بين «البرادعى» «وبينوشيه»

عمرو الزنط السبت 21-01-2012 08:00

«السياسة فن الممكن»، على عكس المستحيل.. هكذا كان يعرّفها لى والدى رحمه الله. ليس هناك جديد فى ذلك، بل تبدو هذه المقولة معادة لحد فقدان المعنى، لكنى أعتقد أنها أساس لأهم المفاهيم التى يمكن تعلمها فى الصغر. لقد تذكرتها عند مشاهدة إعلان زميله الأصغر فى وزارة الخارجية آنذاك - الدكتور البرادعى - عن تخلى الأخير عن الترشح لمنصب رئيس الجمهورية.. «البرادعى»، على الأقل من خلال نظرة أولية ساذجة، يبدو أنه يلعب فى مجال المستحيل، رغم ذلك فإن حتى تعامله العملى مع المجال الأخلاقى البحت كان مشبعاً بقدر هائل من التناقضات، فخسر الممكن والمستحيل معاً، على الأقل مرحلياً.

لا يمكن بالطبع إنكار دور «البرادعى» فى تفعيل شحنة الرفض التى فجّرت انتفاضة يناير الماضى، لكن الصحف المستقلة كان لها دور مهم أيضاً، ورغم ذلك لم تنسحب من الساحة الإعلامية وتغلق أبوابها لمجرد استمرار وجود قيود على حرية الإعلام وتبادل المعلومة.. ورغم أن «البرادعى» يقول إنه لن ينسحب تماماً، إنما سيعمل على مساعدة «شباب الثورة» وتوحيد عملهم السياسى، فلا أفهم بدقة ما المعنى المقصود وكيف سيتم تفعيله، والمسؤولية المرتبطة بذلك كبيرة، خاصة إذا تضمن المشروع المزيد من النداء للعمل من خلال الشارع، فأرواح الثوار يجب ألا تكون عُرضة لتجارب غير مدروسة بالقدر الكافى.

ولأن «البرادعى» قد تحمل الكثير من الهجوم وتعرض لبذاءات مذهلة فى قدر وضاعتها وإفلاسها، فربما يقودنا المنطق لاستنتاج أن «البرادعى» هو «غاندى» مصر وليس «نهرو»، المؤسس السياسى للهند، أى القائد الروحى وليس القائد السياسى للثورة، الرمز الأخلاقى التاريخى وليس الزعيم المنفذ.

لكن النظرة الأدق تشير - للأسف - إلى غير ذلك، على الأقل جزئياً. فالزعيم الهندى غاندى كان دائماً فى مقدمة الاحتجاجات ضد الاستعمار البريطانى، أما «البرادعى» فكان فى الخارج عند اندلاع المظاهرات فى ٢٥ يناير، رغم أن الموعد كان معروفاً مسبقاً للكل، ولم يعد إلا فى يوم ٢٨، ولم يلق أى كلمة يمكن تذكرها فى الميدان خلال الـ١٨ يوماً، رغم أن المنصات كانت موجودة، بل إن ما يمكن تذكره فى هذا الإطار، وما يتذكره العالم، هو نشيد رامى عصام الساحر، المستوحى من هتافات الجماهير، رامى عصام، الشاب الحر «أبو شعر طويل»، الذى دفع الثمن بعد ذلك فى هيئة الجلد والتعذيب.

ثم عندما جاء موعد الاستفتاء انسحب «البرادعى» أمام هجمات بعض المتطرفين. أعتقد أن أقل ما كان سيفعله «غاندى» لمواجهة هذا الموقف هو الانتقال لنقطة تصويت أخرى، أما المرجح فهو أن «غاندى» كان سيتحمل ويستمر ويخاطر ويتمكن من التصويت فى نفس المكان فى النهاية، وبعدها قد يلقى كلمة يتذكرها التاريخ، أما «البرادعى» فقد عاد إلى منزله دون الإدلاء بصوته.

مشكلة «البرادعى» لا تتعلق به وحده، أو بالدرجة الأولى ببعده عن جموع الشعب فكرياً.. على العكس، كان هناك مثقفون من سكان البرج العاجى، مثل التشيكى فاكلاف هافل، استطاعوا قيادة الثورات، لكنهم كانوا يتمتعون بوجودهم ضمن نخبة قوية تحترم مقامهم، وأيضاً يحترمهم الناس ويتطلعون لأن يقودوهم. أما «البرادعى» فوجد نفسه وسط مجتمع يصدق كل الاتهامات بالعمالة مادامت هذه العمالة للغرب (وأمريكا بالذات) حتى (وربما بالذات) إذا جاءت من قِبل جهات تصرف عليها الولايات المتحدة المليارات سنويا! فيجب ألا نظلم «البرادعى» كلياً، لأنه عمل وسط هذا العبث الخطابى السابح فى الصحراء الفكرية السائدة فى مصر..

 ربما يمكن لومه فقط لأنه تصرف فى النهاية كموظف بيروقراطى، يعرف أساليب الصراع فقط فى هذا السياق، ولا يعرف كيفية مواجهة قوة التسلط وجهاً لوجه، نداً لند، بطريقة مباشرة وفعالة. لكن - إذا نظرنا بدقة - من فى مصر يتمتع بهذه المهارات بعد ستة عقود من المجتمع المعسكر، الذى تعتمد فيه أبسط التعاملات اليومية على توازن القوة ومظاهر الهيبة (إنت مش عارف أنا مين؟) فى أى مكان من الإعراب يسكنه شخص صادق ومتواضع مثل البرادعى فى مجتمع يحترم من يمتلك القوة البحتة أو من يتقرب منها؟

سنرى على المدى الطويل إن كانت أخطاء البرادعى القاتلة ستدخله التاريخ كبطل تراجيدى تحدى المفاهيم السائدة، فانقلب عليه الناس لأنه كان مصدراً للتوتر فى عالمهم المعهود، والشعوب تختار القادة التى تستحقها.. فى كل الأحوال فإن الخروج من أطول فترة حكم معسكر متصل فى التاريخ المعاصر لن يكون سهلاً، ربما كل ما يمكن التطلع إليه هو «خروج آمن»، يشبه خروج الحكم المعسكر بقيادة «بينوشيه» فى شيلى عام ١٩٨٩.. والتحول هناك نحو الدولة المدنية مازال فى إطار التبلور، فى أحسن الأحوال، لأن السياسة هى فن الممكن.

amr@cita.utoronto.ca