الانتخابات جاءت بفرج «القواد» فى «زقاق المدق».. والشرطة مسؤولة عن التزوير فى «يوميات نائب فى الأرياف»
فى سنة 1937 أصدر توفيق الحكيم روايته «يوميات نائب فى الأرياف»، رغم أنها كانت يوميات لتجربة عاشها الحكيم بنفسه، إلا أن الانتخابات تظهر خلالها، وبعد عشر سنوات أصدر نجيب محفوظ سنة 1947 روايته زقاق المدق.
ورغم عزلة الزقاق عن العالم الخارجى، إلا أن الانتخابات تطرق أبوابه فى الفصل التاسع عشر، على أن الانتخابات هى التى تأتى بفرج إبراهيم، القواد الذى أخذ حميدة من حياة الزقاق الضيقة إلى الدنيا الجديدة، حيث ضاعت ولم تعد إلى الزقاق أبداً.
سؤالى هو: كيف تناولت الرواية المصرية الانتخابات؟ سؤال وجهته لنفسى مع أنه من المفترض توجيهه لنقاد الرواية، ولتراجعهم من حياتنا وإن تذكر أحدهم أو إحداهن صفة النقد انصرف لمجاملات لا أول لها ولا آخر.
ليس هذا موضوعى.. أعود لسؤال البداية، وأقول إن ظهور الانتخابات فى المشهد الروائى المصرى قليل، بل يصل لحد الندرة، هل لأن الانتخابات حدث موسمى؟ ربما يهل على بر مصر كل عدد من السنوات، لذلك نتذكره كلما جاء وننساه بعد أن يمضى، أو أن البعض يتعامل معه باعتباره مناسبة، والمناسبات تقتل الإبداع فى خيال المبدع. ولا يخرج منها أى إبداع.
لست بناقد ولذلك لا تنتظر منى إحصاء بتجليات ظهور الانتخابات برلمانية كانت أو رئاسية فى النص الروائى المصرى بشكل إحصائى، لكنى سأتوقف أمام نصين فقط. أظهرا الانتخابات تتصل فيهما عشر سنوات من النصف الأول من قرننا العشرين.
(1) يوميات نائب فى الأرياف:
النص الأول: رواية توفيق الحكيم الجميلة: يوميات نائب فى الأرياف، أعتبرها أجمل ما كتب توفيق الحكيم فى باب الكتابة الروائية، رغم أن «عودة الروح» ظلمتها ظلماً مبيناً، هل لأن جمال عبدالناصر قرأ «عودة الروح» عندما كان طالباً فى الكلية الحربية، حسبما اتضح من سجلات استعارة مكتبة الكلية الحربية؟! ربما.
«يوميات نائب فى الأرياف» نص لا يضاهيه أى نص روائى آخر لتوفيق الحكيم، وهو أقرب إلى روحه الفنية من «عودة الروح»، رغم أن «عودة الروح» ألهمت عبدالناصر فكرة القيام بالثورة التى غيرت وجه الدنيا مصرياً وعربياً وإسلامياً والعالم كله.
لا تعد الانتخابات موضوعاً للرواية ولكنها ترد فيها ضمن يوميات وكيل النيابة، باعتبار أن وكيل النيابة فى عمله يبدو شديد الالتصاق بالشرطة، وهى الجهة المنوط بها تنفيذ الانتخابات. بل وتزويرها إن تطلب الأمر إجراء مثل هذا التزوير.
ما إن يسمع النائب أن فى البلد أزمة وزارية، وأن ثمة إشاعة بأن هناك وزارة جديدة، وأن هذه الوزارة ناوية تجرى انتخابات جديدة حتى تطل علينا الانتخابات فى جو الرواية. والرواية مكتوبة ومنشورة فى العصر الذهبى لليبرالية المصرية. تلك السنوات الواقعة بين ثورتى 1919 و 1952. ورغم كل ما يقال عن الحريات العامة. فإن وكيل النيابة بعد أن يستمع لخبر الانتخابات الجديدة يكتب:
- ولم يعلق أحدنا على هذه الأخبار بشىء، فكلاناً يجهل ميول الآخر، كلانا يخشى أن يظهر رأيه الدفين.
