بالقرب من بوابة الاعتصام، الذى تحول إلى ما يشبه «بيوت الأشباح»، تحول التمثال المصنوع من الجرانيت الوردى، الذى يبلغ ارتفاعه سبعة أمتار، وعرضه ثمانية عند القاعدة، ويرمز لمصر الحديثة، ويصور امرأة واقفة تنظر للأمام بملابس الفلاحة المصرية، وتلمس بأصابعها رأس تمثال أبو الهول، الذى يفرد قائمتيه الأماميتين فى تعبير عن النهوض، إلى موقع لإلقاء القمامة، بعد أن كتب عليه بطريقة الرش بـ«الإسبراى»، عبارة «مرسى رئيسى»، وحوله المعتصمون إلى موقع لتعليق اللافتات والصور الداعمة للرئيس المعزول.
بهذه المشاهد يواصل أنصار الرئيس المعزول محمد مرسى اعتصامهم بميدان نهضة مصر لليوم الواحد والثلاثين على التوالى، بعد ساعات من التظاهرات التى قام بها الألف وسموها (مليونية النصر) للمطالبة بعودة الرئيس المعزول محمد مرسى للحكم.
عرف «الإسلاميون» الطريق للميدان الذى يحتضن تمثال نهضة مصر للراحل محمود مختار، وتطل عليه أبواب منارة علمية عريقة، هى جامعة القاهرة، عندما كانوا يخوضون معركة كتابة دستور 2012 المعطل، إذ أقاموا هناك مليونية «الشريعة والشرعية»، فى أول ديسمبر الماضى، قبل أن يعودوا إليه مرة أخرى بعد سقوط الرئيس المعزول مرسى.
كثف المعتصمون من إجراءات التأمين، تحسبا لأى هجوم على الميدان، عقب إعلان وزارة الداخلية، منذ أسبوع، عن اعتزامها فض الاعتصام خلال أيام، تنفيذا لقرار مجلس الوزراء، الذى جدده رئيس الوزراء حازم الببلاوى، بتصريحه منذ أيام: «إن الحكومة المصرية ماضية فى فض اعتصامى رابعة العدوية والنهضة»، الأمر الذى دفع المعتصمين لمضاعفة عدد رجال الحراسة الواقفين فى مداخل الاعتصام.
آلة المنجنيق لقذف الحجارة هى أول ما يمر عليه الداخل إلى الميدان بعد تجاوز نقاط التفتيش بالقرب من كوبرى الجامعة، التى يقف عليها سبعة رجال للحراسة والتأمين، ارتدى جميعهم الخوذ والدروع، وحملوا العصى فى أيديهم، للتلويح بها تجاه المارين من الأفراد والعربات، للوقوف للتفتيش.
«المنجنيق ده لصد أى محاولات للبلطجية، أو قوات الشرطة لاقتحام الميدان بالقوة، والفكرة جتلنا من فيلم الناصر صلاح الدين الأيوبى، لما كان بيحارب اليهود».. بهذه الكلمات، وقف أحد الشيوخ يشرح للمتظاهرين القادمين للميدان الهدف من عمل المنجنيق بعدما سماه «غزوة بين السرايات»، التى قام بها بلطجية بحماية الشرطة- على حد وصفة- راح ضحيتها العديد من المعتصمين.
الآلة التى ترتكز فكرة عملها على قوائم خشبية، فيما توجد ذراع طويلة يتم تثبيت قصعة عليها، توضع بداخلها الحجارة، ويتم إفلات الذراع لتطلق الحجارة فى المكان المراد، قال عنها الشيخ نفسه عندما أشاد بها أحد المتظاهرين القادمين من رابعة، وهو يشير إلى رغبته فى نقلها إلى ميدان رابعة العدوية: «الفكرة قابلة لتنفيذ فى جميع المداخل والمخارج فى جميع ميادين الحرية، لصد محاولة فض الاعتصام بالقوة العسكرية، فالحاجة تولد الاختراع».
