«الإخوان» تتبنى «الأرض المحروقة».. والدولة ترد بـ«خطط ردع» (تحليل)

تبنت ميليشيات جماعة الإخوان المسلمين سياسة «الأرض المحروقة»، واعتمدت استراتيجية تفجير المواجهات الدامية فى مختلف محافظات الجمهورية، من الإسكندرية حتى أسوان، انتقاما من الدولة، منذ عزل الرئيس السابق محمد مرسى.

وبدت تفاوتات واضحة فى خريطة نقاط الاشتعال «Hot Shots»، مع تنويع مؤيدى الرئيس المعزول وميليشيات الجماعة تكتيكات المواجهة الميدانية مع أجهزة الشرطة، لانتزاع السيطرة على مسار الصراع.

يأتى ذلك، وسط توقعات بتصاعد كثافة العمليات الإرهابية فى شمال سيناء، من جانب الجماعات السلفية الجهادية، وتحول بعض محافظات الصعيد ومطروح إلى بؤر مستديمة للمواجهات الدامية، مع تصاعد أعمال العنف الطائفى، واستهداف القوات المسلحة والشرطة. والأكثر خطورة أن الجماعة الإسلامية قد تتجه إلى تبنى اتجاهات انفصالية، وإعلان بعض المحافظات خارج سيطرة الدولة.

وتمثلت التكتيكات التى انتهجتها الإخوان فى إرباك الحكومة، وبدا ذلك واضحا، عقب بدء عملية فض الاعتصامات، من خلال استهداف بعض المقار الرسمية فى محافظة القاهرة مثل الدور الأول فى مقر وزارة المالية، والعديد من المنشآت الحكومية مثل مبانى المحافظات وأجهزة الحكم المحلى، بل امتد ذلك إلى مكتبة الإسكندرية وعدة منشآت حكومية وخاصة.

من جانبها، بثت قطر وإيران وتركيا التى ارتبطت بمصالح محددة مع جماعة الإخوان، طوال فترة حكمها لمصر، على مدى العام الماضى، رسائل مسمومة، بعد أن كان إقصاء الجماعة عن العملية السياسية فى مصر بالنسبة لها بمثابة «الكابوس المرعب»، حيث يحمل ذلك تهديداً حقيقياً لمصالحها الرئيسية الوطنية، ليس فى مصر فقط، وإنما أيضاً فى الإقليم ككل، وهو ما قد يجعل محاولات مصر لاستعادة التوازن فى علاقاتها الإقليمية أمرا يصعب تحقيقه.

تشير متابعة ردود الفعل الإقليمية لعملية فض اعتصامى النهضة ورابعة العدوية إلى أنها صدرت فى وقت قياسى، عن ثلاث دول هى قطر وإيران وتركيا، وقد ارتبطت هذه الدول بمصالح محددة مع جماعة الأخوان المسلمين طوال فترة حكمها لمصر على مدى العام الماضى، إذ يعد إقصاء الجماعة عن العملية السياسية فى مصر بمثابة «الكابوس المرعب» بالنسبة لهذه الدول، حيث يحمل ذلك تهديداً حقيقياً لمصالحها الرئيسية الوطنية، ليس فى مصر فقط، وإنما أيضاً فى الإقليم ككل، وهو ما قد يجعل محاولات الدولة المصرية لاستعادة التوازن فى علاقاتها الإقليمية خلال الفترة المقبلة عملية أكثر صعوبة، لأن سياسة المعاداة والمحاور قد فُرضت عليها، ولم تعد تملك رفاهية الاختيار فى مسار تحالفاتها الإقليمية.

رسائل متقاطعة:

حملت مواقف تركيا وقطر وإيران عدداً من الرسائل للحكومة الانتقالية فى مصر وللمجتمع الدولى، والتى تقاطعت بدرجة ما، وذلك رغم اختلاف مصالح كل من هذه الدول، وتباين درجة ارتباطها بجماعة الإخوان المسلمين، فمن ناحية، ورغم أنه لم يصدر تصريح رسمى عن أى من القيادات القطرية، كما هو معتاد فى العلاقات الدولية، فإن ما نقلته وكالة الأنباء القطرية عن مصدر فى وزارة الخارجية، دون تحديد هويته، من تصريح، هو يستنكر التعامل الأمنى مع المعتصمين، وأن قطر «تتمنى على من بيده السلطة والقوة أن يمتنع عن الخيار الأمنى فى مواجهة اعتصامات وتظاهرات سلمية».

