خلال أيام الثورة، بكيت فى أول مرة انطلق فيها شعار «ارفع راسك فوق، إنت مصرى».. فهو بالفعل شعار مس جرحا لا أظننى كنت أعانى منه وحدى، ففى سنوات مبارك، كنت كلما دعيت لمؤتمر خارج مصر، أجد نفسى لا أكف عن الاعتذار عن سياسات ومواقف مخجلة يتخذها نظامه باسم بلادى، بكيت لأننى تمنيت أن أرى وطنى عزيزا وأكف عن الاعتذار.
لكن الشيخ على جمعة بزيارته للقدس يأبى إلا أن يجعلنا نظل نتوارى خجلاً حين يلمحنا أبناء الأمم الأخرى، والقضية هنا ليست مجرد أن الشيخ بزيارته للقدس المحتلة خالف الإجماع الوطنى، وإنما هى أنه قزّم مصر، تماما مثلما كان يفعل مبارك، بل جعلها تبدو وكأنها خارج التاريخ، فزيارة «مفتى الديار المصرية» للقدس مقطوعة الصلة تماما بما يحدث فى الأرض المحتلة وتسير فى عكس الاتجاه العالمى.
فالقدس التى زارها الشيخ تعانى الآن أكثر من أى وقت مضى من حمى استيطانية تسابق الزمن لتهويدها بالكامل، والاحتلال الإسرائيلى يزداد صلفا ووحشية كل يوم حتى إن مئات الأسرى الفلسطينيين فى سجون الاحتلال أعلنوا إضرابهم عن الطعام احتجاجا على الوحشية التى تم بها تعذيب زميل لهم، وفى اليوم نفسه الذى زار فيه الشيخ القدس، كانت قوات الاحتلال تُصعّد من قمعها ضد هؤلاء الأسرى لتجبرهم على وقف إضرابهم، بل أكثر من ذلك، زار مفتى مصر القدس بينما الأسير الفلسطينى مروان البرغوثى الذى يحظى بإجماع القوى الفلسطينية قد خرج لتوه من حبس انفرادى، لأنه تجرأ واعتبر عملية التسوية الميتة «وهمية» ودعا للمقاومة السلمية على غرار الثورات العربية.
والشيخ على جمعة زار القدس بينما العالم كله يزداد تحركا نحو مقاطعة إسرائيل للضغط عليها لإنهاء الاحتلال، فالحركة العالمية لمقاطعة إسرائيل صارت موجودة فى كل بقاع الأرض، وتزداد الدوائر التى صارت تقاطع إسرائيل من الأكاديميات والفرق الرياضية لعمال الموانئ والاتحادات التجارية، وقد انضم لدعوة المقاطعة رموز عالمية مهمة منهم الكثير من اليهود مثل الكاتبة الكندية اليسارية نعومى كلاين. بل أن من بين اليهود الأرثوذكس، نشر الكاتب الأمريكى بيتر بينارت مؤخرا مقالا فى الـ«نيويورك تايمز» يدعو لمقاطعة المستوطنات. أكثر من ذلك، فقد انضم للداعين للمقاطعة إسرائيليون مثل الخمسمائة مثقف الذين وقعوا بيانا يطالبون فيه العالم بمقاطعة بلادهم، وكل هؤلاء يدعون للمقاطعة ويمارسونها، لأنها صارت الحل الوحيد لإجبار إسرائيل على إنهاء الاحتلال، أسوة بالمقاطعة العالمية التى نجحت قبل عقود ضد نظام الفصل العنصرى بجنوب أفريقيا.
وإسرائيل تعتبر الحركة العالمية لمقاطعتها هى مصدر التهديد الأول لوجودها ذاته، لأنها تعزلها دوليا وتنزع الشرعية عن أكاذيبها، وقد ثبت بالفعل من خلال استطلاعات للرأى أجريت فى عشرات الدول تدهور صورة إسرائيل فى العالم، الأمر الذى دفع وزارة الخارجية الإسرائيلية لشن حملة علاقات عامة تنفق عليها الملايين وهدفها المعلن هو «صرف انتباه الرأى العام العالمى بعيداً عن الصراع» ورسم صورة جديدة لإسرائيل لا ترتبط فى أذهان الناس بالاحتلال والقتل والترويع وإنما بالتقدم والفنون والثقافة، والحركة العالمية لمقاطعة إسرائيل وكل الحركات الداعمة للحقوق الفلسطينية حول العالم تلعب دوراً جوهرياً فى فضح حملات تبييض وجه إسرائيل، فهى على سبيل المثال، من خلال الأساطيل التى كانت تحمل المساعدات الإنسانية لغزة، أعادت تسليط الأضواء على جريمة الحصار وجعلت القضية فى بؤرة الاهتمام الإعلامى.
وفى الوقت الذى كان يزور فيه مفتى مصر القدس المحتلة، كان هناك ألف وستمائة ناشط مناصر لفلسطين حول العالم قد عزموا على دخول الأراضى المحتلة لتسليط الأضواء على ما يجرى فيها. لكن ما إن وصل الفوج الأول إلى مطار بن جوريون، حتى تم ترحيل 12 ناشطاً فورا إلى بلادهم، بينما تم اعتقال باقى النشطاء الخمسين وتم إيداعهم السجون الإسرائيلية، أما الأفواج الأخرى، فلم تصل أصلا لأن شركات الطيران الدولية الكبرى تواطأت وألغت رحلاتهم بعد أن هددتها إسرائيل بتحميلها نفقات ترحيلهم إلى بلادهم. والجدير بالإشارة أن اثنين من الناشطين نجحا فى التسلل للأرض المحتلة فتعرض أحدهما وهو دنماركى كان يرتدى الكوفية الفلسطينية للضرب ببندقية إف 16، هوى بها جندى إسرائيلى على وجهه، فكانت فضيحة دولية بالصوت والصورة. ودلالة القصة كلها تدحض ما جاء على لسان المفتى من أن الذهاب للقدس دعم للمقدسيين، فزيارة الأرض المحتلة بهدف دعم الفلسطينيين ممنوعة إسرائيليا إلا إذا كانت من رموز عربية وإسلامية كبيرة يتم استغلالها لتبييض وجه الاحتلال.
وسط هذه الوحشية الإسرائيلية، وإصرار أصحاب الضمائر الحية حول العالم على فضح الاحتلال ومقاطعة إسرائيل لإجبارها على إنهائه، أين يا ترى محل زيارة المفتى من الإعراب؟ هى بالفعل زيارة خارج التاريخ والجغرافيا أيضا.
لذلك أدعو الشيخ للاستقالة فوراً من منصبه بدلا من أن ندعو لحملة شعبية لإقالته، فبعد الاستقالة أو الإقالة، يستطيع أن يقوم براحته بزيارات «خاصة» لأى مكان يعجبه فى العالم، أما وأنه اليوم مفتى الديار المصرية ويدفع راتبه المواطنون المصريون، فهو ليس حراً فى أن يقوم بزيارات تهدر كرامتهم حتى ولو كانت «خاصة»، كما يقول، والزيارة التى تتم بالتنسيق مع جيش الاحتلال الإسرائيلى وفى حمايته، كما كشفت الصحف الإسرائيلية، لا تكون زيارة خاصة. وإذا كان الشيخ قد وقف ضد ثورة يناير منذ يومها الأول، فها هو اليوم يهيل التراب على وجهها الناصع، بزيارته المخجلة، فلا أقل من استقالته أو إقالته حتى نرفع رؤوسنا.