مع اقتراب منتصف الليل كانت الشوارع خالية تماماً من المارة، تصادف مرور أى شخصين فى الشارع يعنى حالة من الترقب والحذر تصيب الاثنين، لا أثر للحياة فى الشوارع الرئيسية سوى أضواء الأعمدة الرفيعة العالية على جنبات طريق كورنيش المعادى، بينما يدفع ظلام المداخل الخالية فيه إلى المجهول، عدا مقابلة لجنة شعبية قد تخفف بعض العزلة التى يشعر بها من ينزل الشارع أحياناً، وأحياناً أخرى تصيبه بهلع لعدم وجود صلاحية لمن يقف فى الشارع غير أنه قد يكون «ابنا للمنطقة التى يقف بها».
ما إن أصدر الدكتور حازم الببلاوى، رئيس مجلس الوزراء، قراراً بإعلان حظر التجول فى محافظة القاهرة وعدد من المحافظات الأخرى من السابعة مساءً حتى السادسة من صباح اليوم التالى يوم الأربعاء على خلفية فض قوات الشرطة اعتصام أنصار جماعة الإخوان؛ إلا وتطوع عدد من أهالى المناطق والأحياء بتشكيل لجان شعبية لتأمين الشوارع السكنية المحيطة بهم.
على طريق كورنيش المعادى بمنطقة مصر القديمة كان موعد «المصرى اليوم» مع أحد الكمائن الشعبية التى انتشرت على الكورنيش أمام المداخل المؤدية لمنطقة مصر القديمة، لكنهم تراجعوا قليلاً إلى الجلوس على أطراف الشارع لتأمين المنطقة الداخلية، بعد مرور سيارات الشرطة العسكرية والشرطة المدنية وإصدار التعليمات للمواطنين فى اللجان بعدم الوقوف فى منتصف الشوارع وإلغاء اللجان الشعبية التى ينصبونها، وذلك بعد الحوادث التى تداولها عدد من المواطنين عن نصب بعض البلطجية عدداً من اللجان فى أماكن متفرقة لأخذ إتاوات لتسهيل مرور السيارات.
«شهدت بعض اللجان الشعبية محاولات سرقة أكثر من سيارة على طريق الكورنيش»، بحسب «حسام» أحد المراهقين الذين وقفوا أمام حارة خوخة بمنطقة مصر القديمة على كورنيش المعادى الذى يقول: «امبارح كنا واقفين بنأمن المنطقة وطريق الكورنيش من السيارات خوفاً من نقل السلاح، أو أن يحاول أحدهم إشعال الأمور، لكن الشرطة العسكرية قدمت إلينا وطلبت عدم الوقوف فى منتصف الطريق والسماح لنا بالوقوف أمام البيت لتأمين الشارع فقط، ووعدتنا بأنها ستكون مكلفة بالتأمين».
بين الطريق الفاصل بين منطقتى المعادى وقصر العينى تنتشر 5 أو 6 أكمنة شعبية، زادها فى التأمين الحجارة والكاوتش وعدد من الكراسى والكلاب البوليسية، بالإضافة إلى الأسلحة محلية الصنع كمسدسات الخرطوش و«المقاريط» يقول أحد الشباب. ويوضح: «لكن الرصاص ده مش بنستخدمه ومش شايلينه معانا».
تنظم اللجان الشعبية نفسها على فترات، اكتسبوا الخبرة عقب الـ 18 يوماً التى قضوها فى الشوارع لتأمين المناطق السكنية التابعة لهم، حيث تقسم اللجنة إلى ورديات، كل وردية من 15 أو 20 شخصاً، أغلبهم مراهقون تحت سن العشرين، يتناوب أفراد الحراسة الاطلاع على أوراق السيارات ووسائل المواصلات.
لم يبالِ سمير عامر بأوامر الشرطة بالتخلى عن اللجان الشعبية: «التأمين اللى احنا عاملينه لأننا وصلنا لدرجة احمى نفسك بنفسك». يشتكى سمير من تكرار حوادث السرقة التى حدثت فى محيط الطريق الدائرى الخميس، يروى شهادات لسيارات تعرضت للسرقة وكاد يقتل صاحبها على الطريق الدائرى، لذلك أصر على الوقوف فى اللجنة رغم مرور الشرطة كل ربع ساعة بدورية، بحسب قوله. يلتقط أحد الشباب أطراف الحديث، محاولاً تذكير سمير بما فعلته جماعة الإخوان المسلمين معهم، فيقاطعه سمير قائلاً إن الإخوان طلبوا منهم أكثر من مرة أن ينضموا لهم فى الاحتجاجات التى كانوا ينظمونها كما عرضوا عليهم مساعدات مالية ودعماً فى عمل اللجان الشعبية، يبتسم «طارق» أحد الأفراد المكلفين بتأمين اللجنة الشعبية، مبرزاً مطواة من جيبه وهو يقول: «قلتلهم اللى هيقرب من مصر القديمة هعوره».
