بشكل قاطع، يرفض سائق السيارة المستأجرة الاقتراب من محيط قسم ثالث العريش، يبدأ رفضه بابتسامة ساخرة من الرغبة فى الاقتراب، تتطور إلى رفض عنيف بعد الإلحاح عليه: «أنا مش مستغنى عن عمرى ولا عن العربية.. هو أنا مجنون أوصلكم القسم». فى زمن مضى، كان البعض يخاف من قسم الشرطة، الآن وحصريا فى شمال سيناء، الجميع يخاف من الاقتراب من قسم الشرطة، ومعه معظم النقاط الأمنية فى شمال سيناء، لا خوفا منه، بل خوفا من مهاجميه.
ترفض أى سيارة يقودها «عاقل» الاقتراب من دائرة محيطها حوالى 500 متر حول قسم ثالث العريش، خاصة بعد الإفطار، القسم الذى يهاجم بشكل شبه يومى، يقع وسط حى سكنى، ويطل على شارع عرضه حوالى 20 مترا، يضع تشكيلات تغطى القسم من الجهات الأربع: شمالا وجنوبا وشرقا وغربا، ولكن هذا لم يمنع مسلحين مجهولين من قذفه فى اليوم السابق بصاروخ آر بى جى من الجهة الشرقية، وبعدها بقليل أمطروه برصاص من الجهة الغربية ومن الشمال، يرغمك سكون الشارع وأنت تقطع المسافة المتبقية فى طريقك إلى القسم على النظر يمينا ويسارا، تعبر حواجز حجرية صنعها الأهالى لتنبيه السيارات بعدم المرور من أمام القسم، تبدأ بعدها ملامح القسم فى الظهور، مبنى من دورين يحيط به سور عالٍ، ويحيط بالسور أربع مدرعات، لا تسمع صوت الجنود الكامنين فوقها إلا بعد عبور حواجز معدنية وضعتها قوات القسم نفسه لتحذير السيارات من العبور أمامه.
مضطرا، كلما اقتربت خطواتك من القسم للصراخ بصوت عالٍ «صحافة»، حتى لا يشك أحد أعضاء الحراسة فى أمرك، وبعد خطوات تنتبه إلى أن الصراخ لا يكفى، فترفع يديك لأعلى، وعندما تقترب بالشكل اللازم، يخرج من خلف إحدى المدرعات عدد من الجنود، مرتدين السترات الواقية من الرصاص، كل منهم يحمل «آليا» لتفحصك، وإبداء الدهشة «إيه اللى جابك هنا».
يسلمك الجنود إلى الضباط، والضباط إلى المأمور، أنت والدهشة، من وجودك ومن الطلب الذى يهرب منه كثيرون، فلا يوجد «عاقل» يطلب قضاء الليل فى قسم شرطة يهاجم يوميا بالصواريخ والرصاص، وتبدأ المفاوضات والاتصالات بمقر الجريدة ومديرية الأمن ومبنى الوزارة فى القاهرة، وبعد ساعة تأتى الموافقة، بالتزامن مع بداية الجميع، جنودا وضباطا، فى نشاط وإخلاص غريبين فى الاستعداد لـ«الحفلة اليومية»، المصطلح الذى يطلقه الجميع على «الهجوم على القسم».
بمجرد العبور من باب القسم، يتغير المناخ، الصمت والهواء الذى لا يتحرك يتحولان داخل القسم إلى دعابات مستمرة، وأجواء أسرية فرضتها حالة الحرب، يدخل الجميع فى حكايات ونقاشات بداية «مرسى معاه الشرعية.. وكان المفروض يكمل الأربع سنين» وصولا لـ«مين هيخرج يجيب الشاى والسكر»، يلزمنا أحد الضباط بارتداء سترات واقية للرصاص، وعدم الحركة كثيرا داخل القسم، وينبه «أول ما الحفلة تبدأ، هتقعدوا عند المأمور ومحدش هيتحرك.. دى أرواح ناس، ومحدش هيبقى فاضى ياخد باله منكم». الجميع يرتدى زيا مدنيا، ولكن «التى شيرت» الأحمر، الذى يرتديه الأمين أحمد حسانين وابتسامته، ميزاه عن الجميع، يبرر عدم حمله السلاح «ذراعى مريض ولا أستطيع حمل سلاح، ورغم أن الجميع طالبنى بالرحيل إلى القاهرة، لكن رفضت، وقلت لنفسى، أكيد زمايلى هيحسوا بالمسؤولية أكتر لما ما أرضاش أمشى وأسيبهم»، يبتسم ويكمل «مش معنى كده إنى مابعملش حاجة، أنا ماسك المراقبة»، ويشير بمنظار حديث يمسكه فى يده اليمنى ويضيف «ده منظار حديث بيخلى الليل نهار، فرحنا لما وصل من الوزارة».