ثم يعود وكيل النيابة إلى نفس المأمور. ليجده قد جمع العمد فى المركز لينبه عليهم بضرورة وجودهم فى الانتخابات، يقول لهم:
- فتح عينك انت وهو، مرشح الحكومة فى الانتخاب لازم ينجح، أنا نفضت إيدى وانتم أحرار، مفهوم؟
وتردد أحد العمد وقال:
- فيه يا جناب البك جماعة مشاغبين أقويا كلمتهم مسموعة من العائلة الثانية الكبيرة.
فدفعه المأمور فى كتفه وقال له:
- المشاغبين اتركهم لى أنا. تفضل.
وعندما يسأله وكيل النيابة عن جريمة القتل التى يحقق فيها يرد عليه:
- يعنى نترك الانتخابات ونلتفت للقتل والخنق؟.
ثم يقول للوكيل بشىء من التوسل:
- يا بك. الوقت بطال والسياسة متحكمة فى البلد. ما فيش داعى للتدقيق.
ونصل إلى الانتخابات يكتب النائب: نهضت فى الحال، ونهض المأمور معى وقلت مازحاً:
والانتخابات يا حضرة المأمور..؟.
عال.
ماشية بالأصول؟.
فنظر إلىَّ مليَّاً، وقال لى فى مزاح كمزاحى:
- حانضحك على بعض؟! فيه فى الدنيا انتخابات بالأصول!!.
فضحكت وقلت:
قصدى بالأصول: مظاهر الأصول.
إن كان على دى اطمئن.
ثم سكت قليلاً، وقال فى قوة وخيلاء:
- تصدق بالله؟ أنا مأمور مركز بالشرف. أنا مش مأمور من المآمير اللى انت عارفهم، أنا لا عمرى أتدخل فى انتخابات، ولا عمرى أضغط على حرية الأهالى فى الانتخابات، ولا عمرى قلت انتخبوا هذا وأسقطوا هذا، أبداً، أبداً، أبداً، أنا مبدئى أترك الناس أحرار تنتخب كما تشاء...
فقاطعت المأمور وأنا لا أملك نفسى من الإعجاب:
- شىء عظيم يا حضرة المأمور، بس الكلام ده مش خطر على منصبك؟ على كده... إنت راجل عظيم...
فمضى المأمور يقول:
- دى دايماً طريقتى فى الانتخابات: الحرية المطلقة، أترك الناس تنتخب على كيفها، لغاية ما تتم عملية الانتخابات، وبعدين أقوم بكل بساطة شايل صندوق الأصوات وأرميه فى الترعة، وأروح واضع مطرحه الصندوق اللى إحنا موضبينه على مهلنا.
- شىء جميل!.
قلتها فى شىء من الاستغراب ممزوج بخيبة الأمل، ولم أشأ أن أعقب على ما سمعت. ومددت يدى مسلماً. وخرجت وخرج خلفى المأمور يشيعنى إلى الباب الخارجى؛ وإذا بى أرى، وأنا أجتاز فناء المركز، شرذمة من الخفراء تتأهب للشحن فى «اللوريات»، ومن بينهم الشيخ عصفور بأسماله وعوده الأخضر؛ فالتفت إلى المأمور أسأله فى ذلك، فقال وهو يشير بيده إلى الرجال:
أنفار قايمة لحفظ النظام ساعة إعطاء الأصوات.
والشيخ عصفور ما له ومال الانتخابات؟!.
مواويله تؤثر على عقول الفلاحين!.
يعنى منتدب للدعاية!.
فابتسم المأمور ابتسامة المصادق على ملاحظتى، وابتسمت أنا أيضاً وأنا أضيف قائلاً:
- حتى الشيخ عصفور شغلتوه فى السياسة!.
فنظر إلىَّ المأمور نظرة ذات معنى، وقال فى تنهد:
- نعمل إيه بس!.