انخفاض الحركة فى الشوارع يدفع أفراد الكمين إلى محاولات التسلية التى لا يخلو منها كمين، لكن اللعبة الأشهر هى كرة القدم للاستفادة من الأماكن الخالية فى الشوارع وقلة مرور السيارات.
القاهرة فى الحظر: استجابة واسعة للقرار.. والمقاهى تفتح أبوابها
بعد الساعة العاشرة، تغير القاهرة من ملامحها تدريجيا حتى اللحظات الأولى من صباح اليوم التالى، تتبدل الشوارع التى كانت تتكدس فيها وسائل المواصلات كل يوم وزحام المارة إلى مدينة أشبه بمدينة الأشباح، لا أحد فيها ولا صوت يعلو فوق صوت حفيف الهواء بعد أن تمر سيارة تتجاوز سرعتها الحد المألوف فى تلك الساعات.
«المصرى اليوم» رصدت فى جولة ليلية شوارع العاصمة تحت الحظر الذى يبدو أن المصريين استجابوا له للمرة الأولى فى معظم الأحياء، وعدم الالتزام به فى مناطق أخرى بعد إعلان الدكتور حازم الببلاوى، رئيس مجلس الوزراء، قرار حظر التجول فى نطاق عدد من المحافظات. فى شارع أبوالفدا، أحد الشوارع المتفرعة من شارع 26 يوليو بحى الزمالك تبدلت أحوال المقاهى والكافيهات التى كانت تنتشر بطول الشارع واعتادت على السهر طوال الليل خاصة فى موسم الصيف، حيث أغلفت أبوابها بعد الساعة التاسعة مساء، عدا أحد المقاهى فى أحد الشوارع المتفرعة من شارع البرازيل، لكنه لم يشهد رواجا كما كان عليه الحال فى أوقات مشابهة.
ثلاث طاولات فقط فى الشارع، أحدها جلس عليها شابان فى صمت، والأخرى عليها 5 أشخاص زوجان وصديقهما فى منتصف العشرينات، طارق عزالدين، صيدلى، ومحمد عبدالله، مهندس، وهناء محيى الدين مهندسة، وإنجى عبدالوهاب صيدلانية، ومحمد عمر، محام، جميعهم يسكنون بين حى الدقى والمهندسين.
يقول طارق عزالدين عن الحظر «إن السؤال لا يوجه لنا، بل أولى أن يوجه لأصحاب الكافيهات التى لم تلتزم بحظر التجوال»، مضيفا أنه لا يعترف بقرار حظر التجوال من سلطة غير شرعية انقلبت على أول رئيس عقب ثورة اختاره الشعب بإرادته عبر صناديق الانتخابات، بالإضافة إلى أنه خاض تلك التجربة من قبل وأدرك جيدا أن الشعب لن يستجب لها، لو السلطة عاوزه تفرض الحظر بجد كانت هتقفل الكافيهات كلها».
التقطت «هناء» أطراف الحديث بالانتقال من الكلام فى السياسة إلى الشكوى من حال الشوارع بعد فرض حظر التجوال والتى أشعرتها بأن البلد أصبح أشبه بساحات الحرب التى يصيبها الهدوء الحذر بعد المعركة، ملقية اللوم على الشرطة التى فرضت حظر التجوال وسمحت لمواطنين لا يملكون أى صلاحية باستيقاف السيارات ويتصرفون وكأنهم فى السلطة، مدعين أنهم لجان شعبية، لكنها فى الحقيقة لجان لترهيب المواطنين من التجول فى الشوارع أكثر من تأمينهم.
لم تخف الأسرتان الصغيرتان نزولهما إلى اعتصام رابعة العدوية، يقولون إنهم عارضوا سياسة الرئيس المعزول محمد مرسى لكن نزولهم جاء كدعم إنسانى لحق مواطنين التعبير عن آرائهم عن طريق حق التظاهر.