«جدد النية».. كلمات كتبت بشكل يدوى غير منتظم، على مصدات مصنوعة من الصاج المقوى، لرد الرصاص، والخرطوش، والحجارة، أثناء محاولات فض الاعتصام، وتقوم المصدات الحديدية على 4 قوائم، وقام المعتصمون بتغليفها بصاج قوى من جانب واحد، وتحملها عجلات تسمح بسحبها وجرها خلال معارك الكر والفر المنتظر حدوثها فى الأيام القادمة، وتعد المصدات هى التطور الطبيعى للصاج العادى الذى يستخدمه المعتصمون فى الاحتماء ورائه من الحجارة والخرطوش، التى يطلقها عليهم «البلطجية، أعداء الدين»- على حد وصفهم- لكن من عيوبه أنه يمثل صعوبة فى سحبه إلى أماكن الاشتباكات.
قلة عدد المعتصمين فى ميدان النهضة نسبيا بالمقارنة باعتصام رابعة، انعكست على تميز الخدمات المعيشية، حيث توافر شاشات العرض، والتليفزيونات داخل الخيام القريبة من حديقة الأورمان، التى انتهى بعض المعتصمين، منذ قليل، من إنشاء عدد من دورات المياه الجديدة داخلها لتلبية الأعداد المتزايدة من «مؤيدى الشرعية»، وشملت الحمامات الجديدة التى كتب المتظاهرون عليها W. C على 12 حماما، بالإضافة إلى العديد من حنفيات الوضوء، وقال أحد القائمين على إنشاء الحمامات الجديد وسط تكبير الشيوخ: «إنها تسحب مياها من طلمبة جوفية قمنا بدقها استعدادا لإقدام حكومة الببلاوى على قطع المياه عن حديقة الأورمان»، أيضا قام المعتصمون بجلب خزانات ضخمة لتخزين المياه فيها، تحسبا لقطع المياه عليهم.
الميدان الواقع بين حديقتى الحيوان والأورمان جعل الأخيرة محل تخريب مستمر من المعتصمين، الذين قاموا بتكسير سور الحديقة واختراقه واستخدام أوراق النباتات النادرة فيه، لأغراض التهوية، والجلوس عليها، أو وضعها بعد تطبيقها تحت الرأس، للنوم عليها.
على بعد خطوات من جراج كلية الهندسة بجامعة القاهرة، التى أغلق المعتصمون أبوابها بألواح كبيرة من الخشب، وكتبوا عليها «مغلق لحين عودة الرئيس»، قبل أن يقوموا بتحويل الجراج الذى سيطر عليه المعتصمون بالكامل، لمكان لنصب الخيام، جلست مجموعة من الشباب، يتوسطهم شيخ مسن، أكل الدهر على وجهه وشرب، ليحدثهم عن «ثواب الاستشهاد فى سبيل الله دفاعا عن الوطن، والشرعية، وتذكيرهم بالغزوات التى قام بها الرسول، وتشبيه الاعتصام فى الميدان بالرباط إلى يوم القيامة».
الشباب الجالسون حول الشيخ، الذى ابيضت لحيته، لم يكونوا متجاوبين مع حديثه عن «ثواب الشهادة، والتحذير من التراجع والتخاذل»، وقام أحدهم بتحويل مجرى الحديث إلى الخبر المتعلق بقصف طائرة، لم يكن يعرف حينها مصدرها، لموقع على الحدود المصرية- الإسرائيلية، والذى انتشر فى الاعتصام كالنار فى الهشيم، وتداوله المتظاهرون بكل رواياته.
وقال: «مش عارف ليه عندى إحساس إن حادث اختراق طائرة إسرائيلية دون طيار للحدود المصرية، وقتل جهاديين بحجة محاربة الإرهاب، أعتقد أنه أسلوب أمريكى- صهيونى انقلابى لشغل الرأى العام عن الحدث الأعظم والأهم فى هذه الأيام، وهو فض اعتصامى النهضة ورابعة، خصوصا بعد يومى العيد، وما حدث فيهما من حشود وملاهٍ ومفاجآت، استشعر الانقلابيون الخطر»، يقاطعه الشاب الجالس بجواره، ويضيف له: «اللى حصل ده محاولة دفاع مستميتة من السيسى لكسب تعاطف المصريين بضرورة التوحد ضد العدو، ومن ثم الدعوة لفض الاعتصامات للوقوف ضد العدو، وإن لم يفض مؤيدو الشرعية الاعتصام سيتهمنا الإعلام بالخيانة وعدم تقديم مصلحة الوطن على المصالح الشخصية فى هذه الظروف العصيبة».