وفى هذه العبارة وهذا التنهد كل الكفاية فى جعلى أرثى لحال هذا المأمور وأقدر دقة موقفه ومسؤوليته أمام الرؤساء الذين يطلبون إليه نتائج معينة بالذات بكل الوسائل التى يراها مؤدية إلى الغرض، فإن أحجم أو تردد نكلوا به بغير رحمة ولا شفقة.
■ ■ ■
من باب التذكير فقط أقول إن نهاية الفيلم السينمائى الذى أخرجه عبقرى السينما المصرية: توفيق صالح وقام ببطولته الممثل الفذ أحمد عبدالحليم. جاءت نهايته عندما تم استبدال صندوق الأصوات الحقيقية بصندوق الأصوات المعدة بمعرفة المأمور حتى يتم التزوير من خلال استبدال الصناديق. المأمور يأخذ الصندوق المعد سلفاً. أما صندوق الأصوات الحقيقية. فتوضع عليه جثة الفتاة القتيلة «ريم» بعد إخراجها من الترعة. وهكذا تتساوى جثة الفتاة الغريقة بأصوات الناس الحقيقية بعد أن تم إرسال بديلٍ لها.
2- زقاق المدق:
فى الفصل التاسع عشر من رواية نجيب محفوظ: زقاق المدق. أى حوالى منتصف الرواية التى تقع فى 35 فصلاً. نقرأ وصفاً انتخابياً يكاد أن يلتهم الفصل كله:
- واستيقظ الزقاق ذات صباح على صخب وضوضاء. ورأى أهله رجالاً يقيمون سرادقاً على أرض خراب بالصنادقية فيما يواجه زقاق المدق، وانزعج عم كامل وظنه سرادق ميت فهتف بصوته الرفيع «إنا لله وإنا إليه راجعون، يا فتاح يا عليم يارب» ونادى غلاماً من عرض الطريق وسأله عن شخص المتوفى، ولكن الغلام قال له ضاحكاً:
- ليس السرادق لميت، ولكنها حفلة انتخابية!
فهز عم كامل رأسه وغمغم «سعد وعدلى مرة أخرى!» وكان الرجل لا يدرى شيئاً على الإطلاق عن عالم السياسة، إن هو إلا اسم أو اسمان يحفظهما دون أن يفقه لهما معنى. أجل إنه يعلق فى صدر محله صورة كبرى لمصطفى النحاس، ولكن كان ذلك لأن عباس الحلو ابتاع يوماً صورتين للزعيم ثبت إحداهما فى الصالون وأهدى الأخرى لصاحبه، ولم ير الرجل فى تثبيتها بدكانه من بأس، خصوصاً أنه يعلم أن هذه الصورة وأمثالها من تقاليد الدكاكين؟ ففى دكان الطعمية بالصنادقية صورتان لسعد زغلول ومصطفى النحاس وفى قهوة كرشة صورة للخديوى عباس، وراح الرجل يرمق العمال العاكفين على عملهم بإنكار وقد توقع يوماً صاخباً مرهقاً. ومضى السرادق يتكون جزءاً جزءاً، فنصبت الأعمدة، ووصلت بالطنب ومدت عليها الستائر، وفرشت الأرض بالرمل، وصفت المقاعد على جانبى ممر ضيق إلى مسرح أقيم فى الداخل عالياً، وركبت مكبرات الصوت على مفارق الطريق بين الحسين والغورية، وأجمل من هذا كله أن ترك مدخل السرادق بلا حاجز من ستار أو ظلة مما بشر أهل المدق بأنهم سيشاركون فى الحفلة من منازلهم، وفى أعلى المسرح علقت صورة كبرى لرئيس الحكومة، وألصقت بها من تحت صورة المرشح فرحات الذى تعرفه أكثرية أهل الحى لأنه كان تاجراً بالنحاسين. ودار فتيان بإعلانات وجعلوا يلصقونها بالجدران وقد سطر عليها بألوان زاهية:
انتخبوا نائبكم الحر إبراهيم فرحات
علــى مبادئ سعد الأصلية
زهق عهد الظلم والعرى
وجاء عهد العدل والكساء
وأرادوا أن يلصقوا إعلاناً بدكان عم كامل، ولكن الرجل الذى ترك غياب عباس الحلو فى نفسه أسوأ الأثر تصدى لهم ساخطاً وهو يقول:
- ليس هنا يا أولاد الحلال، هذا شؤم يقطع الرزق..
