«قلق وترقب».. تلك هى الحالة التى تسيطر على حياة الآلاف من سائقى وأصحاب سيارات النقل الثقيل «المقطورة» داخل المحافظة، خلال الأيام القليلة الماضية، خاصة مع اقتراب موعد تطبيق قانون المرور الجديد، الذى سيمنع -بحلول عام 2011- سير تلك السيارات بمقطورة، وسيلزم أصحابها بتحويل تلك المقطورة إلى «تريلاَّ»، خاصة بعد أن بدأت الحكومة –بحسب تأكيدات العديد منهم- تنفيذ توجيهات الرئيس «مبارك»، فيما يتعلق بضرورة الإسراع فى تطبيق القانون، بالإضافة إلى امتناعها عن تجديد التراخيص لهذه السيارات منذ العام الماضى.
المخاوف الكثيرة التى انتابت الأوساط المختلفة فى المحافظة بصفة عامة والاقتصادية بصفة خاصة، فى أعقاب التحذيرات التى أطلقها العديد من الخبراء المتخصصين فى هذا المجال، بشأن احتمالية تأثر جميع القطاعات بتطبيق هذا القانون على أرض الواقع -كانت سبباً رئيسياً لقيام «إسكندرية اليوم» بإلقاء الضوء عن كثب على هذه المشكلة، خاصة أن «العاصمة الثانية» تحتوى – بحسب تأكيدات الخبراء - على أهم وأكبر معاقل النقل الثقيل، نظرا لاحتوائها على مينائى الإسكندرية والدخيلة والعديد من المنشآت الصناعية والتجارية بها، بالإضافة إلى رواج أنشطة النقل البحرى بها.
مئات قليلة من الأمتار، تلك التى تفصل بين ميناء الإسكندرية وأحد أكبر مقار تجمع سائقى سيارات النقل الثقيل فى المحافظة، «الجراج» كما يطلقون عليه، حيث تناثرت مجموعة من السيارات على جانبى الطريق المحيط بخط الترام المواجه له، وإلى جوارها افترش أصحابها وسائقوها أرصفة الشارع، يتبادلون أطراف الحديث فيما بينهم وسط محاولات «يائسة» منهم لوضع تصور لما ستؤول إليه حياتهم عقب تطبيق القرار فى غضون أشهر قليلة.
وعلى مقربة من المقهى الملاصق لـ«الجراج»، وقف محمد سلامة، أحد سائقى سيارات المقطورة «الجرار» كما يطلقون عليها، وهو يشير إلى السيارات المتراصة على جانبى الطريق، وقال، «إن تنفيذ القرار سيتسبب فى خسائر مادية كبيرة لكل أصحاب السيارات والمقطورات، لأنه سيؤدى، بحسب قوله، إلى انخفاض فى حركة العمل، بالإضافة إلى أنهم مدينون للبنوك والشركات وملتزمون بسداد أقساط شهرية عن هذه السيارات بمبالغ تتراوح بين 5 و 15 ألف جنيه، «يعنى الموضوع من جميع النواحى خراب بيوت».
وأضاف «سلامة»: «كل الكلام اللى بيقولوه عن خطورة سيارات المقطورة على الناس والطرق غير صحيح، لأنه مفيش حد مش عارف إن الحوادث اللى بتتسبب فيها سيارات التريلا اللى عاوزين يعمموها فى كل مكان أخطر بكثير من حوادث المقطورة، ومش عارف مين اللى خلاهم يعملوا كده».
ووصف السيد مسعد، أحد السائقين، قرار إلغاء المقطورات بأنه «غير سليم» لما وصفه بـ»سطحية دراسته»، نظراً لأن الواقع العملى أثبت أن سيارات التريلا لا تصلح للاستخدام فى جميع الأماكن وكل الأعمال، و«التريلا لها شغل معين مثل المصانع و«الكونتر»، وكمان مينفعش أحمل عليها كل حاجة، لأنها تحتاج إلى مساحات وشوارع واسعة، وده طبعاً مش متوافر فى كل المحافظات، بعكس الجرار اللى من الممكن أحمل عليه أى حاجة وفى أى مكان، خاصة فى القرى والأرياف».
لم يَدُرْ فى مُخَيلة جودة عبد الحميد، صاحب 50 عاماً، أحد سائقى سيارات الجرار، أن يأتى عليه اليوم الذى سيُحرم فيه أبناؤه وزوجته من بعض الأشياء والمستلزمات التى يحتاجونها، التى لم يكن يستطع الاستغناء عنها منذ سنوات قليلة مضت - نتيجة ما وصفه بـ«اضطرار» مالك السيارة التى يتولى قيادتها إلى تحويل المقطورة الملحقة بقاطرته إلى سيارة «تريلا»، تطبيقاَ للقانون الذى أجبره على فعل ذلك، رغم الخسارة التى تعرض لها بسبب موافقته على عملية التحويل، حسب قوله.
