فى أكتوبر 1995 تعرض الروائى العالمى نجيب محفوظ لمحاولة اغتيال، عن طريق طعنة فى عنقه على يد شابين، بسبب روايته المثيرة للجدل «أولاد حارتنا»، وباستجوابهما بعد القبض عليهما عن أسباب إقدامهما على هذه الخطوة، قال أحدهما: «لأنه كافر».
فقال له المحقق: ولماذا تراه كافرا؟
الشاب: بسبب ما ورد فى روايته «أولاد حارتنا».
المحقق: هل قرأتها؟
الشاب: أنا لا أقرأ ولا أكتب.
مجرد كلمة قالها أحد الشيوخ دفعت هذا الشاب لاغتيال محفوظ الذى ظل أعداء إبداعه يوصمونه بـ«الكفر»، فى حين أنه ابن الطبقة الوسطى والحى الشعبي، إذ تربى فى رحاب حى الأولياء الصالحين والتحق بالكتاب وفهم الإسلام ربما أفضل بكثير ممن يتشدقون به ليل نهار، ولعلنا نقف على هذه النوازع الإيمانية وفهمه للدين فى مقال له بعنوان «الصيام طاعة ومحبة لله»، كتبه فى شهر رمضان فى السادس من أبريل 1957 فى جريدة الجمهورية عن جوانب من فلسفة الصيام، وقدم المقال الذى ننشره كاملا رؤية منهجية وعميقة لمعنى الإيمان وجوهر الإسلام، وكان نصه كالتالى:
«قالوا لى فى حكمة الصيام إنه فرض على المؤمنين ليخبروا فى أنفسهم آلام الجوع فتنعطف قلوبهم نحو الفقراء وأنه وسيلة تربوية لشحذ الإرادة واعتياد الصبر وأنه سبيل إلى تهذيب نوازع النفس وتطهير الروح، كل هذا حق، غير أن المؤمن لايقبل على الصيام لداعٍ من هذه الدواعى بقدر ما يقبل عليه طاعة لله ومحبة فيه، وهو يجد فى هذا السعادة دون تعليل أو تأويل، وطاعة الله ومحبته تقتضيان واجبات روحية لعلها أخطر من الصيام نفسه، ولكن الصيام تذكرة لمن شاء أن يوجه ضميره نحو هذه الواجبات لتأملها والعمل على تحقيقها فليكن لنا من شهر الصوم فرصة طيبة لمراجعة النفس فى سلوكها حيال الحياة والناس على ضوء مبادئ الدين الخالدة.
فأول هذه المبادئ التوحيد أو تحرير الروح من عبادة أى شىء أو أى شخص، فلا نعبد إلا الله وما قدم للبشر من دستور للخير والتقدم ومن هذه المبادئ روح التضامن فى المجتمع الإنسانى التى جعلت للفقير حقا فى مال الغنى معالجة بذلك الفقر ومشكلاته وعواقبه مع مراعاة ما يوسع به «الاجتهاد» على المؤمن المفكر من إيجاد الحلول الجديدة فى الظروف الاجتماعية الجديدة.
ومنها الدعوة الحقة إلى الأخوة الإنسانية دون تفرقة بين أسود وأبيض أو أصفر وأسمر إلا بالإيمان بالله والإنسان ومنها التسامح الدينى الذى جعل من بلاد الإسلام فى العصور المظلمة الموطن الوحيد الذى لايلقى فيه الإنسان اضطهادًا، بسبب عقيدته الدينية.
وأخيرا وليس آخرا، مبدأ الجهاد فى سبيل الحق الذى يدعو المسلم للعمل على تحقيق هذه المبادئ بما فى وسعه من قوة القلب واللسان أو اليد وعلى ضوء هذه المبادئ ينبغى لنا أن نحاسب أنفسنا وأن نسائلها عن موقفنا الحقيقى من الدين الذى نؤمن به والله الذى نعبده».
انتهى مقال محفوظ الذى يدفعنا للسؤال ماذا لو كان منطق رجال الدين، بل ومنطق المسلمين جميعا هو ذلك المنطق الإيمانى العميق والمعنى بجوهر وحقيقة الإسلام ، ربما لما حاربوا بعضهم البعض وتناحروا فى سبيل عرض من الدنيا، والقارئ للمقال سيكتشف أن الصيام ليس اختزالا لمعاناة الجوع إحساسا بالفقراء، وإنما لمراجعة فكرة الإيمان والعودة لصحيح الدين والوصول للفلسفة الحقيقية للصيام باعتباره ذهدًا فى متاع الدنيا وتهذيبًا للنوازع السيئة للنفس البشرية بل والإيمان بحق الآخر المختلف فى اللون والعقيدة واللسان.