فقال له أحدهم ضاحكاً:
- بل تجلب الرزق. وإذا رآها حضرة المرشح اليوم ابتاع بسبوستك بالجملة، وأعطاك الثمن مضاعفاً وعليه قبلة.
وانتهى العمل عند منتصف النهار، وعاود المكان هدوءه المعهود. واستمر هذا حتى العصر، حين جاء السيد إبراهيم فرحات فى هالة من حاشيته ليعاين الأمور بنفسه، وكان الرجل لا يقبض يده عن الإنفاق، إلا أنه كان كذلك تاجراً لا يفوته الاطلاع على دقائق ميزانيته حتى لا يجوز عليه ما لا ينبغى أن يجوز. وقد تقدم القوم بجسمه البدين القصير، يرفل فى جبته وقفطانه، ويقلب فيما حوله وجهاً أسمر كروياً ذا عينين ساذجتين. كانت مشيته تنم عن الزهو والثقة، وعيناه تنطقان بالطيبة والسذاجة، ومظهره عامة يشى بأن بطنه أهم كثيراً من رأسه وقد أحدث ظهوره اهتماماً كبيراً فى الزقاق وما يحيط به لا لأنهم اعتبره عروس الليلة، وأملوا من وراء «زفته» خيراً كثيراً، خصوصاً أنهم لم يفيقوا بعد من الصدمة التى دهمتهم فى الانتخابات السابقة بفوز مرشح الدائرة بالتزكية!. ثم جاءت على أثره جماعات من الغلمان تسير وراء أفندى مرددة هتافات عالية، كان يصيح بصوت كالرعد «من نائبنا؟».. فيجيبونه بصوت واحد «إبراهيم فرحات» فيهتف ثانية «من ابن الدائرة؟» فيهتفون «إبراهيم فرحات» وهكذا، وهكذا، حتى امتلأ بهم الطريق، وتسرب منهم كثيرون إلى السرادق.
وجعل المرشح يرد الهتافات برفع يديه إلى رأسه، ثم اتجه نحو الزقاق تتبعه بطانته وجلها من رافعى الأثقال بنادى الدراسة الرياضى. واقترب من الحلاق العجوز الذى حل محل الحلو ومد له يده وهو يقول «السلام عليك يا أخا العرب». فانحنى الرجل على يده فى استحياء وترحيب، وتحول عنه إلى عم كامل قائلاً: «ألا تتجشم مشقة النهوض، حلفتك بالحسين إلا ما لزمت مكانك. كيف حالك.. الله أكبر.. الله أكبر، هذه بسبوسة فريدة، وسيعرف الناس جميعاً قدرها هذه الليلة».. وتقدم مسلماً على كل من لاقاه، حتى انتهى إلى قهوة كرشة، فحيا المعلم، وجلس ودعا رفاقه للجلوس، واستبق إلى القهوة كثيرون حتى جعده الفران وزيطة صانع العاهات. وردد المرشح نظره بين الحاضرين فى سرور، ثم قال مخاطباً المعلم كرشة:
- قدم الشاى للجميع.
وابتسم تحية لكلمات الشكر التى تناثرت عليه من كل حدب وصوب ثم التفت صوب المعلم قائلاً:
- أرجو أن تقوم القهوة بتقديم ما يحتاجه السرادق من الطلبات..
فقال المعلم كرشة بشىء من الفتور:
- نحن فى الخدمة يا سى السيد..
ولم يغب عن المرشح فتوره، فقال برقة:
- نحن جميعاً أبناء حى واحد، وكلنا إخوان..!