مقارنة بسيطة لم تستغرق ثوانى معدودة تلك التى اضطرت «عبد الحميد» إلى التوقف عن حديثه معنا لبُرهة قصيرة، ليعود فى أعقابها إلى استكمال حديثه قائلا: «السائق الواحد من حوالى 4 أو 5 سنوات كان دخله فى الشهر بالإكراميات علشان المقطورة طبعاَ مش أقل من 2000 جنيه، ودلوقتى المبلغ قل، لأن الشغل مريَح على الآخر، ومش عارفين لما تبقى العربية من غير مقطورة إيه اللى هايحصل، بس اللى إحنا متأكدين منه إن ده هيخرب بيوتنا».
بعيون زائغة غُلِفت نظراتها بابتسامة قصيرة «صامتة» ارتسمت ملامحها على قسمات وجهه النحيل، وقف كرم جمعة سائق، على مقربة من الرصيف الذى افترشه المحرر إلى جوار بعض السائقين أثناء حديثه معهم، وهو يرمق الجُلوس بنظرات بَدَتْ حائرة ومليئة باستفسارات تبحث عن إجابة سريعة، لتزيل الغموض الذى أحاطها منذ اقترابه من تجمع السائقين حول المحرر، لكن هذه الحيرة لم تَدُمْ طويلاً فسرعان ما دفعه فضوله إلى الاقتراب بل والجِلوس على الرصيف، وهو يوجه حديثه إلى «إسكندرية اليوم» قائلاً: «مفيش فايدة من الكلام خلاص لأن وقته انتهى واللى كان كان، وزى ما بيقولوا الفاس وقعت فى الراس، والحكومة خلاص قررت تنفيذ الموضوع، وسواء النهاردة أو بُكره الشغل هيقل.. هيقل ومش هنلاقى ناكل ولا نشرب لا إحنا ولا أصحاب العربيات، وربنا يتولانا لما الرزق يقل».
وأضاف «جمعة»، الذى يعمل سائقاً لسيارة مقطورة منذ أكثر من 15 عاماً، أن التفكير فى الأيام المقبلة وما تخبئه له عقب تنفيذ هذا القرار جعله يشعر بالخوف على مستقبل أبنائه الخمس الملتحقين بالمراحل التعليمية المختلفة، خاصة أن الجميع اتفقوا على أن حركة العمل ستتأثر كثيراً بعد تطبيق القانون على أرض الواقع – وفق قوله.
وتابع: «الواحد بيعانى من دلوقتى، لدرجة إنى مش مُتخيل حياتى هتكون إزاى لو دخلى الشهرى قل عن اللى متعود عليه، وإن كان علىَ أنا مش فارقة معايا، لكن المشكلة فى الأولاد ومتطلباتهم والمستوى اللى كانوا عايشين فيه، يعنى لو حصل اللى أنا خايف منه سأضطر مثلا إلى عدم إعطائهم دروساً خصوصية، بالإضافة إلى احتمالية حرمانهم من شراء الملابس الجديدة فى المناسبات والأعياد وغيرها وغيرها.. مين عارف!».
واستطرد: «لما المقطورة تتشال هيروح منى أكثر من نصف المكسب، وعلى سبيل المثال لو كانت فيه حمولة للقاهرة بالجرار، مكسبى هيكون 100 جنيه، وإذا سافرت بـ«الوابور» أو «التريلا فمكسبى» مش هيزيد عن 40 جنيهاً بس، لأن ثلثى الحمولة هتكون مش موجودة وده طبعاً خسارة كبيرة، وخلاصة الموضوع إن العملية دى كلها عبارة عن ضحك على الدقون.. بس لحساب مين.. إحنا مش عارفين».
«النبرة التشاؤمية» التى غلبت على حديث «جمعة»، وَضَحَ أنها أصبحت سمة مميزة وقاسماً مشتركاً فى جميع الأحاديث وجلسات السَمَر التى تجمع سائقى وأصحاب الجرارات ببعضهم البعض فى الآونة الأخيرة، من منطلق مبدأ «الخوف على لقمة العيش»، وهو ما يؤكده محمد يوسف، صاحب المقهى - الذى يعتبره سائقو سيارات النقل الثقيل الوافدة على المدينة من مختلف الأقاليم والمناطق «محطة ترانزيت»- بقوله: «من يوم ما الحكومة قررت تلغى المقطورة وأصحاب الجرارات والسائقين والتَباعين اللى بيشتغلوا عليها حالتهم بؤس، ومفيش حد منهم مش خايف من اللى جاى لدرجة أن البعض منهم بدأ يدوَر على شغلانة تانية، خصوصاً لما ظهرت نية من بعض أصحاب السيارات ببيعها خشية تعرضهم للخسارة».
