصابين بالمستشفى العسكرى بأسوان. يكمل وهبى حديثه: «كنا بين نارين، إننا نروح نفك أسر زملائنا وخايفين لو رحنا يقتلوهم بسببنا، 4 ساعات عشناها فى قلق شديد، وكانت الأوامر لنا بضرورة حراسة مركز الشرطة خوفا من الهجوم عليه وتهريب المحتجزين.
تلقى الرائد مصطفى وهبى اتصالا من هاتف اللواء طارق زيدان المصاب بجرح قطعى فى الرأس وكدمات وثقب كبير فى شفته العليا من إثر التعذيب، لكن صوت اللواء لم يأت من الطرف الآخر، وعوضا عنه جاء صوت شخص وجد هاتف اللواء ثم اتصل بالرائد مصطفى وهبى ليخبره: «الضباط هتتقتل جوه الخيمة».
أما عن الحالات الخطرة يقول عنها وهبى: «أصعب الحالات كانت حالة اللواء محمد عاطف شلبى الحاكمدار الذى كان مربوط العينين ووجهه كله متورم إثر ضربه ببلاطة ضخمة، بالإضافة إلى الإصابة الخطيرة لضابط الأمن المركزى ملازم أول عمرو شفيق الذى يعانى من اشتباه بكسر فى الجمجمة».
يى عبارة بمحضر أقوال أحد الضباط يقول «من كتر الضرب عملت نفسى ميت، وكنت بادعى ربنا لو هيموتونى بلاش الذبح يموتونى بسرعة بدون تعذيب، كانوا بيسألونا: من رئيسكم، ثم يضربونا بالأرجل لنقول مرسى.. كنت سامعهم لكن مش قادر أنطق، لا مرسى ولا سيسى، كان فيه أصوات بتقول اقتلوهم دول كفار، وأنا سامع بأذنى وشايف الساطور بعينى، لكن أصوات تانية ردت «إحنا مش كفار زيهم هنسيبهم يعيشوا بعاهاتهم».