والحق أن السيد فرحات جاء القهوة خصيصاً لاسترضاء المعلم كرشة، ذلك أنه كان قد استدعاه قبل ذلك بأيام ليستميله إلى جانبه فيضمن صوته وأصوات من يلوذ به من المعلمين وعمالهم، وقدم له خمسة عشر جنيهاً مقدم أتعاب ولكن المعلم كرشة أبى أن يمسها، محتجاً بأنه ليس دون الفوال - صاحب قهوة الدراسة والذى ذاع أنه أخذ عشرين جنيهاً - منزلة، وما زال به حتى حمله على قبول المبلغ واعداً إياه بالمزيد. ثم افترقا والسيد مشفق من انقلاب المعلم عليه: والواقع أن المعلم كرشة لم يخل من غضب على «محدث السياسة» هذا على حد قوله، وأضمر له شر النوايا إذا هو لم يبادر إلى إصلاح خطئه. وكان المعلم كرشة يتيقظ - على غلبة الذهول عليه - فى المواسم السياسية. وقد اكتسب شبابه شهرة فى عالم السياسة تضارع ما اشتهر به بعد ذلك فى الأمور الأخرى! فاشترك فى ثورة 1919 اشتراكاً فعلياً عنيفاً، وقد نسب إليه الحريق الكبير الذى التهم الشركة التجارية اليهودية للسجاير بميدان الحسين، وكان من أبطال المعارك العنيفة التى دارت بين الثوار من ناحية وبين الأرمن واليهود من ناحية أخرى.
ولما أن خمدت الثورة الدموية وجد فيما جد من معارك انتخابية ميداناً جديداً على ضيقه لنشاطه وحماسته، فبذل فى انتخابات سنة 1924 جهداً مشكوراً، وصمد ببطولة لمغريات انتخابات سنة 1925 - ولو أنه قيل وقتذاك إنه قبل رشوة مرشح الحكومة ولكنه أعطى صوته لمرشح الوفد - وأراد أن يلعب الدور نفسه فى انتخابات صدقى - فيأخذ النقود ويقاطع الانتخابات - ولكن عيون الحكومة راقبته يوم المعركة، وحملته مع غيره فى لورى إلى مركز الانتخابات فخرج على إرادة الوفد مرغماً لأول مرة. وكان عام 1936 آخر عهده بالسياسة، فطلقها بعد ذلك وتزوج التجارة، ورصد الانتخابات فيما تلا ذلك من عهود، كما يرصد الأسواق النافقة، وانقلب نصيراً لمن «يدفع أكثر».
وجعل يعتذر عن مروقه بما طرأ على الحياة السياسية من فساد، قائلاً إنه إذا كان المال غاية المتنابذين فى ميدان الحكم فلا ضير أن يكون كذلك غاية الناخبين المساكين، وفضلاً عن هذا وذاك فقد لحقه الفساد هو نفسه، وغلبه الذهول، وركبته الشهوات، ولم يبق فى روحه من الثورات القديمة إلا ذكرى غامضة ربما كر إليها الخيال، فأشاد بها متباهياً فى بعض ساعات الصفاء حول المجمرة، ولكنه نبذ فى قلبه جميع قيم الحياة الشريفة، ولم يعد يعبأ بشىء من بعد ذلك إلا «الكيف» و«الهوى»، وما عدا ذلك «إردم» على حد قوله. لم يعد يكره أحداً، لا اليهود ولا الأرمن ولا الإنجليز أنفسهم. ولم يعد يحب أحداً كذلك، ولذلك كان من العجيب حقاً أن تدب فيه حماسة مفاجئة فى هذه الحرب فيتعصب للألمان، وأن يتساءل - فى هذه الأيام خاصة - عن موقف هتلر، أحقيقة قد أصبح مهدداً، وألا يجمل بالروس أن يسارعوا شاكرين لقبول ما يعرض عليهم من صلح منفرد؟! ولكن إعجابه بهتلر كان ينعقد حول ما يذيع عن بأسه وبطشه ليس إلا، فكان يعده شيخ فتوات الدنيا، ويتمنى له النصر كما تمناه طويلاً لعنترة وأبى زيد. بيد أنه ظل محافظاً على خطره فى ميدان الانتخابات، لأنه كان زعيم المعلمين الذين يتحلقون بمجمرته كل ليلة ومن يتبعهم من فعلة وصبيان وبطانات، ولذلك حرص السيد إبراهيم فرحات على استرضائه، ونزل عن ساعة طويلة من وقته الثمين يقطعها فى قهوته، متودداً مستعطفاً.