على طاولة جانبية، كان يجلس أربعة شباب لا تتجاوز أعمارهم العشرين يلعبون الكوتشينة، عمرو كامل، ويوسف سمير، وألفريد جورج، والرابع رفض ذكر اسمه، لم يجدوا حرجا من النزول والجلوس على المقهى باعتبار اثنين منهم يسكنان الزمالك، أما الآخران فيسكنان منطقة المهندسين، برروا نزولهم بأنهم توقعوا أن حظر التجوال الذى فرضته السلطة سيكون أشبه بحظر التجوال الذى حدث عقب ثورة 25 يناير بعد أحداث جمعة الغضب، لكنهم تفاجأوا باحترام المواطنين ساعات الحظر ولذلك فإنهم يفضلون السهر فى منطقتهم السكنية، مؤكدين أن الاستجابة للحظر هذه المرة أكبر بكثير من الحظر فى 28 يناير 2011.
لا تتساوى المناطق وبعضها فى استجابتها إلى الحظر، فبعيدا عن منطقى الزمالك الملتزمة تماما بالحظر، يتغير الحال فى منطقة عابدين أحد المناطق التى تتشابك بها الطبقة الوسطى مع الطبقات الشعبية إلا أن الحركة فى الشارع تبدو أقل بكثير من المعتاد مقارنة بنفس الأوقات فى الأيام العادية. تتبدل الصورة كثيرا فى شارع محمد فريد، أحد شوارع حى عابدين، حيث لم يلتزم عدد كبير من أهالى منطقة بقرار حظر التجوال، فالناصية التى تتقاطع مع شارع الشيخ ريحان يوجد بها ثلاثة مقاه متجاورة لا تبالى بحظر التجوال الذى فرض، بينما تضىء أمامها أنوار أحد المطاعم الشهيرة بالمنطقة فاتحة أبوابها للمترددين عليها، يفترش الجالسون على المقهى الكراسى على الأرصفة الموازية لمحال المقاهى.
يقول على محمد على، موظف بالقطاع العام: «صحيح الناس فى الشارع، لكن الحركة خفت كتير عن قبل الحظر». يقاطعه هشام عثمان، صاحب شركة كمبيوتر:«أغلبية أهل عابدين عارفين بعض، والغريب هنا بيتعرف بسرعة». يوافق بلال قاسم، مدير إنتاج على قرار الحظر الذى فرضته الحكومة، رغم عدم التزامه به: «الحظر أفضل عشان يبقى فيه حد للفوضى وحرق البلد اللى داير الأيام دى»، بينما يبرر جلوسه على المقهى بعد منتصف الليل مشيرا بيديه إلى الجالسين قائلا: «كل اللى قاعدين هنا نعرفهم لو مش بالاسم يبقى بالشكل، والمنطقة هنا متأمنة أكتر من أى منطقة تانية لما تتسم به من طابع شعبى، لكن الشعور بالأمان زاد أكثر بعد أن فرضت الشرطة العسكرية كمائن فى محيط دائرة عابدين وعدد من المناطق المجاورة كالسيدة زينب، وهى الخطوة التى خففت علينا تكوين لجان شعبية فى المنطقة».
حالة مقارنة بدأها على محمد بين حظر التجوال الذى فرض فى تلك الأحداث والحظر الذى فرض إبان جمعة الغضب، يشعر على أن الشوارع الآن بدت أكثر أمانا رغم خلوها من المارة، بخلاف عدم احترام الحظر فى المرة الأولى مع انتشار الترويع فى الشوارع، مرجعا السبب إلى أن فلول الحزب الوطنى فى 18 يوما كانوا يسيطرون على اللجان الشعبية لترهيب المواطنين من الخروج، أما الآن ففلول الوطنى ليس لهم تأثير على أحد ونعتمد على الشرطة فى تأميننا بعدما طالبتنا بعدم تكوين لجان شعبية ووعدتنا أنها ستكلف بتأمين المنطقة.
بامتداد الشارع يتجلى حظر التجوال فى إصابة المنطقة التجارية التى يتوسطها سوق للفاكهة وكثير من المطاعم الشعبية يظهر، يتجلى فى الركود الكبير فى حركة البيع والشراء، بحسب جمال رشيد، بائع الفاكهة، الذى تتأثر لديه حركة البيع بعد السابعة مساء مقارنة بالأيام الماضية.