خمدت النيران وانطفأت ألسنة اللهب، بقيت الأحزان ورائحة الموت والخراب، الضحايا يفتشون بين مخلفات الحرائق بحثا عن شىء يفيد لم يصله الدمار، دموع الحسرة تتساقط من وجوههم لتخالط الرماد، سواد القطع المتفحمة يكسو وجوه المشردين وملابسهم بلونه الحزين.
فى القرى المحترقة بالبحيرة والإسكندرية، يجلس العشرات يندبون ضياع تحويشة العمر وشقاء السنين، تحالف الإهمال مع الرياح فى مضاعفة مصيبتهم، شباب الخريجين يشكون انقطاع المياه والكهرباء، صرخاتهم لا تتوقف، لكن حتى الآن لم يجبهم أحد.
وفى «المناصرة» تضاعفت الأحزان بوفاة ضحية جديدة للحريق ليرتفع العدد إلى 4، أصحاب الورش والمحال يحاولون إعادة الحياة إلى المكان، بعضهم يفتش فى المخلفات، وآخرون ينظفون الشوارع، الأدخنة مازالت تتصاعد، الليلة الماضية تجددت النيران وتم إخمادها، «المصرى اليوم» عاشت لحظات الحزن مع المنكوبين ورصدت التفاصيل.
منازل بلا أسقف، ماشية وطيور نافقة، جدران وماكينات رى لم يخلُ مكان بها من آثار دمار ألسنة اللهب. بقايا أثاث وملابس وأجهزة منزلية متفحمة، أجولة قمح وأسمدة تبعثرت محتوياتها على الأرضيات الطينية، أدخنة مازالت تتصاعد من تحت الرماد متحديّة خطر الفناء بواسطة مياه الإطفاء، تحويشة عمر أصبحت تنتشر فى الهواء مشبعة بدخان الموت ورائحة تفحم الحيوانات والنبات التى تزيد اختناق الوجوه العابسة التى اختفت ملامحها خلف طبقة سميكة من الأتربة، وأحزان لا تجد متنفساً لها إلا فى عبارات الدعاء على المسؤولين المتسببين فى خراب بيوتهم.
أحوال الأهالى فى قريتى «شلتوت» و«الإمام مالك»، التابعتين لمحافظتى الإسكندرية والبحيرة، رصدتها «المصرى اليوم» طوال 6 ساعات قضتها داخل القريتين عقب إخماد الحرائق المفاجئة، التى اندلعت ظهر السبت، وأسفرت عن احتراق 19 منزلاً بالأولى، وقرابة 150 فى الثانية، فضلاً عن إصابة عشرات المواطنين باختناقات وجروح وحروق سطحية أثناء مشاركتهم فى عمليات إطفاء أهلية دامت أكثر من 3 ساعات.
عقارب الساعة تشير إلى الرابعة عصراً، الأوضاع فى قرية الشيخ محمود شلتوت، إحدى قرى شباب الخريجين التابعة لنطاق طيبة بقسم العامرية ثان بمحافظة الإسكندرية، والواقعة قرب الكيلو 63 بطريق «مصر- إسكندرية» الصحراوى، بدأت تعود إلى ما كانت عليه من هدوء قبل ساعات مع انصراف سيارات الإطفاء الثلاث التى حضرت للمساعدة فى إطفاء الحريق، وبدء توافد المسؤولين عن حصر الخسائر.
يُجمع الأهالى الذين انتشروا فى كل نواصى وشوارع القرية، أن سبب الحريق ماس كهربائى بمنزل جارهم عاطف حسن، «35 سنة»، عقب انقطاع التيار وعودته فجأة. ولم تُشر المعاينة المبدئية للأجهزة الأمنية المختصة إلى وجود رابط أو صلة بين حرائق القريتين.