[wysiwyg_field contenteditable="false" wf_deltas="0" wf_field="field_gallery" wf_formatter="nodereference_views_formatter_views" wf_cache="1375062928" wf_nid="1989196"]
لا يفارق العسكرى مكانه متمسكاً بسلاحه ويتلو الشهادة بين الحين والآخر بمعنويات مرتفعة وبيقين النصر. يتذكر تامر، فرد أمن من الغربية، كيف قتل أيمن حسونة بجواره على سطح القسم عندما قنصه أحد المهاجمين. يقسم تامر بأنه لن يغادر القسم أبدا وسيأخذ حق زميله الشهيد، يبدى تامر انزعاجه من فكرة أنه فقط ينتظر الإرهابيين حتى يرد عليهم فيقول «المفروض نكون بره بنمشط الشارع ماينفعش نقف هنا مستنيين يضربونا» ويضيف: «بصراحة فى قيادات كتير هنا فى سينا المفروض تتغير وإحنا مقدمناش غير إننا ننفذ التعليمات».
الوقت يمر بطيئا نحو نصف الليل، والجميع يسألون بشكل ما عن الحفلة «تفتكر هتبقى كام ساعة النهاردة؟»، «الحفلة الليلة دى هتكون إيه.. رصاص ولا صواريخ؟»، بينما يجلس الشرطى عبداللطيف أحمد وسط دائرة من زملائه فى الحراسة محللا ما حدث فى آخر هجوم تعرض له القسم، يشير يمين القسم إلى إحدى البنايات السكنية التى تبتعد حوالى 100 متر قائلا «جاءت القذيفة من هنا، وبعدها توالى إطلاق الرصاص واستمر حتى بعد أذان الفجر، ومع طلوع النهار عرفنا إن الضرب وقف» يبتسم ويكمل «اتعودوا فى الفترة الأخيرة إنهم يضربوا بالليل عشان الطائرات ماتكشفهمش، بس إحنا بنرد عليهم بالعقل لما نعرف مكانهم، مش عايزين نعمل مشاكل مع الأهالى».
كانت الساعة قد بلغت العاشرة والنصف تقريبا، انتشرت أربعة تشكيلات حول قسم شرطة ثالث العريش، انتظارا لما سيحمله الليل، انتصبت مدرعتان أمام واجهته، صعد على كل منها عسكرى يراقب حركة الشارع من حوله وعدد من البنايات البعيدة، وفرقتان توزعتا على جانبى القسم وخلفه، يترقبون المساحات الخالية أمامهم من خلف الأجولة الرملية، وقوة أخرى على السطح تمشط المنطقة، وقليلا ما تذهب قوات تأمين من أعلى المبانى المجاورة لتمشط الأسطح، بينما يجلس عدد من أفراد القسم على عتبة بابه لأخذ قسط من الراحة لتناوب الحراسة مع القوات الخارجية، يشير أحدهم للقميص الواقى الذى يرتديه شارحا الأماكن التى يؤمنها بجسده والأماكن التى لا يستطيع تغطيتها من الرصاص «هنا ممكن تموت وهنا لا».
يجلس العميد إبراهيم بدران، مأمور القسم فى مكتبه، ومعه عدد من الضباط، يشير بيده اليمنى، التى تحمل مسبحة، لأحد العاملين ويتحدث معه عن أجولة من خامات البناء، سيستخدمونها لتعلية السور المحيط بالقسم والسور الذى فوق سطحه، يسأل«بدران» فرد الأمن عن كيفية ذهابه، وينبه عليه ألا يأخذ سيارة الشرطة، فيتدخل الملازم سعيد فى الحديث، ويبادر بالرغبة فى الذهاب مع فرد الأمن، ينظر له المأمور مليا قبل أن يقول له «خبى الطبنجة.. وخلى بالك»، يبتسم الملازم ويعدل من ملابسه ليخفى الطبنجة، ويسير إلى الخارج فى سعادة، يبتسم المأمور «رغم إن حتى الشاى والسكر بقى صعب نجيبهم من بره، بس القسم كله قرر يدافع عن المكان بشرف وإخلاص، وكل عسكرى وأمين وضابط عارفين واجبهم كويس، ومبسوطين وهما بيعملوه».
قبل الساعة الثانية عشرة بأكثر من 20 دقيقة، يصل إلى القسم صوت إطلاق رصاص، تبدأ حركة سريعة كل متر، يرفض الضباط صعودنا إلى سطح القسم غاضبين، وتبدأ أربعة تشكيلات فى اتخاذ مراكزها، ويتحرك آخرون بذخيرة وأسلحة «آلى» محلية الصنع فى التداول بين أيدى الضباط، وأجهزة اللاسلكى تعطى إشارات وإفادات، الجميع يتحرك لاماكنه فى إخلاص شديد، والمأمور يبدأ فى إجراء مكالمات، وبعد دقائق تأتى إفادة بأن إطلاق النيران فى مكان آخر، فيلتزم الجميع بمكانه فى التشكيلات، وينتظر الحفلة.