وكان يسترق إليه النظر، فمال على أذنه وسأله بصوت خافت:
- أراض أنت يا معلم؟.
فتدلت شفته عن ابتسامة، وقال فى شىء من التحفظ:
- الحمد لله، أنت الخير والبركة يا سى السيد.. فهمس فى أذنه:
- سأعوضك عما فاتك خيراً كثيراً..
وانبسطت أساريره وهو يقلب عينيه فى وجوه الحاضرين، ثم قال برقة ورجاء:
- إن شاء الله لن تخيبوا لنا أملاً..
فتعالت الأصوات فى وقت واحد تقول:
- معاذ الله يا سيد فرحات. أنت ابن خطنا..
فابتسم الرجل مطمئناً وأنشأ يقول:
- إنى كما تعلمون مستقل، ولكنى أستظل بمبادئ سعد الحقيقية، وماذا أفدنا من الأحزاب؟ ألا تسمعون مهاتراتهم؟ إنهم مثل (كاد يقول أبناء الحوارى، ثم ذكر أنه يخاطب بعضاً من هؤلاء الأبناء، فتدارك نفسه قائلاً): دعونا من ضرب الأمثال. لقد اخترت الاستقلال عن الأحزاب حتى لا يمنعنى مانع من قول الحق، ولن أكون عبداً لوزير أو زعيم، وسأذكر فى البرلمان إذا وفقنا الله للنجاح أننى إنما أتكلم باسم أبناء المدق والغورية والصنادقية. ولقد ولى عهد الثرثرة والنفاق، وهاكم عهداً لا يشغله شىء عن أموركم العاجلة، كزيادة الأقمشة الشعبية والسكر، والكيروسين، والزيت، وعدم خلط الرغيف، وتخفيض أسعار اللحوم.
وسأله سائل باهتمام شديد:
- هل حقاً تتوفر هذه الضروريات غداً؟.
فقال الرجل بثقة ويقين:
- بغير جدال. وهذا سر الانقلاب الحاضر، كنت أمس أزور رئيس الحكومة (ثم ذكر أنه قال إنه مستقل، فاستدرك قائلاً) وهو يستقبل المرشحين على اختلاف ألوانهم، فأكد لنا أن عهده هو عهد الكساء والغذاء.
وازدرد ريقه، ثم استطرد:
- سترون العجب العجاب، ولا تنسوا الحلوان إذا فزت فى الانتخابات.
فسأله الدكتور بوشى:
- الحلوان بعد ظهور النتيجة؟
فالتفت السيد نحوه وقال وقد داخله شىء من القلق:
- وقبل ظهور النتيجة أيضاً.
فخرج الشيخ درويش من ذهوله وصمته وقال:
- كالصداق له مقدم ومؤخر. إلا أنت يا ست الستات فلا صداق لك، لأن حبك روحى من السماء.
فتحول السيد إلى الشيخ منزعجاً، ولكنه سرعان ما أدرك حين وقع بصره على زيه - الجلباب ورباط الرقبة والنظارة الذهبية - أنه من أولياء الله الصالحين. فارتسمت ابتسامة على وجهه الكروى وقال برقة:
- أهلاً وسهلاً بسيدنا الشيخ.
ولكن الشيخ درويش لم يجبه بكلمة واستغرق فى ذهوله. ثم انبرى أحد تابعى المرشح قائلاً:
- لكم ما تريدون، ولنا القسم بكتاب الله، وبالطلاق..
فقال أكثر من صوت:
- وجب..
وأخذ السيد فرحات يسأل الحاضرين عن تذاكرهم الانتخابية، ولما سأل عم كامل أجابه:
- ليس لى تذكرة، ولم أشترك فى أى انتخاب على الإطلاق..