يوضح محمد الحوتى، أحد جيران «عاطف»، الذى لم يكن متواجداً عند اشتعال النيران بمنزله، تفاصيل الواقعة، فيقول: «كنت نائما بجوار النافذة المطلة على الشارع، واستيقظت فى الواحدة والربع ظهراً على أصوات صراخ ورائحة دخان ونيران كثيفة بمنزل عاطف، لنفاجأ بامتدادها فى أقل من دقائق إلى عدة منازل مجاورة».
ينفث «الحوتى» دخان سيجارته، قبل أن يستطرد: «حالة الجو فى ذلك الوقت حيث الرياح الشديدة ساهمت فى انتشار الحريق، ولولا ستر الله لالتهمت النيران منازل القرية جميعها».
تتشابه غالبية منازل القرية ذات الأبواب الحديدية الصدئة فى تصميمها، حيث الطابق الأرضى الواحد، المسقوف بأخشاب أو مواسير حديدية مغطاة بأكوام من القش وطبقة طينية، والمحتوى على عدد من الحجرات، إلى جانب حظيرة واسعة لتربية الماشية والطيور. ويبلغ عدد المنازل الموجودة بالقرية نحو 400 منزل، يقطنها حوالى 3 آلاف شخص، وفقاً لثروت صقر، عضو الجمعية الزراعية.
انشغل المزارع سمير جامع، صاحب الـ45 ربيعاً، داخل منزله الذى يتكون من طابق واحد ويضم 5 حجرات بوسط القرية، فى جمع ما تبقى له من أثاث، بينما احتضنت زوجته أطفالها الثلاثة فى محاولة منها لتهدئتهم، وبارتباك وحزن شديدين يخطو «سمير»، باتجاه حظيرة مواشيه، وهو يعدد خسائره قائلاً: «أصبحت على الحميد المجيد، فالنيران التهمت كل ما أملك فى دنياى، 8 أبقار وماكينة رى، و3 أطنان من الذرة، وطنين من الأسمدة، بالإضافة إلى 11 إردباً من القمح».
ويصمت «سمير» للحظات يستمع فيها إلى كلمات المواساة من أبناء قريته وجيرانه دون أن يحرك ناظريه بعيدا عن ماشيته النافقة، لا يستطيع الوقوف طويلاً على قدميه فيلقى بجسده النحيل على كرسى متهالك، قبل أن ينتفض فجأة ليتجول داخل حجرات منزله التى امتلأت أرضيتها الخرسانية بمياه الإطفاء، وهو يردد: «عليه العوض ومنه العوض».
خسائر «سمير» بدت أقل من نظيرتها لدى جاره عامل اليومية عطية محمد عطية، البالغ من العمر 34 عاماً، والذى افترش جزءاً من أرضية منزله إلى جوار زوجته، وبضع دجاجات نافقة كان يمتلكها، وهو يحاول التغلب على نوبة البكاء التى انتابته عقب إخماد الحريق.
تنهمر دموع «عطية» بغزارة، ينتفض جسده بشدة، يلقى بكلتا يديه على قدميه الممددتين أمامه، كلما تطلع بعينيه ناحية حجرة نومه، التى أتت النيران على كل ما فيها من أثاث وأموال، ويقول: «بشتغل على دراعى باليومية، وعندى مشكلة فى صمام القلب، الناس بتزكى علىّ، وكنت محوش 10 آلاف جنيه وشايلهم فى الأوضة علشان أشترى بيت ملك، لكن النار أكلت كل حاجة ومش عارف هاعيش إزاى».
أما الوضع لدى الحاج محمد سعد عباس، المزارع، صاحب الـ69 عاماً، فلم يقتصر على الخسائر المادية فقط مثل جيرانه، لكنه امتد ليتضمن أخرى بشرية تمثلت فى إصابة نجله بكسر فى الذراع، عقب سقوط جسم صلب عليه أثناء مشاركته فى عملية إخماد الحريق بالمنزل.
لا يعرف «عباس» ما إذا كان سيتم تعويضه عن خسائره التى وصفها بـ«الفادحة»، لكنه يتمنى ألا يتجدد الحريق مرة أخرى، حتى لا يطال بقية منازل الغلابة، على حد تعبيره.
