تنطوى التحقيقات التى جرت مع المتهم محمد حسنى مبارك على ثغرات كثيرة. ولأن التهم الموجهة إلى رئيس مصر المخلوع كثيرة، ومنها التهمة الخاصة بسرقة وتبديد أموال عامة، لم تتطرق التحقيقات إلى التفاصيل، ولم تقم باستدعاء كل الشهود الذين كان بوسعهم إلقاء مزيد من الأضواء على ملابسات القضايا موضوع التحقيقات ومعرفة حجم النهب الذى تعرضت له الأموال العامة فى مصر طوال الأعوام الثلاثين السابقة.
من بين القضايا التى لم تحظ بالاهتمام الكافى قضية أموال التبرعات الأجنبية لبناء مكتبة الإسكندرية. ومن المعروف أن مبارك قد فتح حسابا باسم مكتبة الإسكندرية بالبنك الأهلى، فرع مصر الجديدة، وحظر التصرف فيه سحباً أو إيداعاً إلا بتوقيع شخصى منه. وقد ثبت فى محضر التحقيقات التى أجريت مع مبارك أن إجمالى الودائع الموجودة فى هذا الحساب عند تاريخ تجميدها (22/2/2011) بلغ 143 مليونا و277 ألفاً و314 دولاراً أمريكياً، إضافة إلى رصيد بالحساب الجارى بمبلغ 3704 دولارات أمريكية، وآخر بالحساب الجارى بالجنيه المصرى قدره 1299 جنيهاً.
وعندما سأله المحقق: «لماذا اختصصت نفسك بالتصرف فى حساب مكتبة الإسكندرية بالبنك الأهلى فرع مصر الجديدة، سحباً وإيداعاً، ولم تترك ذلك للمسؤول عن المكتبة آنذاك؟»، أجاب مبارك: «لم تكن المكتبة موجودة فى وقت فتح الحساب وتم جمع هذه التبرعات من أجل إعادة إنشائها مرة أخرى». وعندما سأله المحقق ثانية: «ولماذا لم تترك حق التوقيع لوزارة التعليم العالى، الجهة التابعة لها الهيئة العامة لمكتبة الإسكندرية وقت التبرع؟»، أجاب مبارك: «ضمانا للإنفاق منها على مشروع المكتبة فقط وحتى لا تندمج فى ميزانية الدولة ولا يستخدمها وزير التعليم العالى فى جهات أخرى!!!».
وهنا كان من الطبيعى أن ينتبه المحقق إلى أن المكتبة افتتحت رسميا عام 2002، أى منذ حوالى عشر سنوات، فسأله: «ولماذا لم يتم تحويل هذه المبالغ إلى حسابات مكتبة الإسكندرية التى أنشئت وفقا للقانون رقم 1 لسنة 2001؟»، فأجاب مبارك: «أنا ماكنتش أعرف هذا الموضوع لأن القانونيين لم يقولوا لى!». فسأل المحقق: «هل تم إخطار مدير مكتبة الإسكندرية بأمر فتح هذا الحساب؟»، فأجاب المتهم: «أنا لم أخطره، لأنه لو كان عرف كان حيطلب ياخدها للمكتبة!!!».
تجدر الإشارة إلى أنه تم استدعاء الدكتور إسماعيل سراج الدين فى حينه لسؤاله عن هذا الحساب، فأنكر علمه به، وكان الرجل صادقا تماما، لكن لم يتم استدعاء الدكتور مفيد شهاب، وزير التعليم العالى وقتها، رغم أنه الشخص الذى كان يجب استدعاؤه وقتها بدلا من الدكتور سراج الدين، وذلك لسببين، الأول: لأنه كان يعلم يقينا بوجود وحجم هذه التبرعات التى كانت علنية ومعلنة وليست تبرعات سرية، والثانى: لأنه كان المسؤول رسمياً عن متابعة عملية بناء المكتبة مع اللجنة أو الهيئة التى شكلها بنفسه لهذا الغرض.
لقد كان الأحرى بالمسؤولين عن ملف الفساد فى عهد مبارك أن يأمروا بتشكيل لجنة تحقيق لفحص كل حسابات المكتبة. فهناك شكوك قوية الآن بأن مبارك استولى لنفسه على أموال التبرعات الأجنبية التى وصلت لبناء المكتبة، وذلك بعلم وزير التعليم العالى وموافقته حتماً، كما أن هناك شكوكاً بأن الوزير المختص ربما يكون قد قام بالصرف على المكتبة من الميزانية العامة أو من ميزانية وزارة التعليم العالى، إما للتغطية على مبارك وإما لأنه - أى الوزير - لم يجرؤ على طلب هذه الأموال من رئيس الدولة.
مبارك وحده ليس هو المسؤول عن نهب وتبديد أموال مصر، فقد شاركه فى هذه الجريمة كثيرون. ومن واجب القائمين على إدارة شؤون الدولة فى هذه المرحلة أن يقدموا هؤلاء جميعا إلى المحاكمة. فمتى يتم ذلك؟