زينة وسحور وصلوات وربابة فى رحاب «الحسين»

كتب: صفاء صالح الإثنين 15-07-2013 15:20

ما إن تنتهى صلاة التراويح فى مسجد الحسين، حتى تبدأ حياة جديدة فى الحى العتيق، تستمر حتى صلاة الفجر من كل يوم رمضانى، طقوس تعودت أسر وأفراد عليها منذ سنوات، السحور فى رحاب الحسين له مذاقه الخاص، أجواء لا يجدها أحد إلا هنا، أمام مسجد الحسين وفى جواره، هنا أطفال تجمعوا على حب العزيز، والفول السودانى، والحمص، وحلاوة زمان. بائعو العرائس افترشوا الأسفلت أمام المسجد، فتيات اصطففن أمام دلايات تباع بها كل الأسماء، بائع البلالين يعبر البشر بحثا عن ضالته من الأطفال المصاحبين لذويهم، فتيات صغيرات وقفن مشدوهات أمام عباءات صغيرة من الترتر و«طواقى» من الخرز، سوبيا، وتمرهندى، وعرقسوس، هنا رمضان المصرى.

ما إن تصل الباحة الواسعة أمام مسجد الحسين حتى يأتيك صوته مناديا الرجال: «سبح سبح يا عم الحاج»، ونداء آخر للنساء: «يا حلو سبح يا حلو طل»، يقف بطاقيته الصوف الملونة، رغم مظهره المتعلم، وكلمات الإنجليزية، التى تتطاير من لسانه بطلاقة، بحكم عمله السابق كمحاسب فى شركات استثمارية قبل الثورة، يطلق على نفسه لقب «المعلم سلطان الحسينى»، تتدلى سبح الكريستال الصينى من عنقه وذراعيه وكفيه، لكل منطقة مقاساتها، ولكل مقاس لونه وثمنه، يسطع صوته بهذا النداء، فهو ينادى على بضاعته عقب صلاة التراويح، وحتى مطلع الفجر.

وما إن يتجاوز الزائر بائع السبح، حتى يجد مجموعة من المطاعم تصطف أسفل العمارات المجاورة للمسجد، يدلف زوار المكان داخل الباحة، فتقع أعينهم أول ما تقع على لافتة تقول: «هنا فقط الدهان القديم»، أمام مطعم الدهان القديم الذى تصطف بجواره مطاعم الدهان، وحاتى الأمل، والحرم الحسينى، والمالكى، والشبراوى، وأمام كل مطعم مجموعة ضخمة من الكراسى، التى شغلت مساحة كبيرة من باحة الشارع المتسع، وبين هذه الكراسى يتبارى صبية المطاعم فى دعوة الزوار للدخول، ويتفقون على عبارة واحدة: «سحور يا باشا، اتفضلى يا مدام»، يشير أحمد إبراهيم، عامل بالحرم الحسينى، بإحدى يديه للزوار بالجلوس، وفى اليد الأخرى يحمل قائمتى طعام إحداهما «منيو الكباب»، والأخرى «منيو الفول والطعمية»، فلكل قائمة زبائنها.

وعلى الموائد لاحت وجوه متنوعة، معظمها من الطبقة المتوسطة، وتنطلق من إحدى الموائد كلمات «الإخوان»، و«مرسى»، و«الجيش»، وها هو حامد محمد، مبلط سيراميك، يطوف على الموائد بصور لوزير الدفاع، الفريق أول عبدالفتاح السيسى: «الصورة بـ3 جنيه، دى يدوب تكلفتها، دى مش شغلتى، أنا عملت كده علشان بحب الراجل ده بس»، هكذا يقول حامد للزبائن الذين يريدون شراء الصور منه، أو تصويره وهو يحمل الصور مرتديا «تى شيرت» مكتوبا عليه «تمرد».

بين الموائد يمشى صابر محمود القناوى (14 سنة) بجلباب فضفاض، وعمة صغيرة بيضاء، وعلى كتفه الربابة، يبدأ بالعزف عليها، ثم يتمنع عن العزف برهة، حتى تأتيه دعوة أحد الزبائن له لكى يعزف على مائدته، مع بدايات موعد السحور، فى الثانية عشرة مساء، يأتى حاملا ربابته متجولا بزيه الصعيدى، يرجع الفضل فى فنه لجده، الذى علمه العزف على الربابة، متباهيا بذلك الجد قائلا: «جدى محمود ابن خالة الريس متقال، لا يعزف إلا للأمراء العرب»، معلنا عن ثمن بضاعته، فالعزف لنصف ساعة بـ100 جنيه للعرب، وللمصريين «اللى يدفعوه 50، 40 جنيه مش مشكلة».