القسم الذى أعيد افتتاحه فى مارس 2012، بمشاركة شيوخ القبائل، ويتلقى يوميا منذ 30 يونيو الماضى، هجمات يومية من مسلحين مجهولين، بدا فى تلك اللحظات، منفصلا عن المدينة، رغم هدوئها الطبيعى فى تلك الساعة، فإن القسم بدا أكثر صخبا، همهمات بآيات قرآنية، وأكثر من مسبحة فى يد الأفراد، واليد الأخرى تقبض على سلاح مشهر فى الفراغ، فلا أحد يعلم من أين يأتى هجوم «حفلة» الليلة.
فى مكتبه البسيط، يتحدث رئيس مباحث القسم أسامة العطار مع زملائه، امتعاض واضح من الأوامر برد الهجوم على القسم فقط، وإشارات إلى انهيار شبكة المعلومات الخاصة بالجهاز الأمنى منذ يناير الماضى، ولكن حماس وإخلاص واضحين يلخصهما الأمين أحمد عندما يفهم خطأ سؤالا عن إخلاء المساكن حول القسم لتيسير المهمة، فيرد بغضب «على جثتنا، مش هنخلى القسم تانى.. على جثتنا»، يسأل أحد الضباط رئيس المباحث عن واقعة احتجاز محمد الظواهرى قبل يومين من انتهاء مهلة الأسبوع للفريق السيسى، فيروى الحكاية: يوم 28 يونيو ذهبت مع قوة لمنزل فلسطينى إقامته منتهية، وعندما وصلنا، شاهدنا رجل بجلباب أبيض فى البيت المجاور، فجرى ودخل المنزل، وأغلق الباب» يكمل أحد ضباط المباحث الرواية «تراجعنا قليلا قبل أن نحاصر المنزل وندق الباب، فجاءنا الرد من وراء الباب «مين وعايزين إيه؟»، وبعد مفاوضات فتح محمد الظواهرى شقيق أيمن الظواهرى، عقل تنظيم القاعدة، الباب، وطلبنا منه الذهاب إلى مديرية الأمن، فوافق، وقبل الوصول لمبنى المديرية، جاءتنا تعليمات من رئاسة الجمهورية منقولة عبر الوزارة، بأن نعيد الرجل إلى شقته»، يتساءل أحد الضباط الموجودين «يا ترى محمد الظواهرى كان موجودا هنا فى الوقت ده بالصدفة؟».
عصر يوم 18 يوليو، أطلقت سيارة مارة يستقلها 4 مسلحين الرصاص على القسم، فقتلت محمود حنفى «23 سنة» بطلق نارى بالرقبة، يقول عبداللطيف «حاولنا أن ننقل الشرطى إلى المستشفى العسكرى لنسعفه، لكنه مات قبل ما نوصل». بمجرد سماع دوى انفجار أو إطلاق رصاص على القسم، تحلق الطائرات هليكوبتر فوق الاشتباكات، يبتسم أحمد حسنين ويقول «كانت هتضرب على زمايلنا المرة اللى فاتت، وصلتنا إشارة للقسم وقالت إنها وجدت مجهولين على العمارة وقالت أعدادهم ومكانهم، وقالت إنها ستتعامل معهم»، تتسع ابتسامته «الضابط بعتلها إشارة وقالها لا، دول رجالتنا اللى بيمشطوا الأسطح».
قبل الفجر بأكثر من ساعة، تبدأ الأعصاب فى الهدوء، وتبدأ أحاديث جانبية عن مرور اليوم دون حفلة فى الانتشار، بينما يمر أحد المجندين يوزع عليهم السحور، كل جندى وضابط له علبة، مطبوع عليها شعار وزارة الداخلية وداخلها «كيس شيبسى ورغيف عيش وقطعة صغيرة من البسبوبة وخيارة» وتبدأ حلقات فى التشكل، حول العلب البيضاء، ونقاشات دافئة ساخرة عن الدعم الذى تقدمه لهم الوزارة تبدأ فى الصعود قبل أذان الفجر.