الوضع لدى مالكى سيارات الجرار، لم يختلف كثيراً عن الوضع المحتمل لسائقيها، وأكد محمود عبدالشافى، أحد المتضررين، أن تنفيذ القرار سيعرضهم لخسائر مالية «فادحة» من الصعب – بحسب قوله - تعويضها ولو بعد مرور 5 سنوات من عملية التنفيذ، فضلا عن احتمالية تعرضهم لعقوبة السجن، بسبب الأقساط المتبقية على هذه السيارات، «فمثلا الجرار لو بمليون جنيه بندفع منهم 250 ألفاً والباقى أقساط، وكل شهر بندفع 15 ألف جنيه».
وقال «عبدالشافى»: «أملك 20 جراراً بالمقطورة تمثل رأس مالى فى الدنيا دى، وإجبارى على تنفيذ القرار سيكون ضربة شديدة لى، لأنه مش من الممكن أن الجرار اللى اشتريته بـ 800 ألف جنيه، أدفع له 60 ألفاً كمان لتعديله وتحويله إلى تريلا ثمنها مش هايزيد على 500 ألف جنيه فى الأول والآخر، يعنى الخسارة أكيدة.. بس مين اللى يعوضنى عن ده كله».
وأوضح خالد سالم، صاحب شركة لخدمات النقل الثقيل، أن نحو 90% من السيارات التى تعمل فى مجال النقل الثقيل تجر معها مقطورات مجهزة حسب الحمولات، وأن كل سيارة منها تعتبر مصدراً رئيسياً للدخل لأكثر من أسرة بمن فيهم أسرة المالك والسائق والتباع وفنى الصيانة ومحال قطع الغيار، وبالتالى فإنه من غير المنطقى – وفق تعبيره – تطبيق هذا القانون، خاصة فى ظل استمرار معاناة السائقين من مضايقات الأمن ورجال المرور، نتيجة قيامهم بفرض الغرامات و«الإتاوات» عليهم فى الطرق سواء كانت بشكل شرعى أو تحت التهديد والإهانات – حسب زعمه.
وعلى الجانب الآخر، وصف فرج ابراهيم، نائب رئيس شعبة النقل بالسيارات فى الغرفة التجارية، القرار بـ«العشوائى»، لأنه سيضر – بحسب قوله - بمنظومة النقل فى المحافظة، وسيعمل على تشريد الآلاف من أصحاب المقطورات، الذين تحولوا – بحصب وصفه - إلى «فريسة» لأخطاء قرارات يتم إصدارها من قبل موظفين حكوميين ليست لديهم المعرفة الكاملة بحجم المعاناة التى ستقع على أصحاب وسائقى المقطورات فور تنفيذ هذا القرار.
وقال «إبراهيم»: إن تأثير تنفيذ القرار سيمتد إلى الشركات التى تعمل فى مجال النقل التى تمتلك عدداً كبيراً من المقطورات تمثل رأس مال تقدر قيمته بملايين الجنيهات، ما سيؤدى بدوره إلى تحول هذه الأموال - التى تمثل ثروة أصحابها - إلى أصول «خردة» لا تقدر قيمتها ببضع جنيهات ثمن الحديد الموجود فى هذه المقطورات عقب تخريدها.
وأضاف: «تحميل أصحاب المقطورات بمفردهم مسؤولية الحوادث يعد ظلماً كبيراً، وذلك لأن العديد من صانعى القرار حاولوا جعل المقطورة السبب الأول والأخير فى هذا الشأن من خلال تَعَمُد اعتبارها الشماعة التى تعلق عليها أخطاء الآخرين فى الحوادث الأخرى، مثل الحوادث التى تقع بسبب التريلات والسيارات الملاكى وكذلك القطارات».
وطالب بضرورة إعطاء الأجهزة التنفيذية التى ستشرف على تنفيذ القرار فى المحافظة الأولوية لموضوع تعويض أصحاب المقطورات، خاصة التى لاتزال عليها أقساط شهرية، بالإضافة إلى الرقابة على إدخال شركات القطاع الخاص وجعلها المتحكم الأول فى تحديد تكلفة تحويل المقطورة الى تريلا، وذلك لمنع المشكلات التى تطرأ عن هذا الأمر.
وشدد «إبراهيم» على ضرورة وجود جهة تمويلية تختص بتمويل أصحاب المقطورات بالمبالغ المالية اللازمة لعملية التحويل، خاصة أن البنك الذى كان من المفترض أن يقوم بهذا الغرض، لم تتم الإشارة إليه حتى الآن، ما تسبب – بحسب قوله - فى إثارة قلق أصحاب المقطورات، نتيجة تخلى الحكومة عنهم فى أعقاب إعلانها عن بدء تنفيذ القرار خلال ديسمبر 2011، فضلا عن أهمية تعديل قرار إعدام السيارات، بحيث يكون الإعدام وفقاً لصلاحية المقطورة ومدى جودتها، وليس وفقاً لعمرها الافتراضى.
