فى الوقت الذى كان العالم فيه منشغلا بالانتخابات الأمريكية، وتأثير نتائجها على النظام الدولى وعلى مكانة الولايات المتحدة، اجتمع الحزب الشيوعى الصينى، وأصدر ما يعرف بالخطة الخمسية الرابعة عشرة، والتى تضمنت مجموعة من الأهداف الداخلية والخارجية، والتى سوف تترك تأثيرها الكبير على المعادلة الاقتصادية والاستراتيجية فى العالم، وبغض النظر عن نتائج الانتخابات الأمريكية.
مفهوم الخطة الخمسية ازدهر فى العالم وفى مصر فى مرحلة المد الاشتراكى فى الخمسينيات والستينيات، ولكنه اندثر بعد ذلك مع التحول الرأسمالى فى العديد من الدول، وزيادة دور القطاع الخاص على حساب دور الدولة، ولكن الخطط الخمسية لاتزال موجودة بالصين، ولعبت دورا كبيرا فى تحقيق تقدمها خلال العقود الماضية، ويتم استخدامها كخريطة طريق لتحقيق الأهداف الكبرى للدولة الصينية وتعبئة طاقتها، ويشارك فى تنفيذها كل القطاعات، العامة والخاصة، وتأتى مدخلاتها من جهات كثيرة، منها مراكز الفكر والأبحاث، والجامعات، والمهنيين، والاقتراحات التى يقدمها ملايين المواطنين.
الخطة الخمسية الجديدة وضعت لنفسها هدفا رئيسيا، وهو تحقيق القيادة الصينية لاقتصاد العالم، كما جاءت انعكاسا لعدد من التطورات التى شهدها العالم خلال السنوات الماضية، خاصة محاولات إدارة الرئيس الأمريكى ترامب لحصار الصين وإعاقة صعودها الدولى.
الخطة تتضمن العديد من الأهداف الاستراتيجية، ولكن استوقفنى منها ثلاثة أهدافها سوف يكون لها تأثير كبير على مكانة الصين وموازين القوى فى العالم فى السنوات القادمة.
أول هذه الأهداف هو تخطيط الصين للاعتماد فى نموها الاقتصادى على السوق المحلية وليس فقط على التصدير، فلسنوات كثيرة كان اعتماد الاقتصاد الصينى الأساسى على التصدير للخارج، وأصبحت أكبر دولة مصدرة فى العالم، ولكن جاءت جائحة كورونا وأوقفت حركة التجارة العالمية وأغلقت الأسواق الخارجية، كما أدى تصاعد النزعات القومية والشعبوية والمعادة للعولمة إلى وضع قيود على دخول المنتجات الصينية إلى العديد من أسواق العالم، ومن ثم وضعت الخطة الخمسية هدفا لتوسيع السوق المحلية وزيادة القوة الشرائية لمستهلكيه الصينيين (يبلغ حجم الطبقة المتوسطة فى الصين أربعمائة مليون مواطن) كى يكون عوضا عن أى أسواق خارجية، وكى تستمر عملية النمو الاقتصادى حتى لو انخفضت الصادرات.
الهدف الثانى هو تحقيق الاستقلالية التكنولوجية، أو المزيد من الاعتماد على الذات فى مجالات العلم والتكنولوجيا، بمعنى تطوير الصين لقاعدتها التكنولوجية الخاصة بها، والتى سوف تستخدمها فى تنفيذ خطتها الاستراتيجية لإنتاج السلع عالية الجودة التكنولوجية، والتى مازال الغرب يتمتع فيها بمزايا نسبية، وجاء هذا الهدف ردا على قيام الولايات المتحدة والعديد من دول الغرب بفرض عقوبات على شركات التكنولوجية الصينية، ووضع قيود على تصدير بعض أنواع التكنولوجيا المتقدمة للصين.
أما الهدف الثالث فهو تحقيق أكبر قدر من الانفصال عن الولايات المتحدة، فالاقتصاد الصينى مازال يعتمد بشكل كبير على السوق الأمريكية، ولكن الحرب التجارية التى شنتها إدارة ترامب، وتبنى هدف الانفصال الاقتصادى عن الصين، جعل الصين هى الأخرى تتبنى نفس الهدف فى مواجهة الولايات المتحدة.
نحن إذن أمام عملية تحول ضخمة، ورغم الصخب حول الانتخابات الأمريكية وتأثير نتائجها على مكانة الولايات المتحدة بالعالم، فإن الصين تعمل بهدوء، وتستوعب دروس الماضى، وتؤمن بمقولة من يريد أن يكون كبيرا يضع لنفسه أهدافا كبرى.