يحاول الرجل العودة للحديث مرة أخرى، موجها كلامه للشباب، وسط تحذيرات المعتصمين، من استخدام القوة لتفريقهم، قائلا: «نحن عازمون ومصممون على السلمية والصمود، وأعتقد أن الانقلابيين وحلفاءهم يدبرون لنا أمرا جلل الله أعلم به، ولكن علينا بالدعاء وقراءة القرآن، والعودة لقصص وسير الأولين للاستفادة منها»، بينما كان الشباب ينفضون من حوله للذهاب إلى المنصة التى كانت تعلن عن حضور نجل الرئيس المعزول أسامة للحديث إلى المعتصمين.
تركزت كلمة نجل الرئيس المعزول على ضرورة الثبات باعتصام رابعة العدوية، والنهضة قائلا: «إننا جمعيا نسير وراء د. مرسى، الرمز، وليس الشخص، وإن قتل سنكمل الطريق وستكون دماؤه وقودا لتلك الثورة».
وأضاف وسط هتافات المتظاهرين: «اختطاف الرئيس مرسى هو تكرار لما فعله مبارك مع أبى قبل جمعة الغضب، ظنا منه أن هذا سيوقف الزخم الثورى، وهكذا ظنوا حينما اختطفوا الرئيس المنتخب قبل أن يقوموا بالانقلاب الدموى».
واختتم أسامة كلمته، التى لم تستغرق سوى دقائق قليلة بسبب الخوف من القبض عليه- كما فسر أحد المتظاهرين لصديقه- قائلا للمعتصمين: «إننا نتعلم الصبر من صبركم، والعزم من اعتصامكم»، الأمر الذى كان له بالغ الأثر على المعتصمين الذين رددوا هتفا: «راجع راجع»، فى إشارة إلى عودة الرئيس الشرعى محمد مرسى إلى منصبه، و«ارحل يا سيسى مرسى هوا رئيسى».
«أجمل عيد فى حياتنا»، أغنية جديدة قام أحد المعتصمين بغنائها بعد انتهاء كلمة نجل المعزول، وردد المتظاهرون، الذين حفظوا الأغنية من كثرة ترديدها منذ صلاة العيد قائلين: «أجمل عيد فى حياتنا.. فى ميدان حريتنا، ثورة وفرحة وعزم حديد.. رغم الضرب ورغم الموت، وزعنا كحك وبسكوت.. كل سنة وإحنا ثورا، والمرسى رئيس الأحرار»، وتدخل متظاهر آخر لإكمال الأغنية بصوت عالٍ وسط حلقة من الرقص لشباب رابطة ألتراس نهضاوى، بمشاركة بعض الأطفال قائلا: «بكرة يا سيسى هتكون عبرة إنتا والجزار بشار، قلت هيمشوا فى رمضان، قامت الثورة بقت بركنا، قاعدين بدل السنة سنتين، على قلبك يا جبان».
ووزعت اللجان الشعبية، التى تؤمن اعتصام النهضة، كتيبا على المعتصمين، عنوانه «الرئيس المظلوم»، بتوقيع الدكتور محمود غزلان، المتحدث الرسمى باسم جماعة الإخوان، أحد قياداتها البارزين.
يتحدث الكتاب عما يصفه بـ«المؤامرة التى شارك فيها العلمانيون وبعض السياسيين، خاصة قادة جبهة الإنقاذ»، على من يعتبره الرئيس الشرعى محمد مرسى، بقصد إفشاله وإنهاء حكمه بمعاونة القادة العسكريين وبعض قادة الشرطة الذين وصفهم بالانقلابيين بدعم من الولايات المتحدة وبأموال الخليج التى كانت تتدفق عليهم، وعلى رأسها: المملكة العربية السعودية، لإنهاء الحكم الديمقراطى الذى كان يؤسس له محمد مرسى.
وعدّد الكتاب ما وصفه بالإنجازات التى حققها مرسى، خلال سنة من حكم البلاد، ومنها: إنهاء حكم العسكر، وتأسيس الدولة المدنية، والسعى للاكتفاء الذاتى من القمح والنهضة الصناعية والتجارية.