المأساة لها وجه آخر قاسٍ فى قرية الإمام مالك، التى تبعد عن «شلتوت» مسافة ساعة إلا ربع الساعة بالسيارة، وهى إحدى قرى ما يُعرفه الأهالى بـ«زمام الانطلاق» التابع لمنطقة وادى النطرون بمحافظة البحيرة، والواقعة بالقرب من الكيلو 107 طريق «مصر- إسكندرية» الصحراوى، خاصة مع تزايد رقعة الحريق وتجاوزها نحو 150 منزلاً.
نحو ربع الساعة تقطعها السيارة من «الصحراوى» عبر طريق غير ممهد، تضعك فى قلب الأحداث وسط المنازل المنكوبة، حيث افترش بعض أصحابها الأرض محاولين التقاط الأنفاس عقب تمكنهم من إخماد الحريق بمساعدة سيارات إطفاء تابعة للجيش ومحافظتى البحيرة والمنوفية، فيما انشغل آخرون بالبحث عن بقايا متعلقاتهم وسط أنقاض وأكوام الرماد.
داخل حجرة لا تتجاوز مساحتها «مترين فى مترين»، 4 سيدات جلسن على حصيرة بالية يتجاذبن أطراف الحديث مع جارتهن «أم محمد»، ربة المنزل، يحاولن مواساتها على مصابها، الذى فقدت بسببه رأس مالها من محصول القمح و6 رؤوس ماشية.
تتمنى «أم محمد»، التى لم تجف دموعهما طوال حديثها مع «المصرى اليوم»، أن يتم تعويضها عن كل ما خسرته بسبب الحريق، حتى تستطيع استكمال رحلة الإنفاق على أولادها الأربعة، التى بدأتها منذ وفاة زوجها قبل 5 سنوات.
«بيوتنا اتخربت واللى كان كان».. هكذا لخص ماهر البنا، الشاب الثلاثينى، مأساة أصحاب المنازل المحترقة بالقرية، التى قال إن عدد سكانها يتجاوز الـ10 آلاف نسمة.
يتسلق «البنا»، سطح حجرة نومه، يتوارى عن الأنظار بضعة ثوان، قبل أن يظهر ممسكاً بمجموعة من «أكواز الذرة»، وهو يصرخ: «اللى حصل ده مايرضيش ربنا.. إحنا مش عارفين هانعيش إزاى ولا هانصرف منين بعد ما كله راح».
وتتعدد روايات أهالى القرية بشأن سبب الحريق، الذى تسبب فى إصابة نحو 50 شخصاً.
التركيبة الاجتماعية للقرية فسرت تعاطف كثير من سكانها مع جيرانهم المتضررين، حيث أصبح من الطبيعى أثناء تجولك فى الشوارع أن تجد مدخل أحد المنازل مكتظاً بالبقايا التى استخرجها الأهالى من أسفل الرماد دون أى تذمر من قبل ساكنيه.
ولم يقتصر الأمر على استضافة بقايا المتعلقات، لكنه امتد لقيام عدد من الأسر بتسكين بعض المنكوبين داخل إحدى حجرات منازلهم لحين تحسن الأوضاع.
يمر الوقت سريعاً، تتصاعد حالة الهياج لدى أصحاب المنازل المحترقة بسبب تفاقم الخسائر، لتعلو المطالب بقطع الطريق الصحراوى احتجاجاً على تأخر وصول سيارات الإطفاء، وعدم وجود وحدة دفاع مدنى قريبة من قرى الخريجين.
دقات الساعة تشير إلى اقترابها من الخامسة مساءً، يندفع العشرات من شباب وأهالى القرية ناحية «الصحراوى»، يفترش بعضهم الطريق، بينما يضرم آخرون النيران فى عدد من إطارات السيارات، مما تسبب فى قطعه لأكثر من 4 ساعات، حتى تدخل عدد من المسؤولين لإقناعهم بضرورة فتح الطريق، ووعدهم بتنفيذ مطلبهم وتعويضهم.