من جانبه، أكد ثابت جابر، عضو مجلس إدارة شعبة النقل فى الغرفة التجارية، أن تطبيق القرار سيسهم فى زيادة تكلفة الناولون (النقل) بنسبة ستصل – وفق تقديره -إلى 100%، ما سيترتب عليه ارتفاع أسعار السلع الغذائية والاستراتيجية التى يتم نقلها باستخدام المقطورات، خاصة أنها تعد الوسيلة الوحيدة القادرة على ذلك الأمر، نظرا لعدم قدرة «التريلا» على حمل الكميات التى يتم تحميلها على المقطورة، حيث يمكن – بحسب تعبيره - نقل كمية تتراوح بين 50 و80 طناً من السلع الغذائية من خلال المقطورات، بينما لا يتعدى إجمالى الكميات التى تقوم التريلا بنقلها 30 طناً فقط، «وبالتالى ستتم مضاعفة قيمة وتكلفة عملية النقل خلال الفترة التى سيتم فيها تطبيق القرار».
وأشار «ثابت»، إلى أن التكدس أثناء عملية النقل سيصبح – بحسب قوله - السمة الغالبة بين التجار والمستوردين، فى حالة عدم التزام الحكومة بتحمل تكاليف عملية التحويل كاملة وتعويض أصحاب المقطورات عن طريق دفع الديون المتراكمة عليهم.
وأوضح السيد سلامة، رئيس شعبة النقل بالغرفة التجارية فى المحافظة، أن قرار تحويل المقطورة إلى «تريلا» «غير مدروس»، لأن تطبيقه سيسهم فى زيادة طول السيارة إلى حوالى 3 أمتار، ما سيؤدى إلى زيادة نسبة الخطورة على الطريق، خاصة أن طول المقطورة (الجرار) يبلغ 7 أمتار، بينما يتراوح طول التريلا بين 9 و10 أمتار، «ومن المتعارف عليه علمياً أنه كلما ازداد طول السيارة، حد ذلك من قدرتها على دخول عدد كبير من الأماكن، خاصة الضيقة منها وذلك بعكس المقطورة».
وأشار «سلامة» إلى أن المستفيد الأول من القرار هو مصانع الحديد، التى ستستفيد – بحسب تأكيده - من كميات الحديد التى ستنتج عن تخريد المقطورات، يليها الشركات التى ستقوم بعملية التحويل.
حذر محمد السيد، عضو شعبة مواد البناء فى الغرفة التجارية، من احتمالية زيادة أسعار الحديد والأسمنت عقب تنفيذ القرار، إذ سيحاول التاجر – بحسب قوله - تحميل المستهلك الأعباء المالية الناتجة عن عملية «التحويل» التى ستتكلف مبالغ مالية كبيرة، نظراً لأن تجار الحديد والأسمنت يعتمدون على المقطورات فى توزيع الكميات الموجودة لديهم التى يمتلكون منها عدداً كبيراً، وبالتالى فإن قرار التحويل سيكلفهم الكثير ولن يستطيعوا تحمل كل هذه النفقات بمفردهم دون إشراك المستهلك فيها.
فى المقابل، قال سامى مختار، رئيس مجلس إدارة الجمعية المصرية لرعاية ضحايا الطرق وأسرهم: إنه لابد من أن تتم معالجة مشكلة المقطورات وما تسببه من حوادث على الطرق بشىء من «الحكمة»، لأن عدم التروى فى هذا الموضوع من شأنه الإضرار بحركة التجارة الداخلية وبالتالى الاقتصاد كله، خاصة إذا تم تنفيذ القرار من جانب واحد فقط.
وأضاف «مختار»: «لابد من إيجاد البديل العاجل للمقطورات، بالإضافة إلى ضرورة تضافر جميع الجهود من أجل الانتهاء من تحويل المقطورات إلى تريلات، فضلاً عن الاهتمام بتطوير الطرق البديلة للطرق البرية، خاصة الطرق النهرية والسكك الحديدية لنقل البضائع، منعاً لتعطيل حركة التجارة الداخلية، وحفاظاً على الاقتصاد المصرى».
وتابع: «لحين الانتهاء من هذه الأزمة والبدء فى تطبيق القرار، لابد من تشديد الرقابة على الطرق، وتغليظ العقوبات والغرامات التى يتم تحريرها للسائقين فى حالة ثبوت مخالفتهم وعدم التزامهم بالسرعات المحددة لهم، بالإضافة إلى ضرورة استمرار عمليات الكشف الدورى عليهم، للتأكد من عدم تعاطيهم للمواد المخدرة».