ويكشف عدم تحديد هوية المصدر عدم وجود رؤية واضحة لدى قطر حول كيفية التعامل مع ما يجرى فى مصر، ويمكن تفسير هذا التصريح فى إطار عملية «استباق» تهدف ربما إلى تقييد الخيارات المتاحة أمام القيادة الجديدة فى قطر، وعلى نحو يوفر الغطاء السياسى لتغطية قناة الجزيرة غير المهنية للأحداث فى مصر.

ومن ناحية ثانية، اتجه بيان وزارة الخارجية الإيرانية إلى وصف ما يجرى فى مصر بأنه «مجزرة» تهدد بنشوب «حرب أهلية»، وتستدعى التصريحات التى صدرت عن القيادات الإيرانية بعد عزل الرئيس السابق محمد مرسى، والتى نددت بعملية العزل. ويشير حرص إيران على التعبير عن موقفها من فض الاعتصام فى وقت قياسى، مقارنة بغيرها من الدول التى تحتفظ بعلاقات أقوى مع مصر، إلى حجم الخسارة التى تستشعرها إيران بعد عزل مرسى، والتى قد تتفاقم فى حال انتهت عملية فض الاعتصام بعزل الإخوان عن العملية السياسية.

ويعنى ذلك أن «نافذة الفرصة» التى خلقها وصول الإخوان للسلطة فى مصر، فيما يتعلق بتنشيط العلاقات بين مصر وإيران، لن تكون مفتوحة، خاصة أن الحكومة الانتقالية فى مصر ليس من أولوياتها تنشيط العلاقات مع إيران، على خلاف حكومة مرسى، وحرصاً أيضاً على عدم إغضاب الحكومات الخليجية التى بادرت بإرسال حزمة من المساعدات الاقتصادية بعد سقوط حكم الإخوان، فى حين كانت هذه النافذة هى المتنفس المحتمل لإيران من عملية الحصار والعزلة التى فرضت عليها نتيجة برنامجها النووى.

ويعد الموقف التركى هو الموقف الأكثر تطرفاً، حيث حذر الرئيس التركى عبدالله جول من تحول الوضع فى مصر إلى «نزاع مماثل لما يحدث فى سوريا». إلى جانب ذلك، طالب رئيس الوزراء التركى، رجب طيب أردوغان، بتدخل عربى عبر الجامعة العربية، ودولى من خلال مجلس الأمن فى الأمم المتحدة من أجل وقف «المذبحة» فى مصر، على حد تقديره.

ويعبر خطاب أردوغان عن محاولة أخرى لهز شرعية الحكومة الانتقالية فى مصر وتقويضها، خاصة بعد أن تجنب المجتمع الدولى وصف ما جرى فى مصر بأنه «انقلاب» على نحو ما تريد تركيا.

وهذا الموقف التركى الرافض للاعتراف بشرعية الحكومة الانتقالية فى مصر، والمنحاز بصورة واضحة لجماعة الإخوان، ناتج عن حجم الخسائر التى تتوقعها تركيا فيما يتعلق بدورها الإقليمى، حيث كان إخوان مصر «حصان رهان» لتركيا، يضمن لها نفوذاً فى الشرق الأوسط تتفاوض من خلاله مع الاتحاد الأوروبى على عضويتها.

وتجدر الإشارة إلى أن تنديد تركيا وإيران باتباع الأسلوب الأمنى فى فض الاعتصام لا يستند إلى اعتبارات «قيمية» تؤمنان بها، حيث لم تتورعا عن استخدام العنف فى فض مظاهرات واعتصامات تعرضتا لها فى السنوات القليلة الماضية، وفى إطار عملية تم التكتم على تفاصيلها وملاحقة الإعلاميين الذين قاموا بتغطيتها، وكشف تفاصيلها، وهذا الوضع مغاير لعملية فض الاعتصام التى اتبعتها الحكومة المصرية، والتى تعد غير مسبوقة من حيث سماحها لوسائل الإعلام العربية والغربية بتغطيتها فضلاً عن الاستماع لرؤى المنظمات الحقوقية بشأن عمليات الفض المتبعة فى الديمقراطيات المستقرة.