على الرصيف المقابل، توجد نصبة شاى «الحاجة كريمة» التى فرشت الحصير على الرصيف بجوار نصبتها. الحاجة كريمة سيدة فى الخمسين من العمر، تقول: «هنا كافيتريا الناس الغلابة، مريدو سيدى الحسين اللى على قد حالهم، بيتسحروا على عربية الفول اللى جنب المسجد، وييجوا يحبسوا عندى بكوباية شاى، اللى معاه 2 جنيه ماشى، جنيه واحد ماشى، ما معكش برضه تشرب، اللى فيها لله ما بتغرقش».

وفوق حصير صغير ملون يجلس عادل الجندى، موظف فى نادى بهتيم، ومعه نفر من أصدقائه، ينتظرون كوب الشاى من يد الحاجة كريمة، وبهذا الكوب سيستطيعون الجلوس حتى يفتح المسجد أبوابه لصلاة الفجر، يقول «عادل»: «نحن من مريدى الحسين، لازم نيجى نتسحر مرة أو اتنين فى الأسبوع، وبنخلص التراويح ونقعد هنا، ولما ييجى وقت السحور نشترى فول وطعمية وبطاطس من على العربية، وناكل ونيجى نشرب الشاى، هنا الكل صاحى للفجر، هنا مصر مابتنامشى».

على آخر الرصيف، شاركت مجموعة من الأسر السودانية بعض البسطاء من المصريين حبهم للحسين، مجموعة أخرى من الفتيات عند بائع الطبل والطرابيش، إحداهن تقيس طربوشا، بينما تمسك الثانية بطبلة، تخبط عليها، ثم تقول للصبى البائع: «عاوزة واحدة بتعمل توق توق كويس»،

وأمام المسجد جلست أسر ريفية فى انتظار فتح الأبواب وزيارة السيد، سيدة أربعينية سمينة افترشت الأرض، وراحت فى نوم عميق، رغم كل هذا الزخم حولها مغطية جسدها ببطانية خفيفة، تحت لافتة رخامية مكتوب عليها: «حسين منى وأنا من حسين»، عيونهم معلقة بالأبواب، بعد أن تجاوزت الساعة الثانية صباحا، تناولوا سحورهم، وحبسوا ببعض السوبيا من بائع أمام المقام، ولم يتبق لهم إلا الزيارة.

بعد تناول السحور على موائد باحة المسجد، اصطفت مجموعة فتيات على عربة التين الشوكى، وقبيل الثانية صباحا يتوجه معظم زوار المكان بعد تناول السحور إلى المقاهى، بعضهم يتجه مباشرة إلى مقهى الفيشاوى على باب خان الخليلى، وفى الطريق إلى «الفيشاوى» تصطف التذكارات الفرعونية وقوارير العطر الملونة، وفى مدخل المقهى، علقت زينة رمضان: أعلام مصرية صغيرة، وهى الزينة الأشهر منذ ثورة 25 يناير.

يجلس على مقهى الفيشاوى شاب سورى مع أسرته، لقد أتى إلى مصر لإجراء عملية لاستخراج رصاصات من جسده، يجلس داخل المقهى ويصدح صوته بمواويل شامية فى حب مصر، على نغمات عازف الكمان المصرى الذى يأتى كل مساء إلى المقهى ليعزف، وبين الحين والآخر يمر ماسح الأحذية: «تمسح يا بيه».

عجوز ستينى يمر بمسابح وصبى فى السادسة عشرة يحمل بين كفيه صفا ثقيلا من المجلدات الدينية، وأخرى لأشعار صلاح جاهين وأحمد مطر ومحمود درويش ونزار قبانى، مع اقتراب عقارب الساعة من الثالثة فجرا تبدأ الأقدام فى الرحيل عن المقهى، يتجه الجميع وجهتين لصلاة الفجر فى الجامع الأزهر ومسجد الحسين، حيث الصلاة والزيارة وراحة قلب المريدين، وقبل الثالثة بدقائق يفتح شيخ عجوز بعمة حمراء باب المسجد ليخلو الشارع من المارة، بعد أن اختفى الجميع داخل المسجد، الذى رسمت فوقه بالأنوار الخضراء آية تقول: «الله نور السموات والأرض».