فسأله المرشح:
- أين مسقط رأسك؟.
فقال بغير مبالاة:
- لا أدرى..
وضج الجلوس بالضحك، وشاركهم السيد فرحات، ولكنه غمغم دون بأس:
- سأسوى هذه المسألة البسيطة مع شيخ الحارة.
وجاء فتى بجلباب حاملاً مجموعة من الإعلانات الصغيرة، فانتهز فرصة امتلاء القهوة بالجلوس وراح يفرق فيهم إعلاناته، وظن كثيرون أنها إعلانات انتخابية، فأقبلوا عليها باحتفاء مجاملة للسيد المرشح، وتناول السيد فرحات إعلاناً وقرأه فإذا فيه:
حياتك الزوجية ينقصها شىء.
عليك باستعمال عنبر السنطورى.
عنبر السنطورى
مركب بطريقة علمية خالية من المواد السامة، محلل بمعرفة وزارة الصحة رقم 128 وهو منعش ومفرفش ويعيدك من الشيخوخة إلى الصبا فى خمسين دقيقة.
طريقة الاستعمال:
خذ منه قدر القمحة على كباية شاى حلو كثير، فتجد عندك النشاط، ومقدار ربع الحق دفعة واحدة أقوى من جميع المكيفات، يسرى فى العروق كالتيار الكهربائى، اطلب علبة عينة من موزع الإعلان، الثمن 30 مليماً يا بلاش.
سعادتك بـ 30 مليماً، والمحل مستعد للاستماع لملاحظات الجمهور.
وضج المكان بالضحك مرة أخرى، وارتبك المرشح قليلاً، وتطوع أحد بطانته بالتسرية عنه فصاح:
- هذا فأل حسن.
ثم مال على أذنه وهمس قائلاً:
- هلم بنا، أمامنا أحياء وأحياء.
فنهض الرجل وهو يقول:
- نستودعكم الله، إلى لقاء قريب إن شاء الله، اللهم حقق الآمال.
وحدج الشيخ درويش بنظرة رقيقة وقال له وهو يهم بمغادرة القهوة:
- يا سيدنا الشيخ ادع لى.
فخرج الشيخ درويش عن صمته قائلاً وقد بسط ذراعيه:
- الله يخرب بيتك!.
وما آذنت الشمس بالمغيب حتى كان السرادق قد ضاق عن القاصدين وتناقل الحاضرون أن سياسياً كبيراً سيلقى خطاباً هاماً. وذاع أن شعراء وزجالين سيتبارون على المسرح، ولم يطل الانتظار فارتقى المسرح قارئ وتلا ما تيسر من الذكر الحكيم. وأعقبته فرقة موسيقية من شيوخ مهدمين مهلهلى الثياب فعزفوا النشيد الوطنى، وكان لإذاعة المكبرات لموسيقاهم أثر واضح فى دعوة الغلمان والصبية من الأزقة والحوارى حتى سدوا الصنادقية سداً. وتعالى الهتاف والضوضاء. وانتهى النشيد دون أن يبرح رجال الفرقة أماكنهم، حتى ظن أن الخطباء سيلقون خطبهم على أنغام الموسيقى.
ثم كانت المفاجأة السارة إذ دق بعضهم أرض المسرح حتى شمل الصمت الجمع المحتشد، ثم بدأ مونولوجست معروف فى لباسه البلدى، فما كادت تراه الأعين المحدقة حتى جن جنونهم فرحاً وسروراً، وراحوا يهللون ويصفقون، وقال المونولوجست وتفنن. ورقصت امرأة شبه عارية وهى تهتف المرة تلو المرة: «السيد إبراهيم فرحات.. ألف مرة.. ألف مرة». وجعل الرجل المشرف على المكبرات يصيح فى المذياع (السيد إبراهيم فرحات أحسن نائب. ميكروفون بهلول أحسن ميكروفون). واتصل الغناء بالرقص والهتاف، وانقلب الحى جميعاً إلى مولد.