سرد وقائع موت معلن لـ«عسكري» في نهاية حي الصفاء بالعريش، تنتصب بيوت صغيرة أغلبها من الطوب الأحمر، مغطاة بطبقة رقيقة من الأسمنت، يحاوطها خط من الأشجار ووسط الشارع، بدا المنزل مهجورًا، أبوابه ونوافذه موصدة بأقفال ضخمة، هاجر أهله منذ أسبوع، الزوجة والأولاد الأربعة، بعد يوم واحد من مقتل رب الأسرة محمد قطب جاد، عسكري بقسم ثانٍ العريش، أمام البيت بأمتار معدودة، أثناء عودته من عمله الثاني كمنجد.. «المصري اليوم» ترصد شهادات 3 شهود عيان للواقعة. الشهادة الأولى: جارة القتيل أمام منزله ينتصب منزل صغير من الطوب الأسمنتي، تخرج منه سامية، تعمل موظفة في الصحة، تقول: «استيقظت على قدوم ابني وهو يقول لي (أبو إسلام) اتضرب... أنا مش متأكد إنه هو بس إحنا ناخد رقمه من زوجته ونتصل بيه ونشوفه». ذهب ابنها لجارتهم زوجة محمد قطب، حصل منها على الرقم دون إخبارها بشيء، وحاولا الاتصال به، تقول سامية: «حاولنا الاتصال به، لكن تليفونه كان مغلقًا، بعدها جاء طفل صغير يجري ومعه رجل كبير وأخبرنا وزوجته أن سيارة أطلقت على محمد قطب الرصاص، وطبعًا اتأكدنا إن هو اللي اتضرب». تصمت قليلًا وتفكر في إضافة شيء: «أدي كل الحكاية، ومن ساعتها البيت اتقفل، ما كده يعتبر البيت خرب، مراته روّحت خلاص، هتقعد تعمل إيه هنا». تعود سامية إلى البدايات: «جاءوا هنا من حوالي 10 سنين، الأول مكانوش ساكنين هنا»، تشير إلى المنزلين المتقابلين، وتقول: «إحنا بنينا البيتين دول مع بعض». تتمتم: «والله كان محترم وفي حياته ما أذى أحد أبدًا، كان شغال في محل تنجيد بالليل، وبيطلع الصبح شغل الحكومة». الشهادة الثانية: صاحب محل الفاكهة يجلس ناصر أمام دكانه البسيط لبيع الخضراوات والفواكه، الذي وقعت قبله بأمتار الحادثة، وهو يراقب حركة المارة يمينًا ويسارًا قبل أن يلتفت ويقول: «وحتى لو حد شاف الحادثة، محدش هيتكلم، الموضوع ده ممكن يجيبلنا مشاكل». الموضوع كله حصل في أقل من 5 دقائق، أنهينا صلاة التراويح وقعدنا شوية أمام الدكان، كانت الشوارع مظلمة لضعف الكهرباء في الحي، سمعنا صوت ضرب نار من هذا الاتجاه، طلعنا نجري على المكان لقينا عربية ملاكي فيها ملثمين بتضرب نار والراجل بيقع على الأرض وواخد أربع رصاصات». يتردد ناصر، قبل أن يكمل: «ملحقتش أدقق في نوع العربية، لكنها كانت عربية ملاكي.. بعدها شيلناه على عربية نقل واتصلنا بالإسعاف، عقبال ما وصلت وذهبت به إلى المستشفى كان مات». يبيع ناصر بعض الفاكهة، قبل أن يعود ليكمل: «الراجل كان مروح بيته والعربية كانت واقفة مستنياه هنا، وقابلته وش في وش.. إحنا مولودين وعايشين طول عمرنا في الحي ده، أول مره تحصل حادثة بالشكل ده، الناس إمبارح كانت مفزوعة من ضرب النار، الأيام دي بقى كل يوم بيموت 5 أو 6 أنفار». الشهادة الثالثة: «الميكانيكي» يجلس إسماعيل أمام ورشته الصغيرة، معلقًا على أبوابها عددًا من قطع غيار السيارات والكاوتش، ويشير أمامه مباشرة: «الواقعة حدثت هنا على مسافة مترين تقريبًا»، يستغفر الله ويدعو لقطب بالرحمة قبل أن يكمل: «كان هنا، ماشي جنب العتبة وجاءت عربية أكسنت، يقودها أربعة أنفار، اتنين منهم من صف واحد مطلعين بنادق وأول ما قربوا منه ضربوا عليه». يصمت إسماعيل قليلًا، ويحاول استرجاع المشهد: «مكانش شكلهم باين، الشبابيك كانت سوداء واللي كانوا مخرجين البنادق شيوخ لابسين شال». يصمت لثوان، تمر طويلة قبل أن يخفت صوته، ويقول: «هما معروفين عندنا بس الناس خايفة تتكلم.. كان شكله جايب سحور معاه ومروح، وقع وهما فضلوا يغربلوا فيه، واحدة في قلبه وواحدة في صدره، كان قاعد يتنطط في الأرض». |