ثلاث دلالات رئيسية:

تكشف مواقف الدول الثلاث عن دلالات مفيدة فى فهم حجم التحديات التى ستواجهها الحكومة الانتقالية فى مصر خلال الفترة المقبلة، تتمثل الأولى فى أن تدخل هذه القوى فى الشأن الداخلى المصرى، والذى ارتبط بفترة حكم الإخوان المسلمين لمصر، لن يكون من السهل على الحكومة الانتقالية وضع حد له، كما أن هدف هذه القوى الرئيسى خلال المرحلة الحالية هو الحفاظ على وجود سياسى ما للإخوان فى العملية السياسية فى مصر، وتجنب اقصائها الكلى. ورغم اختلاف الاستراتيجيات التى يمكن أن تتبعها هذه الدول الثلاث فى تحقيق هذه الغاية إلا أن ذلك لا يستبعد احتمال وجود تنسيق ما بينها.

وتجدر الإشارة إلى أن خيوط العلاقة بين تركيا وإخوان مصر اتضحت خلال الفترة الماضية فى توفير دعم إعلامى، وسياسى، ومالى للجماعة، لكنها لا تزال قيد التشكل فى حالة إيران، وهناك تقييمات بأن إيران قد تتجه للتعامل مع جماعة الإخوان، بعد استقرار الوضع فى مصر، على أنها قوى مشابهة للقوى الشيعية فى البحرين، بما يستتبع ذلك من دعم إعلامى لتحركهم.

وفيما يتعلق بقطر فإنه من الواضح أن النخبة الجديدة فى قطر، على الأقل استناداً للتصريحات المعلنة، لاتزال ترى فى استمرار دعمها للإخوان المسلمين فى مصر مصلحة محددة، ولعل هذا يفسر مشاركة وزير الخارجية القطرى أثناء زيارته للقاهرة مؤخراً فى محاولات الوساطة الدبلوماسية.

وتتعلق الدلالة الثانية بأن الحكومة الانتقالية فى مصر ستظل تواجه مشكلة فى التعامل مع هذه الدول فى الإقليم، فضلاً عن الدول التى يحكمها الإخوان المسلمون والتى تحفظت ابتداءً على عزل الرئيس مرسى، والتى من المتوقع أن تتبنى موقفاً من عملية فض الاعتصام، طالما لم يتم تمثيل الإخوان فى السلطة، وهو ما سيدفع بالحكومة المصرية لاستبدال التحالف الإخوانى مع تركيا وقطر والذى استقر فى عهد محمد مرسى بالتحالف «المدنى» مع الدول الخليجية فى الإمارات والسعودية والكويت، ما قد يعنى محدودية النشاط الإقليمى لمصر خلال الفترة المقبلة، خاصة أن هذه الدول الثلاث تسعى إلى «شيطنة» الحكومة الانتقالية، من خلال تحميلها مسؤولية الوضع الحالى فى مصر، وفى ذلك تغافل عن الجهود التى بذلتها الحكومة المصرية من أجل الحل السلمى للأزمة من خلال المفاوضات مع الوفد الرباعى للإخوان المسلمين، والتى شارك فيها وزير خارجية قطر كما سبقت الإشارة.

وتتمثل الدلالة الثالثة فى أن تأثير هذه القوى الثلاث لن تقف حدوده عند حدود الإقليم، بل ستسعى لتوظيف علاقاتها الدولية، خاصة فى حالة تركيا، وربما قطر، من أجل الضغط على الحكومة الانتقالية فى مصر، من أجل تغيير سياستها تجاه الإخوان المسلمين، واستبعاد خيار إقصائها كلية من العملية السياسية، وذلك من خلال استراتيجية «استدعاء الحرب فى سوريا»، وهذا ما نجده فى الموقفين الإيرانى والتركى، فرغم تباين سياساتهما تجاه ما يجرى فى سوريا إلا أن الوضع فى مصر يمثل نقطة التقاء جديدة بينهما، حيث تتحدث إيران عن حرب أهلية فى مصر، وتتحدث تركيا عن ضرورة تدخل الجامعة العربية ومجلس الأمن الدولى من أجل حماية الإخوان المسلمين.

إن حجم الاهتمام الإقليمى، والدولى أيضاً، بعملية فض اعتصامى النهضة ورابعة العدوية ناتج عن أنها ليست عملية أمنية داخلية، بل لها أبعاد إقليمية ودولية، ليس بسبب أهمية مصر الاستراتيجية فقط بل لارتباط عملية الفض بأقدم «لاعب إقليمى من دون الدولة» فى المنطقة، وهو جماعة الإخوان المسلمين، التى احتفظت بأفرع لها فى معظم دول المنطقة، وتحولت كذلك إلى أداة للسياسة الخارجية للعديد من الدول فى الإقليم، حيث سيترتب على نتائج هذه العملية إعادة ترتيب أوراق اللعبة فى منطقة الشرق الأوسط.