يحتفظ الإنسان فى ذاكرته بالأحداث أو المشاهد أو التجارب التى تستعصى على النسيان عكس معظم ما تحفل به حياة كل منا.. ومن بين المشاهد التى لا أنساها، مع أننى كثيرة النسيان، ذلك الذى جمعنى بأحد كبار الإقطاعيين فى منزل عائلة زوجى الكاتب الراحل على الشوباشى، وكان يمت لنا بصلة قرابة، عندما كنا نتابع إحدى جولات زعيم ثورة يوليو جمال عبدالناصر خارج البلاد.. كانت صورة كبيرة له تتصدر صحيفة الأهرام وهو يحيى الجماهير، (حيث لا يعرف الجيل الذى شب على تناول سب عبدالناصر مع كل الوجبات يومياً أن شعبية هذا الزعيم امتدت إلى كل بقعة كان أبناؤها يتطلعون إلى الحرية ويرون فى ثورة يوليو وقائدها نموذجاً يحتذى)، قال الإقطاعى ساخطاً وبذيئاً: ابن البوسطجى.. ابن الـ... جعل للفلاح سعراً، فقد كنا نربطه فى شجرة ونطلق عليه طلقتين فيموت مثل «القطة» دونما أى حساب!!..
أفزعتنى عبارات الرجل كما أفزعتنى تعبيرات وجهه التى تنضح بالغل والوحشية، واستجمعت شجاعتى لأجيبه: تعرف يا عمى فلان.. أن السبب الذى من أجله تكره أنت عبدالناصر كل هذه الكراهية، هو تحديدا السبب الذى من أجله أحبه أنا - نظر لى الرجل شزراً وحمدت الله لحظتها أنه يعرف ما ينتظره من «حساب» إذا ما نهض وخنقنى.
مشهد آخر من مشاهد يوليو، فقد كنت أسكن مدينة حلوان، وأمام مسكننا وعلى الطرف المقابل يسكن أحد كبار الباشوات الذى دخل وزارات عديدة.. وكان ممنوعاً على المارة السير على الرصيف الذى به قصر الباشا بل كنا ننزل إلى نهر الشارع حتى لا «نلوث» رصيف معاليه أو سعادته أو فخامته.. وكأن القرار يوقظنا من وهم انتمائنا إلى البشر، ومن ثم فإن «انتهاك» قدسية رصيف الباشا أمر مجرّم!
بعد أشهر قليلة من قيام الثورة وربما بعد أيام، لا أتذكر تماماً، أطلقت أمى زغرودة مجلجلة إثر سماعها نبأ «إلغاء الألقاب»، لأننا جميعاً مواطنون مصريون، لا فرق بين أحدنا والآخر إلا بالتقوى والعمل والإنتاج والصدق والأمانة والتعليم الراقى وأشياء كثيرة أخرى لا «يمنحها» الحاكم حسب مزاجه.. بعد هزيمة يونيو، التى لا أدرى لماذا يغفل أعداء «العدالة الاجتماعية» أن إسرائيل وبدعم أمريكى خاصة وغربى عموماً بالسلاح والمال والبشر، قد حققت نصراً عسكرياً توهمت أنه مكّنها من الوطن العربى إلى الأبد، وكأن عبدالناصر هو الذى اعتدى عليها.. مع أنها اغتصبت أرضاً فلسطينية عربية.. أقول بعد هزيمة يونيو، هب الشعب المصرى ومعه كل الشعب العربى لرفض الهزيمة والإعلان عن إصراره على تحرير الأرض..
يبكى هؤلاء دموع التماسيح على «ضياع» سيناء وكأنهم كانوا يكرسون لضياعها، بينما بعث زعيم فرنسا الراحل العظيم شارل ديجول برسالة لعبدالناصر جاء بها: «إن النصر والهزيمة فى المعارك ليسا سوى أحداث عابرة فى تاريخ الأمم، وإن الشجاعة الحقة تكون فى مواجهة المصائب»، والمهم أن ديجول قارن فى خطابه هذا بين ما جرى لمصر فى 1967 وما حدث لفرنسا عام 1940 عندما هزمتها واحتلتها القوات النازية، نفس الملايين التى رفضت الهزيمة وقررت العبور هى ذاتها التى ودعته فى يوم الرحيل، ولن أنسى ما ردده بائع متجول: «ده حبيب الغلابة!» والغلابة هم الأغلبية الساحقة التى انضمت إلى ثورة الجيش فى 52 والتى انضم الجيش إليها فى 2011، ويبدو أنه مكتوب على يوليو أن يشهد انتصار يناير!